نوم بعض النواب في الأجواء البرلمانية المكيفة، أثناء الجلسات، وفي مختلف البرلمانات، ليس سراً بالنسبة لكثيرين، خاصة الصحافيين البرلمانيين، الذين يجدون في لطائف النواب ونوادرهم وغفوة بعضهم أثناء الجلسات، ذات ما يجدونه في تصريحاتهم ومواقفهم من موضوعات دسمة للأحاديث الجادة حيناً، والجانبية الساخرة حيناً آخر، لكن البرلمان الحالي، يبدو برفقة أعضائه بعيداً بعض الشيء عن الخلود للنوم، فكل أسبوع أو اسبوعين، تنقل عناوين الأنباء تكشير البرلمان عن أنيابه، في وجه هذا الوزير، أو مدير تلك الهيئة. من المياه، إلى القروض الربوية، إلى التقاوى الفاسدة، استعرض البرلمان أنيابه مرات عديدة خلال الأشهر القليلة الفائتة، وبعد أن كشرها في وجه عبد الحليم المتعافي وزير الزراعة، على خلفية قضية التقاوى الفاسدة، عاد مؤخراً ليحقق في قضية مبيدات فاسدة بمشروع الجزيرة، فضلاً عن امتلاء أضابير لجنة المظالم الفرعية بالعديد من الشكاوى والقضايا، منها قضية مفصولي (سودانير)، وشكوى جريئة، تقدمت بها شركة (ليموزين)، ضد أحد شاغلي المناصب الدستورية، بلغت مديونيته للشركة (170) ألفاً، رفض دفع فاتورتها بحجة أنه (دستوري)، وصرحت اللجنة بأنها ستستدعيه، وتنظر في شأنه. الشئون التي كشر بسببها البرلمان عن أنيابه، ليست فردية أو قضايا فساد فقط، بل توسع البرلمان في صحوته الرقابية الراهنة لتطال أكثر من هيئة حكومية بقيت حصينة على الانتقاد دوماً، مثلما حدث دعا بعض نوابه لإقالة مدير هيئة الحج والعمرة، وعندما انتقد الأسبوع الماضي هيئة المياه الولائية. يبدو أن أنياب البرلمان، هذه الأيام، لم تعد تعرف حدوداً يقف التكشير عندها، إذ شرع النواب بنشاط مؤخراً في الإدلاء بدلوهم في سياسات الدولة العامة، مثلما حدث عندما انتقدوا حديثاً القروض الربوية التي تبرمها الدولة، ودعوا وزارة المالية للتخلي عنها، والبحث عن بدائل لا غبار عليها. الغبار، غطى أقدام بعض البرلمانيين في رحلة التكشير عن أنياب مجلسهم، فلجنة النقل والطرق على سبيل المثال، خرجت بأنيابها من قبة البرلمان المكيفة إلى الهواء الطلق، عندما سجلت زيارة نادرة لطريق الإنقاذ الغربي، بغرض الكشف عن حقيقة أمره، والوقوف على أسباب تباطؤ إكماله. أنياب البرلمان، لا تهدد الحكومة ودستورييها فقط هذه الأيام، بل تتهدد أيضاً الشركات، فالبرلمانيون، شنوا أخيراً حملة قوية ضد شركات الإتصالات، وأرباحها الطائلة، وتحويلاتها الدولارية خارج الحدود. الجولات والصولات البرلمانية، التي قادت الكثير من الوزراء للوقوف أمام النواب، ليوضحوا قضايا تبدأ من الغارات الإسرائيلية، وتمر بالعنف في جنوب كردفان، وتنتهي بالعلاقات الخارجية، استغربها البعض، على اعتبار أن البرلمان الحالي تحديداً، نظر إليه من قبل هؤلاء في أول أمره، على أنه مجرد منتدى نقاش داخلي لحزب المؤتمر الوطني، بسبب سيطرة الأخير الكبيرة عليه، ما جعل المجلس في أذهان المتشككين، بعيداً عن احتمالات الصحوة الرقابية، وقريباً من سيناريو النوم العميق، ولو كانت عيون نوابه مفتوحة على آخرها. بروز أنياب البرلمان بشكل لافت، ليست سوى محاولة لإنكار كونه برلمان الحزب الواحد كما يقول البعض، بينما يؤكد آخرون، أن محاولة البرلمان إبراز ما يمتلكه من أسنان حادة، يأتي في سياق رغبة نواب المؤتمر الوطني في إرسال رسالة إلى تنفيذيي الحزب: نحن هنا، ويقول محمد وداعة عضو برلمان نيفاشا السابق إنه يسمع ضجيجاً ولا يرى طحيناً برلمانياً، فمن هو المسئول الذي ألقي القبض عليه أو قدم لمحاكمة، رغم أن من حق البرلمان مخاطبة رئيس القضاء وإحالة الملفات إليه، ومخاطبة رئيس الجمهورية كذلك، ويتابع أن معظم القضايا التي أثارها النواب مؤخراً، كقضية الاتصالات، وموضوع سودانير، وهيئة الحج والعمرة، تمت إثارتها من قبل البرلمان السابق، ويخلص إلى أن بعض النواب يقومون بنقد بناء هدفه تحقيق المصلحة القومية، لكن الضجة البرلمانية الحالية، لا تخلو - بحسب رأيه - من الارتباط بقضايا أخرى، من قبيل إحداث ضجة إعلامية تنجح في التغطية على مرور عام على الانتخابات دون أن ينفذ المؤتمر الوطني شيئاً من برنامجه، ومن قبيل رفع الأغطية عن الأسماك الصغيرة، لتبقى الأسماك الكبيرة في مأمن. د.الفاتح عز الدين، رئيس لجنة الحسبة والمظالم في البرلمان، يقول إن النشاط الحالي في المجلس ليس من باب الظهور الإعلامي أو الشد والجذب مع الجهاز التنفيذي، بل هو نشاط ناتج عن مستوى الوعي المرتفع لدى النواب، خاصة نواب الوطني الذين تبلغ نسبة خريجي الجامعات منهم (84%)، فضلاً عن وجود عدد كبير من ذوي الخبرات السابقة في الجهاز التنفيذي والشركات والغرف التجارية والصناعية، والأطباء والمهندسين والزراعيين، ما قاد لمناقشة القضايا بطريقة موضوعية وعلمية، وجعل مؤسسات الدولة تنتبه لوجود من يراقب ويصوب عملها. وجود من يراقب ويصوب، ويكشر عن أنيابه، دون أن يقضم بأنيابه تلك في نهاية المطاف مواطن التقصير والفساد، يدفع بالبعض للقول بأن البرلمان يكشر بالفعل عن أنيابه في الجلسات وتحت أضواء الكاميرات، لتعود تلك التكشيرة وتتحول إلى ابتسامات ودودة ودافئة بين النواب والتنفيذيين عقب الجلسات، في اللقاءات الجانبية وداخل الغرف والسيارات المغلقة، دون إقالة وزير، أو إحالة مدير وحدة فاسدة أو هيئة عابثة إلى القضاء، فالسجون. إقالة وزير أو مدير هيئة، ليست النتيجة الوحيدة التي يمكن عبرها بالضرورة قياس فعالية وجدية النشاط الرقابي البرلماني كما يقول د.الفاتح، فهذا النشاط عمل يصب في خانة جعل الدولة قوية، عبر تقديم إشارات لصانع القرار بإبعاد الضعيف وتقديم صاحب الأداء الجيد، ويتابع أن هناك قضايا أحيلت للقضاء والتحقيق، وهو أمر لم يكن يحدث في الماضي القريب على الأقل، ويمتلك البرلمان آليات لمتابعة توصياته للجهاز التنفيذي، هي لجان مشتركة مع التنفيذيين ترفع تقارير دورية عن القضايا ذات الصلة في سقوف زمنية محددة. بغض النظر عما إذا كان تكشير البرلمان عن أنيابه الرقابية خلال الأشهر الماضية ضجيجاً إعلاميا لا يقود فاسداً أو مقصراً إلى سجن، أو جهداً فعالاً يزيد من مناعة جسم الدولة ويحدث نوعاً من التوازن ويعيد ترسيم الحدود بين سلطاتها، يرى البعض أن هذا النشاط وأياً كانت درجة فعاليته وجديته، أفضل على أي حال من ممارسة النوم العميق أثناء الجلسات داخل قبة البرلمان المكيفة، وفي المقابل، يرى آخرون أن الأنياب البرلمانية التي يتحول تكشيرها إلى ابتسامات عقب الجلسات مباشرة، دون أن تفضي إلى شيء غير الحصول على مكان في عناوين الأخبار، هي أنياب أفضل منها النوم، ولو كان عميقاً..!