منذ الوهلة الأولى بزغ نجم صاحب يتيمة الدهر محفوفاً بالألق والأصالة والحداثة كانت مطالع الخمسينات مواسم لإرتحاله صوب الشمال حيث مدينة الضباب للعمل في محطة لندن الإذاعية وفي عام 1953م كتب قصته الأولى «نخلة على الجدول» ثم أردفها بثانية سماها «حفنة تمر» وأعقبها بثالثة بعنوان «دومة ود حامد» التي ترجمها أحد زملاء العمل إلى الانجليزية ودفع بها الى إحدى أكبر الإصدارات البريطانية التي كانت تهتم بالمشهد الثقافي في المملكة المتحدة ولدهشتهما الكاتب والمترجم، حظيّ العمل بالنشر في تلك الإصدارة. ولم تكن «عرس الزين» التي نُشرت كاملة في مجلة «حوار» برئاسة توفيق صايغ خلال الستينيات سوى تعبير مجسد عن رغبة دفينة دافعها الحنين الى الوطن ??? أثمة صلة وطيدة بين شخوص الطيب صالح السردية وشخصه؟ أليس هو مصطفى سعيد وفي ذات الوقت ليس بمصطفى سعيد؟ لعله الحنين وليس الزين! ربما الرجل القبرصي وليس ضوء البيت! أيمكن أن يكون بندر شاه وليس مريوداً! يقول: « الطيب صالح» على لسان مصطفى سعيد في روايته الأكثر ذيوعاً« موسم الهجرة إلى الشمال: ( لا.. لست أنا الحجر يُلقي في الماء.. ولكني البذرة تبذر في الحقل) هذا الحقل وتلك البذرة أورقتا رصيداً من كتاب السرد في السودان على مدى العقود المتتالية. ??? مايميز الطيب صالح هو دلالة مسماه ليس ثمة علم يطابق مسماه كم تطابق الطيبة والصالح شخص الطيب صالح فهو يسحرك ويأسرك كما يفعل ذلك من خلال إبداعاته ولعل سمة التواضع التي تغلب على طبائع أهل السودان. تحتشد بكثافة طاغية من بين ثنايا علاقته بالآخر أياً كان. فهو مهما علا شأنه يظل بتواضعه المعهود كما كان حاله في بداياته الأولى حينما انخرط في سلك التعليم المدني إبان عهد الاستعمار البريطاني. ولعل خطوات سيرته الذاتية لا تختلف كثيراً عن مسيرة معظم اقرانه من أبناء جيله. وفي هذا العدد يقول عن نفسه: « دخلتُ الخلوة وهي تعادل الكتاب وحفظت شيئاً من القرآن.. وأهلنا اناس مزارعون في الغالب.. وبلاد نخيل.. الحق يقال فإن الإنجليز علمونا تعليماً حسناً وكنا نمتحن امتحان كمبردج.. ثم ذهبت بعد لك الى جامعة الخرطوم ومنها الى لندن» يفخر السودانيون بالطيب صالح كما يفخر المصريون بنجيب محفوظ ويتجاوز هذا الفخر عند السودانيين حدوده المعتادة فهو الواجهة المضيئة التي نفضت غبار السنين عن وجه السودان وأزاحت عنه غشاوة العتمة ويظنون ان صاحب يتيمة الدهر ليس موهبة عبقرية في فن الرواية فحسب بل بركة وحكمة يحيطك بسحره الاسطوري وعطفه الآسر، فتحسبه ولياً أوربما قطباً من اقطاب الصوفية أو لعله درويشاً في «درويش» حلقة ذكر يرجحن ويشارك المغاربة السودانيين في ذلك فيطلقون عليه الطيب صالح الرجل الصالح. تزوج الطيب صالح من بريطانية مثقفة كثيرة الإطلاع كما فعل قبله الدكتور عبد الله الطيب حينما تزوج بفنانة تشكيلية، لا زالت تعيش بالسودان بعد رحيله وتمارس نشاطها الفني والطيب صالح يعيش مع زوجته « جولي» وبناته الثلاث في منتهى الهدوء والبساطة وإحدى بناته حاصلة على دكتوراة من اكسفورد وأظنها الدكتورة سميرة لما كانت رواية «موسم الهجرة الى الشمال» تعالج ما يسمى بصدام الحضارتين الشرقية والغربية. فان كثيراً من النقاد والمتلقين ذهب مذاهب شتى في رؤية تفسير هذه الرواية واصطراعاتها.. إلا ان صاحب يتيمة الدهر، كانت رؤيته مختلفة.. أوردها د. محمد شاهين في كتابه « تحولات الشوق في موسم الهجرة الى الشمال» (لا زال الأوربيون يظنون ان العربي الافريقي مهووس بالجنس وهو في السياق الحضاري عبارة عن طفل لا يشعر بالمسؤولية.. وقد حاولت ان انقل هذه الصفات الى مصطفى سعيد تحدياً لهذه المفاهيم وتأكيداً بهذه الصورة المغلوطة فمن الواضح ان العلاقة الجنسية تقوم بين طرفين على اساس ميثولوجية غير واقعية) وهذا في تصوري اشارة لماحة الى ان الشخصية الروائية ليست بالضرورة صورة طبق الاصل من الواقع ??? أذكر في مطلع السبعينيات اقامت ادارة مؤسسة جريدة الصحافة السودانية ندوة له عقب عودته الى السودان بعد ان ذاع صيته، حضرها لفيف من الادباء ومندوبي الملاحق الثقافية وكنت وقتها مشرفاً على الملف الثقافي لمجلة «السودان الجديد» وقد اتاح مدير الندوة في نهاية حديثه الفرصة للحضور للمناقشة فطرحت عليه سؤالاً حول مدى صحة ما يقال من أنه المبتدأ والمنتهي في مجال الرواية وليس ثمة من يجرؤ من الروائيين السودانيين - ابداعاً - على تجاوزه او حتى التشبه به. وبتواضعه الجم انكر ما ذهبت اليه بشدة وقطع بخلاف ذلك وأخيراً ما يمكن ان يُقال عن الطيب صالح غير محدود ولا يمكن رصده ولكن لا بّد أن نشير الى مناسبة حصوله على جائزة الرواية العربية في مصر التي لسبب ما كان الروائي الأشهر صنع الله ابراهيم قد رفضها في العام الأول لتأسيس هذه الجائزة وكانت سعادة الطيب صالح بحصوله على هذه الجائزة لا توصف فقط لأنه يريد أن تعبر قوافل الفوز ولو لمرة واحدة كوبري النيل الازرق الى الخرطوم. ? قاص وروائي مقيم بالقاهرة