سبق أن أشرنا في مقال عن “جامعة المستقبل” لتقرير “تعلّمْ لتكون” الشهير، الذي شغل الناس في المؤسسات الأكاديمية والفكرية في ستينات القرن الماضي، لأنه دعا إلى الاتجاه الإنساني العلمي. ذلك الاتجاه الذي يلحق التربية بمسيرة العلم، ويستوجب أن يكون مركز الاهتمام فيه هو الإنسان، ويضع من ثم شرط الحرية كضرورة لازمة لا غنى عنها في مؤسسات التعليم الأهلي والحكومي. ويعي التربيون والأكاديميون أهمية الحرية لإنتاج المعرفة، ويقدرون أهمية هذه المعرفة للإرتقاء بحياة الإنسان. وثمة مؤشرات بازغة يمكن التنبيه إليها في تحديد ما تقدمه مؤسسات التعليم العام والعالي، وبخاصة الجامعات، من خدمات تجل عن الوصف، وهي التي تسهم بشكل مستمر في تنمية المجتمع وبناء مقومات النهوض فيه. ويوصف أي مجتمع بالتقدم بمدى الاهتمام، الذي توليه الدولة والمجتمع للبحث والدراسات، والاعتماد على وسائل الاتصال الحديثة، ودخول المعرفة بشكل حاسم في عمليات التنمية والتحفيز الاقتصادي، والقدرة التنافسية في مجال إنتاج ونشر المعرفة على مستوى المجتمع والعالم. ومع أهمية هذه العناصر المذكورة، فإن العنصر الأساسي المميز لهذا المجتمع المتقدم هو المبادرات غير التقليدية، التي تقوم بها الكليات والجامعات لتنشيط عقل وحركة المجتمع، أو الإسهام المباشر في جهده التنموي الحافز للتغيير. وللتمثيل الذي لا يلغي تقدم الآخرين وحضورهم في مجال المبادرات القومية، ذهبت كلية الحاسبات الآلية، المعروفة ب”كمبيوترمان”، بمبادرات أقل ما يمكن أن توصف به أنها غير تقليدية، وغير مسبوقة في إتجاهها وهدفها، أكدت بها إدراك المؤسسات الأكاديمية لما يجري من جهد تنموي ينتظم السودان، قصرت فيه الدولة عن فروض تمامه، وتراجعت فيه المبادرات الأهلية عن كفاية المشاركة الواسعة في شمول إنجازه. فقد أطلقت كلية “كمبيوترمان”، بالتعاون مع العالم المصري الأستاذ الدكتور فاروق الباز، الذي هو عضو في مجلس إدارتها، مبادرة حفر ألف بئر في دارفور، حفزا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وتشجيعا للتنمية، وترسيخا لعرى السلام في الإقليم. وتعضيدا لها قدم الدكتور أبوبكر مصطفى، رئيس مجلس الكلية، مبادرة أخرى للسيد رئيس الجمهورية، المشير عمر حسن أحمد البشير، تتلخص في التبرع بألف منحة دراسية، تتكفل فيها “كمبيوترمان” بتدريب وتأهيل وتنمية قدرات ألف مهني من دارفور، والأقاليم الأخري، وعلى مدى الخمس سنوات القادمة، ليكونوا أدوات دفع مؤهلة للتنمية. إن إحدى الركائز الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد الحديث، هي التأهيل والتدريب والتطوير، الذي تحل فيه المعرفة محل العمل اليدوي, أي أن تلعب تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وغيرها من أساليب ونظم التقنية المتقدمة، الدور الرئيسي في التنمية الاقتصادية, فهي التي تساعد على قيام مجتمع السلم، وتعطيه مقوماته. فالمعرفة بأساليب العمل الحديثة تعتبر من أهم عوامل الإنتاج, ومن هذه الناحية فإنها تفوق كل الطرق القديمة في النشاط الاقتصادي. فالذي يحدد قيمة التدريب والتأهيل والتطوير هو الجامعات، التي يتوفر لديها الابتكار والفكر الكامن وراء إيداع المبادرات الخلاقة. وتكمن أهمية مبادرتي “كمبيوترمان” في ما تنطويان عليه من دلالات حافزة للتفاؤل بتدخل مؤسسات إنتاج المعرفة في تفعيل الاستفادة من هذه المعرفة في المناطق الأكثر حاجة إليها، ولأنها مبادرات تؤشر علي بداية لتغيير قادم، وأنها المرة الأولي التي تبادر فيها مؤسسات التعليم الأهلي بهذا المستوي الداعم والملازم لجهد الدولة الرسمي. ومن هنا، تعزز الأمل بأن تكون المبادرتان سابقة يمكن التأسيس عليها لتقليد جديد يتسم بالمزيد من انفتاح مؤسسات التعليم العالي الأهلي والحكومي على قضايا المجتمع والاستجابة المباشرة للملح من احتياجاته التنموية والمعرفية. ولقد جاءت فكرة إنشاء كلية “كمبيوترمان”، ذاتها، كمبادرة أكاديمية تنموية رائدة، وإسهاما أهليا في تعزيز قيمة البناء المعرفي الوطني، بشروط ثورة العصر التكنولوجية، ولتطرح برنامجاً علميا أكاديميا يعين الدولة والمجتمع على تحديد وتجديد معالم المستقبل في السودان. وأسهمت في رفد التطور المعرفي، وعدت نشأتها بداية لتغييرات مهمة في بنية التعليم العالي الحديث، لأن المبادرة لم تأت فقط للتدريس بطرقه التقليدية وإنما جاءت لإحاطة النخبة السودانية بالخطوات التي اتخذتها دول العالم المتقدمة بشأن قضية التنمية من أجل المستقبل. وقد كانت هذه واحدة من المسائل الجوهرية تجاه مستقبل التعليم الجامعي، التي حددتها لجنة “ديلور”، ووضعتها من قبلُ في تقريرها الشهير “التعليم من أجل المستقبل”، الذي أعد بتكليف من منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم ال”يونسكو”، إذ أكدت قدرة الأنظمة التعليمية على أن تصبح العامل الرئيسي في التنمية بالقيام بوظيفة ثلاثية: اقتصادية وعلمية وثقافية، وقدرة الأنظمة التعليمية على التكيف مع الاتجاهات الجديدة في المجتمع، والإعداد للتغيير إزاء مجموعة من العوامل المتداخلة المتحركة، منها مسألة العلاقة بين نظام التعليم والدولة، ونشر قيم الانفتاح والتفاهم المتبادل مع الآخرين، أي زرع قيمة السلام، وأن يخلق التعليم لغة وطنية قومية تتغلّب على التناقضات وأن ينقل رسالة لكل السكان تخاطب كل أبعاد قضاياهم. إن الجميع في السودان، وفي غيره، ظلوا يتوقون أن يساعد التعليم، بمراحله ومساقاته المختلفة، في بناء قوة عمل مؤهلة وخلاقة تستطيع أن تتكيف مع ما يستجد من تقنيات، وأن تشارك في “ثورة الذكاء”، التي هي القوة المحركة للاقتصاد الحديث، وأن يقوم التعليم العالي بدفع المعرفة بطريقة تسمح بعمليات التأهيل والتدريب والتطوير المستمر، حتى تقترن التنمية الاقتصادية مع الإدارة المسؤولة للبنية المادية والبشرية، دون إخلال بمقتضيات التنوع والتعدد والخصوصيات الثقافية، مع الالتزام بشروط العدل في تقدم المجتمع ورفاهيته. نيروبي/ كينيا