يعتبر إنعقاد المؤتمر السادس لسفراء السودان بالخارج (فى الفترة بين 18 21 ينايرالجارى) حدثا مهما، إذ يوفر "منصة" تساعد على تقديم إطلاق أفكار لمراجعة أداء الديبلوماسية السودانية خلال العقود الأخيرة، فضلا عن التأسيس لحقبة ديبلوماسية جديدة بجانب مواكبة التحولات الجارية إقليميا ودوليا وسبل التعاطى الديبلوماسى مع إنعكاسها على السودان بما يحقق مصالح البلاد فى عالم شديد التعقيد وسريع التحولات. على أن أهم ما يمكن يشجع عليه هذه المؤتمر هو التأكيد على إيجاد أطر لصوغ سياسة خارجية متماسكة تستند على مناهج علمية ومؤسسات جادة للدراسات والأبحاث تساعد على صناعة قرارات راشدة وعقلانية على غرار ما تجارب الدول الأخرى. مرتكزات وأهداف السياسة الخارجية لأى دولة تتفاعل فيها عوامل داخلية عديدة، وفى الوقت نفسه تتأثر بالمعطيات الخارجية، وفى حقبة معولمة- كالتى نعيشها الآن- بات من المتعذر فصلُ الداخل عن الخارج فى قضايا السياسة الخارجية، ومن هذا المنطلق فإن أجندة المؤتمر تعطى مؤشرات حول ما يمكن تحقيقه من "إنجازات"، وبحسب تصريحات صحفية للناطق باسم وزارة الخارجية السفير على الصادق، فإن المؤتمر التداولى (سيناقش ستة محاور تشمل مرتكزات وأهداف سياسة السودان الخارجية في ظل التحديات الماثلة، والتعاون والقضايا الدولية بما في ذلك العلاقات مع الأممالمتحدة والتعاون مع دول الجنوب وقضايا الاستثمار والمناخ والبيئة، وعلاقة السودان الثنائية مع كافة الدول والكيانات والمنظمات التي تربطها علاقات مع السودان، علاوة على قضايا الثقافة والإعلام وعلاقتها بالعمل الدبلوماسي). عالم جديد وخلال العقود الثلاثة الأخيرة جرت تحولات جوهرية فى المشهد الدولى، بعد سقوط الإتحاد السوفيتى عاش العالم حقبة العالم الأحادى القطبية بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولكن تلك الحقبة ما لبثت وأن إنطوت ليدخل العالم حقبة أخرى، تنوس بين عالم متعدد الأقطاب أو بالأحرى "عالم بلا قطبية" كما يجادل ريتشارد هاس مسئول التخطيط الأسبق بالخارجية الأمريكية، ولقد ألقت تلك التقلبات بظلال سالبة على السودان، لاسيما فى علاقاته الخارجية. لم تعد الدول الكبرى ومؤسسات السياسية الدولية التقليدية هى المسيطر الوحيد على العالم اليوم أو أنها تتحكم فى تفاعلاته، بل تنامت أدوار فاعلين من غير الدول- سواءا الكبرى أو الصغيرة- باتوا يلعبون أدواراً لا تقل عن أدوار الدول فى صناعة القرارات الدولية وصياغة توجهات السياسة الدولية، على رأس هؤلاء الفاعلين المنظمات غير الحكومية ومجموعات الضغط و"الثنك تانكس" ووسائل الإعلام الدولية. إنفتاح كبير يعيش السودان فى الوقت الراهن إنفتاحا كبيرا فى علاقاته الخارجية، فعلى الصعيد العربى، ورغم تضعضع النظام الإقليمى العربى التقليدي بنُظمه القطرية الجمهورية والملكيات على حد سواء، و"جامعة الدول العربية" نتيجة الهزّات التى نجمت عن ثورات الربيع العربى وقبلها وقبل ذلك حربا العراق الأولى والثانية وإنتهاءا بالغزو والإحتلال فى مارس 2003. إنعودة الثقة فى علاقات السودان ومنظومة دول مجلس "التعاون الخليجى" يعتبر أكبر إنجازِ ديبلوماسية السودانية مؤخرا، ووتتيح التحولات الخارجية الجارية فى الوقت الراهن بالشرق الأوسط هوامش اوسع للحركة لتعزيز علاقاته مع محيطيه الطبيعيين (أفريقيا والوطن العربى كمجالين لديبلوماسيته التقليدية) وأيضا إمكانية فتح نوافذ مع الدول الكبرى حول عدد من القضايا بات هذه الدول "مضطرة"- تحت وطأة التغييرات والمهددات- للتخلى عن سياسة الإحتواء وسلاح العقوبات فى مواجهة الدول التى تصنف ك"دول مارقة" او "راعية للأرهاب" او"تنهتك حقوق الإنسان"..الخ. تحديات راهنة يعيش الوطن العربى ومنطقة الشرق الأوسط فى حالة من التخلُّق قد تمهد لبروز نظام إقليمى جديد ولكن لا يعرف ملامحه بعد!، فالنُظم الجمهورية فى الدول العربية والتى كانت تتنافس على زعامة العرب قد أفل نجمها لتنتقل القيادة الإقليمية للأنظمة الملكية، خاصة المملكة العربية السعودية. وإن جاز الحديث هنا عن دخول علاقات السودان بالدول العربية مرحلة جديدة، تبقى هناك عدة تحديات تحول دون الإفراط فى التفاؤل ببروز نظام إقليمى جديد يمكن أن يكون على وفاق مع السودان وسياسته الخارجية مستقبلاً، للأسباب التالية: أولاً، حالة عدم اليقين بشكل النظام الإقليمى الجديد والدولة التى ستقوده، ومقومات قوة هذا النظام الإقليمى. ثانيا، الإنقسام والتنافس بين الدول العربية حول الزعامة الإقليمية والسياسات الإقليمية المشتركة. ثالثا، غياب تصور عربى موحد لنظام إقليمى يأخذ فى الحسبان مصالح الدول العربية فى خضم عالم سريع التحولات. رابعا، خضوع النظام العربى الإقليمى والدول الفاعلة فيه لنفوذ الدول الكبرى وتجاذباتها، فضلا عن ضعف هذا النظام مقارنة بالمشاريع والنظم الإقليمية الأخرى المنافسة فى المنطقة أخيرا، تقلُب مواقف الدول الكبرى ومساوماتها حول إقتسام النفوذ والمحافظة على مصالحها فى هذه المنطقة وممارسة الضغوط على مكونات النظان الإقليمى العربى بكافة الأشكال. أفكار جديدة لم تعد الديبلوماسية التقليدية بذات الفاعلية، وإنما شهدت الديبلوماسية الحديثة أنماط وتجارب ونجاحات عديدة، كما لم يعد التأثير فى السياسة الإقليمية أو الدولية يتوقف على حجم الدولة أو وزنها الإقتصادى أو نفوذها السياسى فحسب، وإنما روح المبادرة والفعالية وتوظيف الفرص والإنخراط النشط فى القضايا التى يمكن أن تندرج فى نطاق المصالحها الحيوي لهذه الدولة أو تلك هو الذى يقيس مدة نجاح أى ديبلوماسية. ومن هنا، يجب أن يكون المؤتمر التداولى لسفراء السودان بالخارج فرصة سانحة كى يتم تطوير الديبلوماسية السودانية، إذ أن تراكم التجارب وما تقدمه من دروس يحتم ذلك؛ كما تسنح الفرص كى ينخرط السودان فى نمط جديد من الديبلوماسية يقوم على الإحترافية والمهنية والكفاءة والتأهيل العالى؛ الحاجة لمراكز للتدريب والدراسات الديبلوماسية بات أكثر من ملحة، ذلك لطبيعة العالم الذى بات يقوم على التعاون والتبادل والمشترك. عالم اللاقطبية إن التحولات التى يشهدها العالم اليوم (أو عالم للاقطبية)، وكذلك صعود تكتلات وقوى خارج إطار المنظومة الغربية التى ظلت مهيمنة على مؤسسات السياسة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كمنظمة دول البريكس (البرازيل، وروسيا الإتحادية، الهند، الصين، جنوب أفريقيا)، و"البنك الآسيوى للإستثمار فى البنية التحتية" والذى يعتقد على نطاق واسع أنه بديل للبنك الدولى وصندوق النقد الدولى- وربما منظمة التجارية العالمية إذ تنهى تلك الخطوات عمليا "المشروطية السياسية" التى أتاحت للدول الغربية التحكم فى نمو "العالم الآخر" وقراراته التى تحقق مصالحه. ومن هنا، بات من الضرورى الأخذ فى الإعتبارا هذه المعطيات من خلال فعاليات ملتقى الديبلوماسيين بالخارج- وهو تقليدي عريق فى الدول ذات الديبوماسية الفاعلة- وذلك العمل على إنجاز توسيع مدروس للتمثيل الديبلوماسى للبلاد ليشمل أقاليم العالم وقاراته فضلا عن المؤسسات الدولية والإقليمية وتعزيز تمثيل البلاد فى هذه المؤسسات، وكذلك على مستوى "الديبلوماسية المعولمة" (المبعوثين خاصين، الممثليين رفيعى المستوى، واللجان الدولية، والخبراء الدوليين والمقررين…ألخ).