أوردنا من قبل بأن كثيراً من الأمثلة الشعبية عندنا تنشأ من قصة أو حكاية شائعة أو أحجية من الأحاجي بما فيها أحاجي الأطفال وأمثال تلك ليس في موسيقاها ولا في فكرتها ما يجذب الناس اليها وإنما يكون السبب في ذيوعها راجع الى شهرة الحكاية التي نبع منها المثل كذلك الذي يقول: - »الحكاية لامن يجو أهل العجل« ولكن هذا لا يعني ان كل الأمثال التي تنشأ من الحكايات الشائعة تجري على هذا النسق فإن منها ما يجمع بين الأمرين ويحقق السببين معاً، ولكن إن أهمية الصنعة الفنية في المثل ومدى استجابة الناس لها وجدارتها بأن تكون سبباً لشهرة العبارة وانتشارها. ونقول إن التجانس الصوتي أو ما يلفت النظر في صنعة المثل الشعبي الفني له صور متعددة أبسطها وأعرقها في تاريخ الشعوب تكرار اللفظ أو ترديد أحرف متشابهة الجرس في داخل العبارة ويدل على ذلك ولع الأطفال بتكرار الأصوات والعبارات وقد يتساجلون فيما بينهم في النطق بها صحيحة دون ان يتعثر اللسان أو يختلط القول، وهذه الظاهرة موجودة لدى الشعوب على اختلافها وكذلك في الأمثال العربية قديمها وحديثها وفي السودان يتساجل الصبيان بمثل ذلك فيقولون مثلاً: »الزرزور زرزر وطار« يكررونها سبع مرات وقد يرددون بعض العبارات مرة بعد مرة على سبيل الحكاية والمساجلة كما في حجا أم ضبيبينة. وحياة الشعوب في المرحلة الآلية تشبه الى حد ما حياة الطفل، والطفل من عادته ان ينظر الى اللغة نظرته الى اللعب والطرف التي في يده، وقد ظهرت هذه المجانسات في الأمثال العربية ومنها السودان بطبيعة الحال تجانست فيها أصوات الألفاظ على تفاوت في نوع هذا التجانس ومقداره في داخل العبارة فربما ظهر الجناس بين كلمتين كقولهم، »الأقارب عقارب« أو »أم الجاهل تعايشها ما تماشيها«، أي أم الطفل الرضيع لا تمشي معها لأنها تسير مسرعة لتلحق بطفلها فتتعبك، ولكن كل معها لانشغالها عن الطعام بطفلها وقد يشتد الجناس بين أجزاء العبارة كلها مثل: »أولا أم خير خيارم خير والخلا اخير من خير« أي أن المسمى »خير« هو أحسن أولاد أم خير، ومع هذا فإن تكون عقيماً خير من ان تكون ولوداً لأنهم جميعاً مقصرون عاجزون وإن تفاوتوا في ذلك، وربما جانسوا بين لفظين من طريق الإتباع والمزاوجة لقولهم: »شحيح ولحيح« أي بخيل وملحاح - أو »شخبت لخبت« ويضرب للأمر ينقض النظام المتبع قولاً وعملاً أو »شبعو ولعبو« أي أشبع جوعته وإذا أخطأت فاضربه ويضرب طلباً للتأديب.. وقد يدخل التجانس بين فاصلتين أو أكثر وهو السجع.. وقد يكون المثل شعراً موزوناً أو جزءاً من بيت شعر، أو عبارات متوازنة تقترب من الشعر وكل ذلك محاولات لمنح المثل ألواناً اخرى من الموسيقى تزيد من اجتذاب السامع وامتاعه فمن ذلك المثل القائل »إن جادت بخيط العنكبوت تناقد، وإن عاقت تقطع سلسل الحداد« وهو في وصف الدنيا، وقد ورد في شعر الحاردلو شاعر البطانة وينسب مثله الى الشيخ فرح ودتكتوك، وكذلك قولهم: »جنباً تقلب البيعة« وهو جزء من بيت الدوبيت يروى للحاردلو في وصف شبل رآه يباع في السوق »وات كان كبر جنباً تقلب البيعة« ومن ذلك المثل القائل: »أمي في بالها بال وأبوي في بالو بال وأنا في بالي بال أبوي داير اليستر الحال وأمي دايرة البجيب المال وأنا دايرة الصبي القدال«. وهو مثل قالته بنت من كردفان وأصله شعر. ومما يدخل في باب التوازن بين العبارات ولا يظن يجري على وزن شعري قول القائل: »أو ل كعوبية مشى اللقربية وتاني كعوبية العزوبية وتالت كعوبية اخد المرا بلا نية ورابع كعوبية الهم كبير والايد خلية« والكعوبية هي سوء الحال، فأشد الحالات سوءاً أن يمشي المرء »اللّقربية« وهي السير على القدمين مع الراكبين، و»اللقروب« الماشي على قدميه يليها بقاء المرء بلا زوجة والثالثة تزوج المرء من امرأة لا رغبة له فيها، والرابعة ان يكون اسمه مشهوراً وهو فقير لا يستطيع القيام بمطالبه وواجباته أزاء أهله وقومه. ü وكثيراً ما تبدو مسحة من الغربة أو الغموض في لفظ المثل أو تركيبه أو صورته البيانية أو فيها جميعاً، وسواء أقصد صانعو الأمثال الى الإغراب والإبهام أم لم يقصدوا فإن لهما في نفس السامع أو القاريء أثراً لا ينكر فهما تثيران الرغبة في التطلع الى المجهول ويبعثان على الدهش والتعجب، وهذا وذاك أدعى الى التصاق العبارة بالنفس وانطباعها في الذاكرة ولا سيما حين يكشف عما فيها من معنى يألفه ويأنس اليه أو مغزى يحتاج اليه في فكره وعمله. والغربة والغموض في الأمثال يرجعان الى أسباب متعددة منها ضياع أصول بعض الأمثال وفقدان معاني بعض ألفاظها ومنها اقتطاع المثل من قصة أو مناسبة، فيبدو المثل حينئذ كلاماً مستغلقاً مبهماً ولا يزول ما فيه من غرابة وإيهام إلا بعد معرفة قصته ومناسبته.