اثنان وخمسون عاما انقضت على اندلاع ثورة 21 أكتوبر التي أطاحت بأول حكومة عسكرية في السودان بقيادة الجنرال إبراهيم عبود .. ربما تأخر هذا الحوار بعض الشيء عن تاريخ ذكرى تلك الثورة الذي صادف الجمعة الماضية، وذلك للظروف الخاصة بالإمين العام للمؤتمر الشعبي الشيخ إبراهيم السنوسي الذي كان شاهداً على العصر في تلك الثورة، وكان المحور الأساسي في هذا الحوار حول من ضيع الثورة؟ واجتر شيخ السنوسي شريط الذكريات لتلك الايام وكان حديثه شيقاً وكأنني أعيش تلك اللحظات وأنا استمع إليه، وكشف عن كثير من المعلومات التي تنشر لأول مرة عن الثورة.. إلا أنني وفي ذلك اللقاء لم اكتف بحديث الثورة، بالرغم من أنه كان شرط ضيفي الأساسي، وعرجت على القضية التي تشغل الرأي العام هذه الأيام ألا وهي قضية الحوار الوطني ومخرجاته، وهذا مانطالعه في الحلقة الثانية بعد أن اعتذر لي عن الحديث في كل مايتعلق بشأن حزبه المؤتمر الشعبي بحجة أنه ممسك عن الحديث في هذه المرحلة، ووعدني بلقاء آخر في مقبل الأيام * كيف بدأت ثورة اكتوبر ؟ الثورة بدأها الاتجاه الاسلامي عندما أقام طلابه ندوة في جامعة الخرطوم وعارضها الشيوعيون، فاحتال الاتجاه الاسلامي على قيام الندوة، فبدلاً من أن تكون سياسية حولها لثقافية، وكان المتحدث فيها الدكتور حسن الترابي، وتطورت فيما بعد وتحولت لمظاهرات قادت لاستشهاد الطالب القرشي . * دور الشيوعيون فيها ؟ – للحقيقة والتاريخ إن الشيوعيين لم يكن لهم أي دور في بداية الثورة، ففي داخل الجامعة كانوا ضد قيام الندوة، وفي الخارج كانوا ممثلين في المجلس المركزي الذي عينه عبود، وكان يمثلهم التجاني الطيب و أخرين، والشيوعيون قرروا التعامل مع النظام بعد زيارة بريجنيف للسودان لأنهم رأوا أنه يمكن أن يكون هذا تطور من الحكم العسكري نحو نظام الاقطاعيات حسب مفاهيمهم، ومن هنا تاريخياً لم يكن لهم أي دور . *ماذا حدث في الندوة ؟ -الترابي عندما تحدث في ندوة جامعة الخرطوم – وكان قد جاء حديثاً من فرنسا وكان متشبعا بشعارات الحرية والديمقراطية- وركز في حديثه على أربع قضايا هي: أن يكون في السودان حرية، لابد أن يرجع العسكر إلى ثكناتهم، وأن تحل قضية الجنوب حلاً سلمياً وليس بالقمع، هذه هي الشعارات التي طرحها الترابي وألهبت الثورة. *كيف التحق الشيوعيون بالثورة ؟ -عندما قامت الثورة وانطلقت من جامعة الخرطوم بدأ الشيوعيون في سرقتها، وسارعوا بتكوين جبهة الهيئات من عناصر من المزارعين والعمال وغير ذلك من اللافتات، وخرج الموكب من جامعة الخرطوم لحمل الشهيد، وكانوا يحملون الترابي على الأعناق، وعندما وصل الموكب ميدان عبد المنعم، الترابي قدم الصادق المهدي ليصلي على الجثمان، ومن هناك تحرك الجثمان، وبدأت الثورة وبعد ذلك بدأ التفاوض مع العسكر بعد أن اشتد القتل وسط المواطنين، لاسيما المعركة التي حدثت بالقصر، وهذه المعركة أنا كنت حاضراً فيها، وكان يمكن أن أستشهد فيها، وكانت هناك دبابة وفيها زين العابدين محمد عبد القادر رحمه الله، وكان معه ضابط آخر شقيق الفنان أحمد المصطفى، وكانت الهتافات التي يرددها المتظاهرون هناك (من القصر إلى النصر) سمع صوت رصاص، فأطلقت الدبابة وابل من الرصاص أدى لاستشهاد عدد كبير من المواطنين، ومن حسن الحظ كانت الحديقة التي أمام القصر مليئة بالمياه، وسقط عدد من المواطنين فيها، مما أدى لنجاتهم من القتل . * يقال إن عبود تنحى بسهولة ؟ – عبود كان رجلاً حكيماً، وأكد استعداده للتنحي، وقال إذا كان الشعب لايريدني ساتنحى، ودخلت بعض الوفود للتفاوض مع العسكريين داخل القيادة العامة، وكان من بينهم د. حسن الترابي والصادق المهدي ووافق عبود على التنحي وترك للترابي والعتباني تعديل الدستور للخطوة، شريطة أن لايحاكم العسكريين وسلمت السلطة للحكومة الشعبية، وعندها سارع الشيوعيون باقتراح ترشيح شخص مستقل للحكومة تفادياً لأن يكون المرشح عليها حسن الترابي، وتم اختيار سر الختم الخليفة الذي لم تكن له علاقة بالسياسة، وكان معلماً وأصبح رئيساً للوزراء، وبسرعة استطاع الشيوعيون ايجاد هيئات شعبية دخلوا باسمها الحكومة، وتكونت من جبهة الهيئات من الوزراء بلافتات للشوعيين، بالإضافة لأحمد سليمان ممثلاً للحزب، بينما مثل كل حزب في الحكومة بوزير واحد، وكان وزيرنا فيها محمد صالح عمر رحمه الله . *من ضيع الثورة؟ بعد أن سيطر الشيوعيون على الحكومة وبدأوا في تنزيل شعارات التطهير واجب وطني، التي أرادوا بها إبعاد المستقلين والشخصيات التي تعارض شعاراتهم من الخدمة المدنية، وكان هذا أول أخطاء أكتوبر إلى جانب حل الإدارة الأهلية، وبعد ذلك رأوا ان يستمروا في الحكم، وأن لايقيموا انتخابات، وحينها أدرك الاسلاميون خطورة الأمر، وقمنا بمظاهرات مع حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، ونادينا بإسقاط حكومة سر الختم، حتى تم ذلك بعد مظاهرات عنيفة جداً، وأسقطنا سر الختم الولي، وجاءت حكومة سر الختم الثانية، وكانت تلك أول هزيمة للشيوعيون وإخراجهم من الحكومة وابعاد شبح سيطرتهم، وبعدها صدر قرار إقامة الانتخابات وتمت في مايو 1965 مما أدى لغضبهم على سر الختم الذي قبل حل الحكومة التي كانوا يسيطرون عليها، ولذلك عندما قام انقلاب مايو كان سفيراً في بريطانيا استدعوه وأودعوه السجن معنا . *بعد الانتخابات كيف تشكلت الحكومة الثانية؟ كما قلت لك قامت الانتخابات وورثتها الطائفية وفاز الأمة ب73 مقعداً والاتحادي ب51 مقعداً والجبهة الاسلامية ب3 مقاعد، والشيوعيون اكتسحوا دوائر الخريجين التي كان عددها 28 مقعداً حصلنا نحن على اثنيين منها، هكذا تبلورت ثورة أكتوبر وورثتها الطائفية وكان سببا لأن لايتوقع الناس منها خيراً، لان حزب الأمة الذي كان سبباً في انقلاب عبود بترتيب من عبد الله خليل، وكان سبباً في إجهاض الديمقراطية عاد إلى السلطة مرة أخرى فيها، وهذا واحد من الأسباب، التي جعلت فيما بعد أن الديمقراطية التي أتت بها أكتوبر لم تكن مقنعة للناس توارثها الختمية والأنصار وكانت سبباً في انقلاب مايو 1967م والمواطنون لم يلمسوا أى تغيير بعد الثورة، والحكومة لم تقدم أي تنمية ولم يستفيدوا منها، ولذلك نجد أن الشيوعيون أرادوا مرة أخرى أن يلتفوا ويعودوا، وكانوا هم السبب في انقلاب مايو التي اتت في بداية عهدها برموز حمراء ووزراء الشيوعيون وان كان على رأسهم جعفر نميري الذي لم يكن شيوعياً، وكانت واحدة من شعاراتهم التأميم والتطهير وهذه كانت من الأخطاء التي ارتكبها الشيوعيون في مايو، الشعارات اليسارية الصارخة والمعادية للاسلام، والتي قال فيها نميري في أول يوم عن الدستور الاسلامي"اما مايقال عن الدستور الإسلامي تلك الوريقة الصفراء قد مزقناها إلى الابد " وبعد ذلك قدر الله أن ياتي النمير ي بالدستور الاسلامي، ومن أخطاء الشيوعيين كذلك الاعتراف بألمانيا الشرقية الذي كان سبباً في خسارة ألمانيا الغربية التي كان لها أعمال جليلة في السودان أهمها التلفزيون الملون وتلك الخطوة جعلت الغرب كله يعادي مايو . *هل ماذكرته هو السبب الوحيد لضياع الثورة أم أن هناك أسباب أخرى ؟ نعم بعد أن حكمت الاحزاب الطائفية بالاغلبية التي ذكرتها بعدها بدأ الصراع سريعاً في حزب الأمة والذي أدى لانشقاق الأمة وكذلك الاتحادي وهذا مهد الجو لانتهاء الثورة . *ماذا بشان قضية الجنوب التي كانت واحدة من أسباب الثورة ؟ – الثورة كذلك اخفقت في قضية الجنوب بالرغم من أن الترابي في حديثه في ندوة جامعة الخرطوم أكد على ضرورة حلها سلميا وسياسيا، وكان أن اقيم مؤتمر المائدة المستديرة الذي كان الترابي عضواً مهماً فيها، الى جانب أبيل ألير، وتوصل إلى حلول للقضية، ولو كان نفذ ماتم التوصل إليه في المؤتمر لماحدث فيما بعد للجنوب ما أدى لانفصاله . *كأنما تريد من حديثك تحميل الشيوعيون مسؤولية ضياع الثورة ؟ – في ثورة أكتوبر الشيوعيون لم يكن لهم فيها دور أصلاً هم سرقوها كما ذكرت لك عبر جبهة الهيئات والتنظيمات التي أعلنوها، ولكن أغانيهم وشعاراتهم حولها كأنهم هم الذين صنعوها بالرغم من انهم كانوا ضدها في البداية . *ماهي الدروس المستفادة من تلك الثورة؟ – ثورة أكتوبر واحدة من حسناتها أنها أتت بالديمقراطية وأسقطت أول نظام عسكري في السودان عبر الشعب وكان درساً في إفريقيا والدول العربية ولولا أن ورثتها الديمقراطية التي لاتمارس الديمقراطية في داخلها هذا الىجانب أنها كانت قائمة على نمط غير سوداني فالحزبين الطائفيين أحدهما موالي لمصر والآخر لبريطانيا وشعاراتهم لم تكن سودانية .