من يستمع لمدخل تلك الندوة، يظن أنه يعيش إحدى ليالي الإنقاذ التعبوية الجهادية في العام 1990م مثلاً، ولا يصدق أنه يعيش في العام 2011م، فكلمة أول المتحدثين فيها، محمد يوسف عبد الله أمين الفكر والثقافة في المؤتمر الوطني، بدأت بحملة كلامية شرسة على الغرب، تتهمه بالسيطرة على العالم، وفرض التبعية السياسية والاقتصادية على الدول المستضعفة، واتهامها بانتهاك حقوق الإنسان، وممارسة الفساد، تمهيداً للتدخل فيها. لحسن الحظ، أن أمين الفكر والثقافة لم ينذر كامل كلمته للهجوم على الغرب، بل انتقل مباشرة إلى موضوع أقرب لموضوع الندوة التي نظمتها بمركز الشهيد الزبير الأمانة السياسية بالمؤتمر الوطني في ولاية الخرطوم: شعار الجمهورية الثانية في السودان..الواقع والطموحات، ودعا عبد الله لإعادة ترتيب البيت السوداني من الداخل عبر حسن إدارة التنوع الثقافي لمواجهة تحديات الجمهورية الثانية، خاصة مع إستعار الاستقطاب الديني والعرقي واللغوي، ما يبرز الحاجة لبناء هوية ثقافية جامعة، وخلص عبد الله إلى نقاط محددة أبرزها التركيز على دور الفرد في قبول التعدد ونبذ التشرذم، وضمان مشاركة كل المجموعات الثقافية، وحماية حقوق الأقليات، وإيقاف النزاعات، وإعلاء قيمة العمل كمدخل للنهوض الاقتصادي. الأمين السياسي للمؤتمر الوطني، الوافد إليه حديثاً من الشعبي، الحاج آدم، انتقد غياب منهج متفق عليه للحكم منذ الاستقلال، ما جعل السودان بكل موارده يتأخر عن ركب العديد من الدول التي كانت خلفه، إذ كثرت عليه الانقلابات والديمقراطيات فلم يتقدم، وأبدى حرص حزبه على مساهمة كل أهل السودان في المنهج الذي تحكم به البلاد عقب التاسع من يوليو، ودعا لأن يكون الدستور الجديد شاملاً لكل مناحي الحياة، غير جامد، وقارن آدم بين انجازات الدولة الوطنية في الفترة التي سبقت الإنقاذ، وفي عهدها، ليخلص إلى أن ما أنجز في فترة الإنقاذ، في بعض جوانبه، يفوق ما أنجز قبلها مائة مرة، إذ أن السودان كما يراه آدم، انتقل في العشرين عاماً الماضية من ظلمات التخلف، إلى حالة من التقدم. الحاج آدم، خلص إلى أن الجمهورية الثانية يجب أن تبنى على منهج يتفق عليه الناس، وعلى قناعة كافة الأطراف بالتداول السلمي للسلطة، وعلى خدمة مدنية راسخة ثابتة لا تتغير بتغير الأنظمة السياسية، وأضاف: لا نريد أن تكون الخدمة المدنية مؤتمراً وطنياً، ولا القوات النظامية مؤتمراً وطنياً. الأمين الاجتماعي، د.الفاتح عز الدين، قدم مداخلة غلب عليها الطابع الديني، واستخدم أكثر من قصة ونادرة على سبيل التوضيح، قبل أن يخلص إلى أن الفرق في عالم الحضارة المادية بيننا والغرب يبلغ ثمانمائة عام، وأن على السودان أن يلتفت لهندسة البشر وأن يركز على الأخلاق، والتعليم والتنمية الثقافية، ويحارب الجهوية والقبلية التي تسربت إلى التعامل اليومي على حد تعبيره، إلى جانب مراجعة الوظائف العامة والخدمة المدنية وإعادتها إلى ما كانت عليه. أين نود أن نكون في المستقبل، وأين نحن الآن، وكيف نصل إلى ما نريد، أسئلة ثلاثة يرى د.تاج السر محجوب الأمين العام لمجلس التخطيط الاستراتيجي أنها مفتاحية لمواجهة تحديات الجمهورية الثانية، ودعا إلى إقامة سياج قيمي للجمهورية الثانية، وتعزيز الإنتماء الوطني والعمل المنتج، ومحاربة الفردية والذاتية واللامؤسسية، ووهم الرجل العظيم. الجمهورية الثانية، ستواجهها، ثلاثة تحديات اقتصادية عاجلة، أولها الصدمة الاقتصادية الناجمة عن الانفصال، وثانيها الغلاء العالمي، وثالثها ارتفاع طموحات الجمهور بحسب الزبير أحمد الحسن الأمين الاقتصادي بالمؤتمر الوطني، ويقول الزبير إن لديهم برامج اقتصادية قصيرة الأجل، ومتوسطة الأجل، وطويلة الأجل، وتحاول هذه البرامج، كل في منطقة فعاليتها، تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية، وتوزيع عادل للثروة، والاستقرار الإقتصادي، وكبح جماح التضخم وإرجاعه ليكون رقماً أحادياً. الزبير، أقر بضرورة مراجعة برامج النهضة الاقتصادية وتصويبها، وأعتبر أن الزراعة هي التحدي الاقتصادي الأكبر الذي يواجه الجمهورية الثانية، خاصة وأن التقدم والتغيير فيها بطيء، ربما يستغرق عشر سنوات، أو خمس عشرة سنة، ودعا إلى المزيد من أسلمة الاقتصاد. اللافت، أن الزبير، اتفق مع الفاتح عز الدين، وتاج السر محجوب، اتفقوا على أن بث روح التدين، وقيم الطهارة والأمانة، ركيزة أساسية في بناء الجمهورية الثانية. المعقبون، ومن بينهم إبراهيم الأمين القيادي بحزب الأمة القومي، ومضوي الترابي، انتقد بعضهم الطابع الديني لتصور المؤتمر الوطني للمرحلة القادمة، وما أوحى به الحديث من نوايا مبيتة للاستمرار على ذات نهج المرحلة السابقة، وخلص الرجلان، إلى ضرورة بناء دولة مدنية، تقوم على دستور متفق عليه، وليس بناء مرحلة جديدة من الإنقاذ. المتداخلون من المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، قدم بعضهم أسئلة، وبعضهم الآخر خطباً، وفي تلك المداخلات تساءل البعض عما إذا كان الوضع الاقتصادي عقب الانفصال يسمح للمؤتمر الوطني بإشراك باقي القوى السياسية في الحكم وتوفير المزيد من المخصصات، ودعا البعض لثورة شبابية داخل المؤتمر الوطني، فيما قال آخرون إن الإسلاميين باتوا يتدافعون على المناصب وزينة الحياة الدنيا، ودعا داع إلى الاهتمام بالتعليم، وانتقد آخر النظام المصرفي وقال إنه زُجّ بالتجار في السجون جراء صيغ القروض غير المناسبة، ما حمل الزبير على القول إن «80%» من التجار يدخلون السجون على خلفية معاملات بينهم، وليس مع البنوك. اللافت في الندوة أيضاً أن مديرها الإعلامي غسان أحمد عثمان، حرص على ضبط الوقت وطرق (المايك) عندما يتجاوز أحدهم الوقت المخصص لحديثه، وهو أمر حدث كثيراً خلال الندوة، ما حدا بالزبير أحمد الحسن عقب الندوة إلى اتهام مديرها بالديكتاتورية، وهي ذات التهمة التي وجهها ضمناً إبراهيم الأمين للمؤتمر الوطني، في ندوته..!