العِرفان في جانب منه هو موقف نفسي يمِيِّل إلى القُبول بالسلوك ، خاصة إذا جاء هذا السلوك مُتماشياً مع السجية والعادات السائدة .. لذلك أضُم صوتي للذين قابلوا سلوك القائم بالأعمال الأمريكي بالسودان بينيامين مولينق المُتمثل في تكبُّدِه مشقة الإطعام لبعض مواطني مدينة الأزهري جنوبي ولاية الخرطوم من الراكِبة والراجِلة في شوارعها الآمنة المُطمئنة بالعِرفان .. لأن الذي جاء به السفير يتماشى مع المواقف العادية التي تُمييز هذا الشعب الكريم ، المعروف بالشهامة وإكرام الضيف . في الواقع .. إن موقف القائم بالأعمال الأمريكي ينم عن تقديره لهذا الشعب ! وإلا ما تكبد مشقة الوقوف في الشارع يعاونه في ذلك كامل طاقمه الدبلوماسي .. أما اللافت في هذا المشهد الإنساني المؤثر ، هو أن عملية الإطعام هذه تمت في سلاسة غير مسبوقة ولم يُعكر صفوها أو تُصاحبها أدنى إجراءات السلامة ، لا من السُلطات السودانية ممثلة في شرطة حِماية الأجانب المدججة بالهراوات والغاز المُسيل ، ولا من طاقم المارينز القابض على السلاح الأوتوماتيكي الحديث ، كما لم تُحلق في سماء الخرطوم الطائرات بدون طيار وطائرات الأباتشي والشبح .. وقد يسأل سائل : لِما كُل هذا التعقيد ؟ فأقول له بكل تأكيد : أليست الخرطوم عاصمة للإرهاب كما تُصنفها أمريكا ؟ فكيف فات عليها أن تؤمِّن سفيرها وهو يُرسل سندوتشات الهامبيغر والهوت دوق إلى أمعاء مواطني الخرطوم ؟ كيف تترُك سفيرها (يسرح ويمرح) دون حماية ؟ إلا تخشى عليه من مواطني الدولة الإرهابية ؟ ألا تحذر أن ينسفه حزامٌ ناسفٌ ، أو سيارةٌ مفخخة ؟ ما الذي أصاب هذه الدولة العظمى في عقلها ؟ أفيدوني أفادكم الله . أخشى ما أخشى ، أن يكون مُمثِّل أمريكا في الخرطوم قد انطلق في عمله الإنساني الجليل ذاك ، من الشعور بالخجل إزاء الواقع الذي ينظر إليه بأم عينيه ، إذ ينظر إلى عاصمة السلام والاستقرار ، وبلاده تُصنفها بأنها عاصمة إرهابية لا أُم لها ولا أب ، عاصمة تعُج بالفوضى وسفّاكِي الدماء .. وربما قلت ربما يُريد سعادة السفير أن يقول لحكومة بلاده أن الخرطوم التي تتصَّورون ، ليست بهذه الصورة ، وهأنذا أتجول في شوارعها وأُطعِم أهلها الهوت دوق ولم يمسسني سوء .. وإن كان السيد السفير يُريد غير ذلك ، نقول له : إن الشعب السوداني خلوق ويحترم الضيف ويكرمه وهو إذ يقبل منك هذه (المحاشي) فإنه يقبلها ليُكرِمك ، وإن كنت تريد إكرامه بما يستحق ، فطالب بلادك برفع الحصار الجائر عنه ، فهو لا يُريد سندوتشات ، إنما يريد جُرعة دواء حرمته منها قصف طائراتكم لمصنع الشفاء ، ويريد أن يحصّل أبناؤه التعليم بوسائله الحديثة مثل الكمبيوترات المحظورة بقرارات بلادكم الظالمة ، ويريد فك الأرصدة والتحويلات ليواصل الطلاب دراستهم في الخارج ، ويريد فك الحظر عن قطع غيار الطائرات والسفن والقطارات .. سيدي السفير .. الخرطوم ليست في حاجة للسندوتشات. قوانين الواجب والممكن والمادة والصورة والقوة والفعل ، تضعك سيدي السفير ، أمام تحديين يتنازعان ذات المشرُوعية .. تحدي المواءمة بين الواقع الآمن الذي تعيش تفاصيله في الخرطوم وتحدي التصنيف الذي تدعيه بلادك ، وحتى لا تذهب ريحكم ، تخلص من غرور أمريكا وصواريخها وقوتها المادية فأنت في النهاية إنسان .. والإنسانية تُحتم اتخاذ موقف أخلاقي يتطابق مع الواقع الذي تعيش وذلك بالضغط على بلادك لرفع الحصار الظالم عن السودان ورفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب .. وإن لم تستطع اتخاذ هذا الموقف الشُجاع والذي لا يتماشى مع رؤية بلادك ، فيمكنك في هذه الحالة تقديم الاستقالة والانضمام إلى قائمة الشُرفاء الذين هزمت مواقفهم مواقف بلادهم وبذلك تُحصِّل احترام الشعب السوداني ، الذي ينظر إليك نظرة تقدير وإشفاق .