على كثافة الحضور، وسخونة نهار الخرطوم بالأمس، إلا أن بداية تلك الندوة الحوارية المفتوحة التي واجه فيها د. نافع تساؤلات طلبة جامعة النيلين واتهاماتهم وهتافات تأييدهم، لم توح بأن حرارة الندوة سترتفع لهذه الدرجة، لتكتسي طابعاً طلابياً شديد الحماسة بالغ الجرأة من جانب المتداخلين، وطابعاً لا يخلو من الهدوء والتأمل في الحماس الطلابي -وربما الإعجاب- من جانب د. نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية، ونائب رئيس المؤتمر الوطني للشئون التنظيمية، في الندوة التي نظمها الطلاب الإسلاميون الوطنيون بمسرح جامعة النيلين تحت عنوان: (مستقبل علاقات السودان مع الغرب). انتقاد الغرب في البداية، انتقد د. نافع الأساس الذي يقيم عليه الغرب سياساته في العالم الثالث، أساس لا يتسق بحال مع الشعارات التي يرفعها الغرب، مثل حقوق الإنسان وحقوق المرأة، بينما يقوم في واقع الأمر بانتهاك حقوق الإنسان في غوانتنامو وفي السجون السرية، ويقوم بانتهاك حقوق المرأة المسلمة في فرنسا التي تتحدث عن أنها أم الحريات، ويلاقي المسلمون فيها المضايقات، وتمنع الفتاة المسلمة من أن تكون طالبة في الجامعة لأنها تغطي رأسها بالحجاب. من هذا النقد، خرج د. نافع إلى أن يد الغرب انطلقت في العالم بشكل غير مسبوق بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حتى ظنت بعض حكومات العالم الثالث أنها تبقي في السلطة بسلطان الغرب، فضرب الغرب أمثلة في التخلي عنها، آخرها بحسب ما قاله د.نافع هو القذافي الذي اضطر للخروج على الناس قائلاً: (أمريكا خذلتني). انتقال القيادة بعيداً عن الغرب العالم، كما يراه د.نافع على الأقل، يشهد تحولاً حقيقياً يبشر بخير، ويبشر بتصحيح الكثير في العلاقات الدولية بعد تحول القيادة الاقتصادية من الغرب إلى آسيا، وقرب تحول القيادة الاقتصادية في ذات الاتجاه، عقب انهيار الاقتصاديات الرأسمالية الغربية، التي أسرفت في الرفاه والاستهلاك على حساب دول العالم الثالث، وعلى حساب مواردها التي تعرضت بدورها للاستهلاك. انتقال القيادة الاقتصادية عن الغرب، رافقه تراجع لسلطان واشنطن في مجلس الأمن خلال العامين الأخيرين، ولم يعد المجلس يطيع أمريكا، فعجزت في خمس محاولات بالمجلس عن التدخل فيما يحدث من تمرد في النيل الأزرق وجنوب كردفان، وحاولت التدخل في دارفور وفشلت، وفي الشرق فلم تنجح، والعبرة أن هناك قوى باتت تقول لا لواشنطن، كما أن مجلس حقوق الإنسان في جنيف، شهد اصطدام القرارات الأوروبية الأمريكية بكتلة العالم الثالث، وآخر محطات ذاك الصدام كان فشل استمرار تفويض مفوض حقوق الإنسان في السودان. د.نافع، جدد الدعوة إلى حوار إيجابي وعلاقات سوية مع الغرب أساسها الاحترام والمصالح الحقيقية وليس مصالح اليد العليا واليد المتسلطة، وتابع: إن كانوا يعاملوننا بعقدة التعالي فليبحثوا عن أمة تعاني من عقدة النقص. ديمقراطية المؤتمر الوطني المداخلات، اقتسمها صحفيان، واثنان من منسوبي المؤتمر الوطني، وبينما وقف الصحافيان على الحياد - حياد لم يمنع د. نافع من التعليق على أسئلة وطريقة تفكير (إخواننا الصحفيين) - اعتبر أحد منسوبي الوطني إقامة الندوة المفتوحة في حد ذاتها جزءاً من ممارسة الديمقراطية، فيما تساءل الآخر عن المعالجات التي ستقدمها قيادة حزبه للأزمة الاقتصادية. الطرف الآخر المقابل لدكتور نافع، كان طلاب القوى المعارضة، الذين فتح أمامهم مقدم الندوة باب المشاركة، فلم يرفع أحد إصبعه نحو نصف دقيقة، قبل أن تواتي أحدهم الجرأة ليأتي إلى المنصة ويتحدث، وتنهال بعده مداخلات الطلاب المعارضين، التي غلب عليها طابع الحماس الطلابي، ومالت في معظمها إلى توجيه نقد لاذع للمؤتمر الوطني، ولدكتور نافع تحديداً، انتقادات تراوحت بين الموضوعي والمقبول في تكتيكات الصراع السياسي، وما بين الناشز، الذي يستدعي حادثة الاعتداء على د.نافع في ندوة حوار سابقة بالعاصمة البريطانية لندن. انتقاد طلاب الحركات أحد طلاب الجبهة الديمقراطية، تساءل عن أجوبة المؤتمر الوطني على الضائقة المعيشية وعلى الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وعما إذا كان الأخير يمتلك رؤية سياسية لحلها، فيما قدم الذي تلاه نفسه باعتباره خلواً من الانتماء السياسي، وإن عبر حديثه عن درجة عالية من التسييس، وقال إن أزمة السودانيين ليست مع الغرب بل بين أنفسهم، وأن العلاقة السيئة لا تربط السودان بالغرب، بل المؤتمر الوطني بالغرب. أما الطالب الذي تلاه، فقال إنه غير منتمٍ سياسياً، وتحدث أيضاً بلغة الكادر السياسي، وحمل على الوطني، واتهمه بالتورط في جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان، واتهمه بالاستئثار بالمال وترك الشعب وسائر الفئات الاجتماعية للجوع والضياع، وهدد بأن الشعب سيحاكم رموز الإنقاذ، وذكر بقائمة ال (51) وخاطب د.نافع بأن اسمه مدرج فيها. طالب آخر، قدم نفسه باعتباره يتبع لحركة التحرير والعدالة، وحمل على د.نافع، وقال إنه كان صقراً ولا يعرف مكانه بين الصقور أم الحمائم الآن، واتهمه بقول ما لا يفعل، والتمسك بشعارات جهاد زائفة، واتهمه والإنقاذ جميعاً بالمتاجرة بالدين، أما الطالب التالي، وزعم بدوره أنه غير منتمٍ سياسياً، وتحدث مثل سابقاه بلغة الكادر السياسي، فتساءل عما يهم الطلاب في علاقات السودان بالغرب حتى تعقد لذلك ندوة في الجامعة؟ وتساءل: هل الوطني حريص على علاقة جيدة بالمواطن السوداني، أم أنه يريد تحسين علاقته مع واشنطن ليبقي في السلطة ، قبل أن يذكر د.نافع بحادثة الاعتداء عليه في ندوة سابقة بلندن ؟ أما آخر الطلاب المعارضين، فقدم نفسه بصفته يتبع لحزب البعث العربي الاشتراكي (الأصل)، وحمل بدوره على المؤتمر الوطني، واتهمه بإدخال البلاد في أزمة معيشية واجتماعية وسياسية، والتسبب في تدهور العلاقات مع الجنوب. تأمل المعارضين من وراء النظارة اللافت، أن نافع، بقي يتابع سيل الاتهامات والانتقادات القادم من طلاب الحركات والقوى السياسية المعارضة بقدر كبير من الهدوء، والتمعن - دون أن يتضح إن كان هدوء من كان يتوقع الأمر، أم هدوء من لم يكن يتوقعه - ويرمق الطلاب المعارضين أثناء حديثهم الحماسي بنظرة فاحصة من تحت نظارته، ويبتسم قليلاً في بعض الأحيان، ويلتفت إلى شاب كان عن يمينه، وآخر كان عن شماله، ثم يعاود تأمل المشهد من موقعه على المنصة، من تحت عدسات نظارته. د. نافع..هجوم مضاد في بداية تعقيبه على كل ما قيل، أقر د.نافع بأن قضية المعيشة هي الهم الأول بالنسبة للبعض، لكنه استدرك أن التوجه الفكري قضية قبل الاكل والشرب، وأن نهضة أية أمة لا تكون إلا بتميز فكرها وثقافاتها، وتابع: هناك من يريدون للشعوب أن تعلف كما تعلف الخيل وترعي الأغنام لكن الشعب السوداني عزيز، وأكد أنهم لا يستحون من القول إن الجهاد سبيل العزة، والتضحية مصدر القوة بالأمس واليوم وغداً، وقال ألا حاجة لإعلان الجهاد في النيل الأزرق وجنوب كردفان، خاصة أن أبناء الأخيرة من النوبة والحوازمة انخرطوا في الدفاع الشعبي ومقاتلة التمرد. من تابع ابتسامة د.نافع، يخامره ظن بأن تعقيبه ربما يأتي رفيقاً بالطلاب، لكنه حمل على الطلاب المعارضين بشدة لا تخلو من سخريته المعهودة، وهاجم الجبهة الديمقراطية وقال إنها جزء من تحالف كاودا الذي تجرع سم الهزيمة، وطالب المنادين بوقف الحرب الذهاب والتظاهر في كاودا وتلودي والنيل الأزرق، فإن وافقهم الناس هناك فليأتوا إلى الخرطوم لينزل الوطني على طلبهم، ووصف الحرب بأنها ضد الدولة وتمثل أحلام الحركة الشعبية سابقاً في حكم البلاد بالنفور من الدين وبالعنصرية. وخاطب الطالب الذي قال إنه غير منتمٍ سياسياً واتهم الوطني بانتهاك حقوق الإنسان قائلاً: إن كنت ترى أن الانتماء لعبد الواحد جريرة تتطلب إخفاؤها فلماذا تحمل أفكاره، وعلاقة الغرب جيدة مع عبد الواحد وأولاده (أتباعه من الطلاب) ومع خليل وأولاده، لكن عندما يعرفون أنكم كرت محروق سيأتون إلينا، وبدأ الغرب بالفعل في ذلك وطرد عبد الواحد الآن من فرنسا. التأسي بمقولات المهدي ورد د.نافع على الطالب المعارض الذي اتهمه بالمتاجرة بالدين قائلاً: قدر الإمام الصادق المهدي أن أحدهم خاطبه بما لا يليق، فقال عنه: ساقط وشايل قلمو يصحح، وقال لي أحدهم في ندوة لندن، وهو شيوعي معروف هناك، ألا علاقة لي بالإسلام، فقلت له أقبل أن ينصحني عارف بالإسلام أما أنت فلم تدخل الامتحان أصلاً كي تصحح، وأقول الآن نسأل الله أن يولي البلاد من هو خير منا، أما شذاذ الآفاق فلا ترجى منهم بشأن الإسلام نصيحة. ورحب نافع بوجوده في قائمة ال(51) ووصفها بأنها قائمة شرف، وقال: إن كان الغرب يرى أن ما أفعله خطر على مصالحه وهيمنته فأسأل الله أن يزيدني فيه، وعلق على استدعاء أحدهم لحادثة ندوة لندن بالقول: مثل هذه الندوة هنا في جامعة النيلين، أو في لندن، هل كان يمكن أن تقام في أول أيام مايو؟ وهل كان من الممكن أن يرد على متحدثين مثلما حدث الآن؟ إن ما حدث فعل الضعيف مع القوي الذي يصفح، وأظن هذا الشخص الذي فعل فعلته تلك بندوة لندن أراد منها تعزيز فرصة تجديد طلب لجوئه في لندن، وقلت للشرطة البريطانية إنني سامحت هذا الشخص ولن أحاسبه إلى يوم القيامة، ونحن إنما ندفع فاتورة أخلاقنا وقيمنا، ولكن إن تمادي الباطل فحسمه سيتم في ثوانٍ.. وهنا زاد الانفعال في صوت د.نافع.. وقال وهو ينظر ناحية الطالب الذي استدعى حادثة لندن: فليجرب من يرغب.. وخاطب الطالب البعثي قائلاً: رفضنا حرب العراق عام 1991، وكان نظام البعث نظام صمود وعزة وفروسية حتى إن كنا معه على غير منهج واحد، ونحن دفعنا فاتورة الوقوف ضد التدخل الأمريكي في العراق، وكلنا مع بعث أمة العرب وصحوتها، ولن يبعث العرب إلا على عقيدة وفكرة تحررهم من الخوف وتدافعهم للقتال. ورد على المنتسب لحركة التحرير والعدالة قائلاً: أخشى على حركة السيسي من الاختراق، فإن كنت لا تعلم، فإن حديثك يختلف عما تقوله قيادات حركة التحرير والعدالة. رجالة نقد في أبو جنزير وسخر نافع من الدعوة إلى ثورة شبابية عارمة، وذكر المعارضين بأنهم لم يخرجوا للتظاهر يوم أبو جنزير، وتركوا محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي يأتي للميدان وحده، وقال: مثل الغراب أرادوا تقليد دعوة الثورة عبر الفيس بوك، فلم يأت منهم أحد، وجزى الله نقد خيراً على حضوره و(رجالتو). ورأي نافع أن الشعب السوداني واعي ويعرف مصلحته لذلك صوت في الانتخابات للوطني، وأنه في أفضل الأحوال بالنسبة للمعارضة، لا يريد المؤتمر الوطني لكنه لاي يرى بديلاً مناسباً له. ورد على من اتهمه بالتسبب في أزمة مع الجنوب بالقول: أكبر ما يؤخذ علينا في قيادة الوطني هو التهاون المفرط مع الحركة، وكثير من الجنوبيين قالوا لنا أنتم أفسدتم الحركة ودللتموها، ونحن فعلنا هذا تودداً للحركة في سبيل وحدة البلاد وصبرنا عليها كثيراً. أحوال جمهور المسرح حديث د. نافع، وحديث الطلاب المعارضين، جذبا انتباه الحاضرين، فالندوة الحوارية المفتوحة بالأمس خلت تقريباً من الحوارات الجانبية، وانحصرت ردة فعل الجمهور في التصفيق عند نهاية حديث د.نافع في المرة الأولى وفي المرة الثانية، كما هتف بعض الحاضرين أثناء حديثه تأييداً له، وهتفوا عند نهاية حديثه عندما نادى فيهم المنادي: تكبير..تهليل.. لكن بعض الحاضرين، صفقوا أيضاً لبعض ما قاله الطلاب المعارضون، قبل أن يسارع البعض إلى مصافحة د.نافع عقب نهاية الحوار، ويمضي معه معظم جمهور الندوة إلى الخارج، فيما يشبه رحلة وداع قصيرة.