منذ ستة عقود ومازالت إسرائيل تتحدّى العالم العربي، في السياسة والاقتصاد، في العلوم والتكنولوجيا، في حالة الحرب واللا حرب، في إدارة المجتمع والدولة، في التعاطي مع تحدياتها الداخلية كما الخارجية. المشكلة أن هذه الدولة التي يقال بأنها مصطنعة (وهذا صحيح نسبة لعوامل نشوئها) وهو قول لا يبتغي تبصّر سبل مواجهتها بقدر ما يبغي الحطّ من شأنها تبدو أكثر استقرارا ورسوخا وقدرة على التكيّف والتطور، من غيرها من دول المنطقة؛ وعلى صعيدي المجتمع والدولة. معلوم أن إسرائيل التي تشكل جزء صغيرا من العالم العربي، على الصعد السكانية والجغرافية والموارد الطبيعية (3 بالمائة في التعداد البشري)، تبدو أكبر بكثير من حجمها، وأكثر قدرة على تعظيم مواردها. ومثلا، فإن الناتج الإجمالي لإسرائيل (220 بليون دولار) يشكّل 11 بالمائة من الناتج الإجمالي لمجموع الدول العربية، أو خمس ناتج هذه الدول بدون عوائد الثروة النفطية. أما إذا احتسبنا ناتج إسرائيل بالقياس للدول المجاورة لها (مصر والأردن وسورية ولبنان)، فسنجد أنه يكاد يساوي ناتج تلك الدول مجتمعة، برغم أن الفارق في عدد السكان (6.5 مليون مقابل 100 مليون) والمساحة والموقع والموارد لا يعمل لصالحها. وما يلفت الانتباه أيضا أن الميزانية السنوية لإسرائيل (85 بليون دولار) تساوي ميزانية الدول العربية الأربعة المذكورة، مع فارق جوهري هو أن نصيب الفرد في إسرائيل من الإنفاق العام يبلغ حوالي 8500 دولارا (في السنة)، في حين انه في الدول المذكورة يقدر بحوالي 850 دولارا فقط! ومعنى ذلك أن الفرد في إسرائيل يتلقى خدمات من دولته تقدر بعشرة أضعاف ما يتلقاه الفرد في الدول العربية المذكورة (في التعليم والصحة والأمن والبيئة والبني التحتية)؛ ما يتيح لإسرائيل التميز والتفوق في المنطقة، وبالخصوص على مجموع الدول المحيطة بها. وما يؤكد قدرة هذه الدولة على التطور، أكثر من غيرها، رغم التحديات الداخلية والخارجية التي تعترضها، ارتفاع نتائجها من مئة بليون دولار مع مستوى دخل للفرد قدره 18 ألف دولار، قبل عقد من الزمان، إلى 230 بليون دولار مع مستوى دخل للفرد قدره 27 ألف دولار (متوسط الدخل في الدول المجاورة يبلغ حوالي 2700 دولارا). أيضا، في هذا الاتجاه يمكن ملاحظة ارتفاع القدرة التصديرية لإسرائيل من السلع الصناعية التحويلية، من 30 بليون دولار (عام 2000) إلى 40 بليون دولار (عام 2010)، ما يوازي القدرة التصديرية لمجمل الدول العربية، من الصناعات التحويلية، وهو يساوي ربع ما تنتجه هذه الدول من هذه الصناعات (وقدرها 168 بليون دولار)، مع الفارق أن 70 بالمائة من صادرات إسرائيل الصناعية تأتي من قطاع التكنولوجيا العالية؛ علما أن القوة التصديرية للدول المجاورة لإسرائيل تساوي 10 بليون دولار، من السلع الصناعية التحويلية (بحسب التقرير الاقتصادي العربي لعام 2008). وبينما تشكل عوائد النفط حوالي 45 بالمائة من حجم الناتج الإجمالي للدول العربية، فإن عوائد الصناعات التحويلية تشكل حوالي 9 بالمائة منه فقط (عام 2008)؛ في حين إنها تشكل 21 بالمائة من عوائد الناتج الإجمالي في إسرائيل. والحال ليس أفضل في المجال الزراعي، حيث بلغ الناتج الزراعي للدول العربية 103 بليون دولار (عام 2008)، ما نسبته 5.4 بالمائة من الناتج العربي الإجمالي، رغم أن 25 بالمائة من القوة العاملة العربية تعمل في الزراعة (مقابل 60 بالمائة في مجال الخدمات و15 بالمائة في مجال الصناعة)، ورغم المساحات الشاسعة. وما يدلل على التخلف في مجال الزراعة، أيضا، تدني الصادرات الزراعية العربية (حوالي 15 بليون دولار)، في حين أن العالم العربي يستورد ما قيمته 35 بليون دولار، ما يرفع فاتورة الغذاء العربية. ومثلا فإن السودان، الذي يفترض انه سلة غذاء العالم العربي، يصدر ما قيمته 179 مليون دولار، فقط، من المنتجات الزراعية (بالمقارنة مع إسرائيل التي صدرت عام 2006 صادرات زراعية بحوالي بليون دولار). ثمة معايير أخرى، أيضا، فالعالم العربي يعاني من ارتفاع نسبة الأمية التي بلغت 28 بالمائة عند البالغين، ومن تزايد نسبة البطالة (30 بالمائة بين الشباب)، وكذا من ارتفاع مستوى الفقر حيث ثمة 25 مليونا يعانون من سوء التغذية، وثمة واحد من كل خمسة أشخاص تحت خط الفقر (دولاران يومياً)! (بحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009). أما بالنسبة لمجال الإنفاق على التعليم في الدول العربية فهو جد متدني، (4 بالمائة من ناتجها الإجمالي)، ما يعادل حوالي 270 دولارا للفرد، في حين إنها تشكل 8 بالمائة من إجمالي الناتج السنوي في إسرائيل؛ بحيث أن حصة الفرد في إسرائيل من الإنفاق على التعليم تعادل عشرة أضعاف الحصة المقررة للفرد في العالم العربي! وبينما ينفق العالم العربي أقل من 1 بالمائة من ناتجه السنوي على البحث العلمي تنفق إسرائيل 4 بالمائة في هذا المجال (ما يعادل إنفاق العالم العربي)، لكن الفارق يظهر في حصة الفرد من الإنفاق على البحث العلمي، حيث تبلغ في العالم العربي حوالي 65 دولارا، في حين أنها تبلغ حوالي 1100 دولارا في إسرائيل، وذات الأمر ينطبق على الإنفاق الصحي. ولعل كل هذه الإحصائيات تفسّر قول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق شامير من "أن إسرائيل هي نصف الشرق الأوسط" (دافار 29/9/1991)، مثلما تفسر، أيضا، إعاقة إسرائيل لمشاريع التعاون الشرق أوسطية، التي طرحت منذ بداية عقد التسعينيات، رغم كل الميزات المتضمنة فيها لإسرائيل، وذلك إصرارا منها على انتمائها للغرب وليس للشرق، لأوروبا وليس للشرق الأوسط! طبعا ثمة من يحيل تفوّق إسرائيل إلى مجرد دعم الغرب (وخاصة الولاياتالمتحدة)، ودعم يهود العالم لها، لكن هذا الاستنتاج لا يفيد في إدراك عوامل قوة إسرائيل الذاتية، والأهم انه يحجب العوامل التي تكرّس تخلّف الواقع العربي في مواجهتها. وفي الحقيقة فإن بضعة مليارات من المساعدات الخارجية لإسرائيل سنويا لا تشكل سوى جزءا بسيطا من العوائد النفطية، التي ارتفعت من 103 بليون دولار (عام 1995) إلى 424 بليون دولار(عام 2005) إلى 824 بليون دولار (عام 2008)، مثلما لا تشكل رقما مهما بالقياس للأموال التي يجري هدرها في ظل تفشي علاقات الفساد في الواقع العربي. وفي الحقيقة فإن إسرائيل تستقر وتتطور بسبب من طبيعة نظامها السياسي (الديمقراطي بالنسبة لمواطنيها اليهود)، والقائم على الإدارة الحديثة، وفصل السلطات، وحكم القانون، وحرية الأحزاب، وتداول السلطة. وكذا بسبب احترامها للحريات الفردية وللتعددية (اليهودية) فيها، واهتمامها بأحوال مواطنيها (التعليم والصحة والضمانات والخدمات الاجتماعية)، وخضوع حكوماتها للمساءلة والمحاسبة. لكل هذه الأسباب تتفوق إسرائيل على العالم العربي (وليس فقط لأسباب عسكرية أو لأسباب الدعم الأمريكي لها)، ولهذه الأسباب، أيضا، يعجز العالم العربي عن اللحاق بها، أو تحديها، في المجالات المذكورة. ولعل كل ذلك يفسر، أيضا، تجرؤ إسرائيل على عصيان الإدارة الأمريكية، وإصرارها على فرض أولوياتها وامتلاءاتها في عملية التسوية (على الفلسطينيين والعالم العربي)؛ رغم كل الضغوط التي توجه لها. ففي إسرائيل هذه يمكن أن يظهر من يتحدى كل البديهيات، فيطرح مسألة إقامة سلطة للفلسطينيين في الضفة وغزة (1993)، ومشاريع التعاون الاقتصادي (الشرق أوسطية)، والانسحاب الأحادي من جنوبي لبنان (2000)، ومن قطاع غزة (2005)، وإمكان عقد سلام مع سورية، ولو بثمن التنازل عن الجولان. وهي ذات إسرائيل التي تصدر منها اليوم اصواتا، من اليمين المتطرف، تطرح مسألة نقل أراضي منها إلى الدولة الفلسطينية (ولو في نطاق تبادلي وعنصري)، وإنهاء الحصار عن غزة، وإقامة دولة واحدة (بدلا من حل الدولتين) ولو تطلب الأمر إعطاء جنسية إسرائيلية للفلسطينيين في الضفة. ولم لا؟ فإذا كان الواقع العربي على هذا النحو، فليس ثمة ما يضطر إسرائيل للحرب، وليس ثمة ما يضطرها للسلام أيضا.