أثارت الإجراءات التي تقوم بها السلطات في جنوب السودان ضد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية العاملة هناك اهتمام المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإعلاميين، خاصة بعد ان طالت هذه الإجراءات محطة راديو الأممالمتحدة لبثها مقابلة مع الجنرال المنشق من الجيش الشعبي الجنرال أطور، وقد تبع ذلك اعتقال لصحفيين يعملون في وسائل إعلام تديرها حكومة الجنوب لمدة أسبوع لإضرابهم عن العمل احتجاجاً على عدم صرف رواتبهم، وهو ما أثّر على التغطية الإعلامية لاحتفال تنصيب رئيس حكومة الجنوب. وغير بعيد عن الأذهان مداهمة السلطات لمحطتين إذاعيتين مستقلتين قبل فترة الانتخابات وأقت القبض على عاملين فيها بعد أن بثت مقابلة مع عضو من الفريق الإعلامي لأحد المرشحين في الانتخابات. وفي ظل عدم تفعيل التشريعات التي من شأنها تنظيم حرية الإعلام وحماية حرية التعبير في جنوب السودان يبقى السؤال في مدى التزام حكومة جنوب السودان بالأسس والضوابط التي تهيئ الأجواء المناسبة لوجود إعلام حر ومستقل؟. توضح الأستاذة الصحفية عفاف أبو كشوة أنه استناداً على اللوائح والنظم والقوانين التي تنظم العمل الصحفي بالجنوب، فإن منظمات المجتمع المدني ووزارة الإعلام بالجنوب واتحاد الصحفيين قطعوا شوطاً كبيراً في إعداد ورش عمل بمشاركة إقليمية ودولية، وقد حضرت شخصياً هذه الورش في عام 2008م، وتم إعداد قانون ديمقراطي يتيح حرية التعبير والنشر والحصول على المعلومة أكدوه بميثاق شرف صحفي يستند على مرجعيات قانونية إقليمية وعالمية. ويتفق مع ذلك الأستاذ جون ليمي أستيقن رئيس تحرير صحيفة ذا ديمكرات (The Democrat) الصادرة بالخرطوم والذي قيّم المسافة بين الشعارات المرفوعة والممارسة على أرض الواقع إذ يرى أن هناك نظام في الجنوب ولكن الحكومة أو المسؤولين لا يعملون به خاصة وأن جنود الجيش الشعبي يعتبرونه أمراً فارغاً.. وحتى الديمقراطية التي تدعيها الحكومة غير موجودة رغم أن العالم أراد لها أن تكون أول حكومة مثالية بعد الحروبات التي شهدها السودان. ولكن ألا يشير تلك المثالية المنشودة وجود أجهزة إعلام مرئي ومسموع في الولاياتالجنوبية؟.. يرى الأستاذ الطاهر ساتي رئيس تحرير صحيفة (الحقيقة) " أن من المفارقات أن قيادات الحركة هي الأعلى صوتاً في الإشارة لغياب الحريات الصحفية بالشمال في حين لا توجد صحافة أصلاً في الجنوب، فكل الإعلام في يد الحركة الشعبية بينما تغيب بقية القوى السياسية وعامة أهل الجنوب الذين يجب أن يكون لديهم منابر إعلامية يعبرون خلالها عن أنفسهم، ولكن استخبارات الحركة الشعبية هي الإعلام الآن في الجنوب وهي التي تقود الجنوب الآن بعقليتها الأمنية والعسكرية". الأستاذ الفاتح السيد الأمين العام لاتحاد الصحافيين السودانيين قال إن الإعلام القوي والشفاف والمتطور يسهم في تطور الجنوب، ولابد للحكومة في الجنوب أن تعي ذلك باعتبار أن هناك كثير من التحديات الماثلة أمامها والتي تحتاج إلى الإعلام الحر الذي يدرك مساهمته في خلق رأي عام لأن الجنوب يعاني من مشاكل كثيرة و تواجهه تحديات كبيرة منها تحدي انتقال الحركة من حركة عسكرية إلى حركة سياسية وحركة مجتمع. وفي مجتمع خرج من حرب طويلة ويواجه تحديات كبيرة في توفير مناخ ينقله إلى السلام والاستقرار فإن الإعلام الحر يمثل أحد أدوات تحقيق ذلك، فما هو واقع الإعلام في الجنوب والعقبات التي تواجهه في تحقيق رسالته؟ الأستاذ الطاهر ساتي أشار لوجود مؤثرات على الأداء الإعلامي بالجنوب من جانب حكومة الجنوب كما تشير التقارير لعدد من حالات الاعتقال شمل رؤساء تحرير صحف، ويقول " حتى الآن لا توجد صحافة مستقلة تماماً، فحكومة الجنوب تضيق على الأداء السياسي للأحزاب وتمارس نشاطها بعقلية الجيش الشعبي، ومعروف أن غياب الحرية أهم العقبات في طريق الصحافة في الجنوب كما أن الروح القبلية السائدة تؤثر في الأداء الإعلامي، كما أن الصراعات القبلية تلقي بظلالها على الأداء بحيث لا يكون بالنزاهة ولا الحياد المطلوب وهذا واضح في كتابات بعض الزملاء، فميلوهم السياسية والحزبية تظهر في كتاباتهم وآراءهم، وتوجد هناك عقبات مالية فما تصرفه حكومة الجنوب على الإعلام لا يسوى شيء مقارنة بما تصرفه على جيشها ودستورييها، وهذا واضح في أضزاب العاملين في الإذاعة والتلفزيون وتوقف البث، وهذا يعكس إهمال حكومة الجنوب للإعلام المقروء والمسموع والمشاهد". من جانبه يوضح الأستاذ جون ليمي أن هناك مشكلة في الجنوب حالياً، حيث لا تتوفر الحريات " فالصحفيون هناك يعانون كثيراً مثلاً الصحفي نيال بول من صحيفة (سيتزن) كتب كلاماً يتناول فيه لماذا لا يوجد تغيير في الجنوب لمواجهة المشاكل فتم اعتقاله لمدة (3) أيام، ولم يتم إطلاق سراحه إلا بعد تدخل عدة جهات بينها اتحاد الصحفيين.. وهناك كثير من الأمور التي يستغرب الشخص حدوثها، فإذا تم كتابة حديث ضد حكومة الجنوب يتم اتهام صاحبه بأنه (جلابي) وهذا نوع غريب من التمييز ضد مواطني البلد الواحد". ومع ما يشهده الجنوب من مشكلات مختلفة هل ينفصل واقع الصحافة هناك عن الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة؟ ا لأستاذ آدم شالون مدير تحرير صحيفة خرطوم مونتر يؤكد على ذلك بالإشارة إلى أن الجنوب يعاني من بنية تحتية متدهورة " وبالتالي نجد الصحافة هناك متأخرة والإقبال على القراءة والإطلاع قليل جداً حيث لا توجد مطابع ولا ورق أو وسائل المواصلات للنقل والتوزيع، وحتى حركة الصحفيين صعبة لأن الجنوب أصلاً به مشاكل كبيرة وكثيرة، وأغلب مناطق الجنوب لا يمكن الوصول إليها بسبب عدم سفلتة الطرق". الإعلام يمكن أن يكون سلاح قوي جداً في محاربة الفساد. وتمنى شالون أن تتعاون الحكومة مع أجهزة الإعلام بصورة مفيدة وتتقبل النقد.. " نعم هنالك شح في المعلومات وذلك موجود في العديد من الدول والحكومات التي لا تحب التعامل مع أجهزة الإعلام، والإعلام يعكس الفساد سواء كان فساد اجتماعي أو مالي أو غيره". ويضيف الطاهر ساتي لحديثه " من الملاحظات أن كل الصحف التي تخاطب أهل الجنوب تصدر من الخرطوم، وهذا يدل على أن حكومة الجنوب عجزت عن توفير البنية التحتية لهذه الصحف حتى تستطيع الصدور من هناك". ويبين أن المطلوب من كل القوى السياسية الحريصة على الحرية والديمقراطية المطالبة بالحرية في الجنوب كما تطالب بها في الشمال، لأنه أجرينا مقارنة لوجدنا أن الحريات الموجودة في الشمال أفضل بألف مرة من الجنوب. اما الفاتح السيد فيري أن المشاكل القبلية قابلة لإنتاج إفرازات سالبة تؤثر على مجريات الأمور " فلابد أن يكون هناك إعلام مدرك لهذا البعد ويعمل على تغذية الوحدة داخل الكيانات والمؤسسات الجنوبية نفسها ونجد أن الإعلام مواجه بمشكلات وإفرازات الحرب الاجتماعية فكان لابد أن يهتم بالقضايا الخدمية والمشردين والأيتام والنزوح وقضايا اللاجئين في دول الجوار والألغام وكثير من القضايا التي تحتاج إلى إعلام يدرك أهميتها وكيفية طرحها وكيفية مشاركة الجميع في حلها، بالإضافة لإفرازات العلاقات مع دول الجوار (يوغندا، كينيا، أفريقيا الوسطى والكنغو) تحتاج لإعلام يدرك أثر هذه العلاقات والتوترات وأثرها بالإضافة إلى الاهتمام بنشر ثقافة السلام". المواثيق الصحفي تشدد على حرية الحصول على المعلومات وتداولها دون تمييز بين أجهزة الإعلام.. فإلى أي مدى التزمت حكومة الجنوب بهذا المبدأ؟.. الصحفية عفاف أبو كشوة تقول إنه " على أرض الواقع إن هناك قبضة أمنية استخباراتية مازالت مسيطرة على الوضع الإعلامي والصحفي في الحصول على المعلومة، مثلاً أنا كصحفية من الشمال ذهبت إلى جوبا لفتح ملفات حول البناء والتعمير والعودة الطوعية للاجئين بعد الاتفاقية، ولكني لم أجد استجابة من الوزارات ووجدت مماطلة، أي معلومة يأخذها صحفي من الشمال يفترض أن تمد عبر عدة قنوات، ورغم أن لدي علاقات على مستوى قيادات الحركة ولكن على مستوى التنفيذيين هناك تعثرات.. ويفترض أن لا يكون فرق بين صحفي شمالي أو جنوبي أو محلي أو أجنبي طالما أن هناك قوانين ديمقراطية". ومن الأمثلة التي يضربها الأستاذ جون " أن الأمور في الانتخابات لم تكن تمضي على ما يرام فقد كان الجنود يهددون المواطنين بالسلاح ويحملونهم على التصويت لمرشح معين، ورغم أن هناك صحافيون في هذه المراكز إلا أن من يكتب حول تلك التجاوزات يتم تهديده و تمزيق مقالته، هذا كله يدل على عدم وجود حريات في الجنوب، وأن الأوضاع ليس على ما يرام". وهناك تجارب شخصية تعرض خلالها صحفيون لممارسات تبين كيفية التعاطى الرسمي مع المهام التي يقومون بها، الأستاذة أبو كشوة توضح أنها تقدمت بمقترح لبرنامج إذاعي أسمته (النفير) ويعني بإعادة البناء والتعمير في المناطق الثلاث والجنوب، وقدمت في الوقت نفسه لتلفزيون الجنوب برنامج (التنوع الخلاق) وتمت الموافقة على الفكرة، وتشرح ما واجهته بالقول " بعد أن بدأت العمل في وسط أجواء صعبة في الخريف والحر فوجئت بقرار من الاستخبارات بإيقاف البرنامج حتى حل مشكلة أبيي، هناك شرائط مسجلة لديهم لا أدري ما مصيرها حتى الآن؟.. عرفت أنهم لم يكونوا راغبين في هذا العمل رغم أنني لم أطالبهم بمرتب". وخرجت هذه الصحفية بخلاصة مفادها " أن هذه عراقيل تدل على أن الحس الاستخباراتي الأمني طاغي". رئيس تحرير ذا ديمكرات يؤكد أن صحيفته تعرضت للتهديد حوالي أربع مرات وذلك بحضور مجهولين بواسطة عربات مظللة في أوقات المساء ويشرح الملابسات قائلاً " طلبوا من الخفير فتح مقر الصحيفة إلا أنه رفض، وقمنا بإبلاغ السلطات بهذه الممارسات، وكان هذا قبل فترة الانتخابات.. وأعتقد أن ذلك يرجع لعدم إعجاب البعض عن الحقائق التي نكتبها". الانتخابات التي جرت في جنوب السودان مؤخراً تفاءل البعض أن تحمل مؤشرات لبداية ممارسة جديدة في جنوب السودان هذا من حيث النظرية على الأقل.. لكن هل يصدق الواقع ذلك أم يكذبه؟ الأستاذ جون أشار إلى أن حكومة السودان وعدت بالتغيير والمجيء (بالسودان الجديد) وتبعاً لذلك كان لابد من عدم تعذيب المواطنين والسعي لتهديدهم، وهناك كثيرون نصحوا رئيس حكومة جنوب السودان بأن سير الأمور بهذه الطريقة أمر غير جيد، ولذلك لابد أن يكون هناك تغيير وإلا حدث الأسوأ، لأن هناك جنرالات تمردت على حكومة الجنوب نتيجة الفوضى والفساد والأخطاء التي تحدث، وهو ما يهدد بكارثة. ولكن الصحفية أبو كشوة ترى " أن مسألة تغيير المفاهيم السالبة خاصة تجاه الشمال ستأخذ وقتاً ، وتواصل: " رغم أننا صحفيين داعمين لمشروع السودان الجديد فإنهم يعاملوننا بهذه الطريقة فما بالك بالآخرين.. أنا لم أذهب منذ 2008م بالجنوب وأتمنى أن ما تم الاتفاق عليه بمعايير عالمية ينزل إلى أرض الواقع، وإذا كانت حكومة الجنوب أو الحركة الشعبية أدائها جيد في وزاراتهم فإنهم لا يخافون من الصحفي، لأنه يريد الحصول على المعلومة وهو مؤمن بميثاق الشرف الصحفي ، فلابد من إتاحة الحرية له. وإذا حكومة الجنوب أرادت تنفيذ مشروع السودان الجديد فأتمنى أن تعي أن الديمقراطية هي الحل الأمثل لكل القضايا وهي ما يستدعي الاعتراف بحرية الإعلام والصحافة وحرية التعبير. من جانبه لا يتوقع الأستاذ الطاهر ساتي حدوث تغيير في واقع الإعلام بعد الانتخابات، لأن الانتخابات لم تأت بجد وأبان " لا أتوقع في القريب العاجل أن يكون هناك إعلام يعبر عن أهل الجنوب بشفافية ونزاهة ". الأستاذ آدم شالون قال: يجب الاعتراف بالإعلام كسلطة رابعة حتى يشارك في بناء البلد بصورة إيجابية " وكون أن الإعلام يمثل سلطة رابعة هو مجرد كلام، وتطبيق ذلك غير موجود في الواقع، ولابد من الحماية الدستورية للإعلاميين حتى لا يتعرضوا للاعتقال والمضايقات، ولابد أن يكون هناك تعاون بين الحكومة وأجهزة الإعلام وأن توفر الحكومة مدخلات العمل الصحفي". ويتفاءل شالون رغم ذلك بأن هنالك مستقبل مشرق جداً للصحافة بالجنوب، ويقول " أفتكر أن الوضع ماشي إلى الأحسن وهناك تطور، وهي تطور طبيعي.. وإذا تواصل هذا التطور بنفس الوتيرة التي سار عليها منذ 2005م فسوف يشهد الجنوب طفرة كبرى". دور الإعلام في الجنوب في تقدير الفاتح السيد يوازي دور الجهات السياسية والتنفيذية "ولذلك لابد من الاهتمام بالإعلام من قبل حكومة الجنوب والإشراف والتخطيط حتى يسهم في حل هذه القضايا، وهي قضايا بارزة ومعقدة تحتاج إلى اتزان في الطرح وجرأة ومصداقية في التناول، ولابد لحكومة الجنوب أن توفر التدريب للكادر الجنوبي وتوفير المعلومات ولابد في الإيمان برسالة الإعلام والمساهمة في خلق قاعدة الصحفي الحر الذي يستطيع أن يمارس مهنته بحرية".