لا يعرف قيمة السلام إلّا من عاش سنوات الحرب.. ولا يدرك قدر التنمية إلّا من ذاق مرارة الحرمان. عملاً بتلك الحقيقة فإن سكان ما كان يعرف في السابق (بالمناطق المقفولة) باتوا هم الأكثر تمسكاً بالأمن الذي تحقق في ربوع قراهم، وهم مشغولون أكثر من غيرهم بوصول مشروعات التنمية إليهم. في جنوب كردفان وتحديداً وسط الجبال كانت كلما ذكرت (كاودا) أو (كودا) كما يسميها أهلها، رجع الناس بذكراتهم إلى فترة الحرب بكل مراراتها التي دفع ثمنها السكان البسطاء لسنوات خلت، حتى ظن الناس أن من يقطن تلك المناطق لا يحمل إلا التوحش وعدم الثقة في كل ما هو غريب. حتى مارس الماضي كان لا أحد يأمن على نفسه من دخول (كودة) في وضح النهار.. فرغم توقيع اتفاق السلام في جبال النوبة عام 2002م وبروتوكول جنوب كردفان في 2005م إلا أن الأمن لم يعرف طريقة إلى تلك المنطقة إلى مؤخراً.. ولأن الأمن يسحب معه الانفتاح والذي تقود بدوره إلى التنمية، فإن الداخل اليوم إلى المنطقة التي صار يشار إليها بالبنان يدرك أن كاودا شهدت خلال (4) أشهر فقط لما لم يتاح إليها منذ عشرات السنين. وسط الجبال التي يمسك بخصرها الغمام في الأجواء الماطرة تدب الحركة دؤوبة لإنجاز عدد من المشروعات دفعة واحدة، ونحن نهبط إلى المنطقة لم نكن نحسب أن تلك الجبال المنتشرة والتي تكسوها الخضرة وتتناثر فيها (القطاطي) المصنوعة من القش، لم نحسب أن تجد يد التنمية طريقاً نحو أماكن (لا يمكن الوصول إليها) .. لكن مع الإرادة وقوة العزيمة كان من الممكن أن تجد العمال يعملون ليلاً ونهاراً لإنجاز مستشفى (كودا) وهو أكبر من كونه مستشفى ريفي يستقبل الحالات الطارئة فقط، وأثناء تجولنا مع وفد من وزراء حكومة جنوب كردفان للوقوف على ما تم في مشروعات التنمية التي ستولد أوائل الشهر المقبل على يد نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه، لمسنا كيف أن هم القائمون على الأمر هو توسيع المستشفى ليشمل عنابر للأطفال وغرف خاصة للأمراض المستعصية، هذا فضلاً عن توفير مقومات الرعاية الصحية الأولية والمعمل والعنابر وحتى استراحة الأطباء، وتحقيق ذلك كله يعني ألا يموت من يمرض من سكان كاودا نتيجة الإهمال أو بعد مركز الولاية عن المنطقة. المستشفى ملحق بمولد يضمن استمرارية التيار الكهربائي وبالتالي انتظام وعدم تأثير الخدمات المقدمة، رحابة المستشفى واتساع مبانيه لا تجعلك تظن أنك في إحدى المناطق التي كانت تعرف بالمغلقة حتى وقت قريب، فهو لا يقل شأناً عن أفضل المستشفيات الحكومية في المركز والمدن. وما يبعث على الاطمئنان أن هناك عدة جهات ومنظمات بإمكانها توفير المعدات والأدوية للمستشفى وعلى رأسها ديوان الزكاة الذي يسهم بمبلغ مليون جنيه لبناء مرافق صحية وصيانة ما هو قائم منها بولاية جنوب كردفان عامة بالتركيز على المناطق الأكثر حاجة. مبنى أمانة الحكومة بكودة شيد على طراز عالي بحيث يواكب الطفرة العمرانية التي تتناسب مع طبيعة المنطقة ويليق بالمنطقة التي باتت تمثل العاصمة الثالثة لجنوب كردفان، فالأثاث الوثير سيستضيف اجتماعات مجلس وزراء حكومة الولاية التي ستعقد بالتناوب بين مدن كادوقلي والفولة وكاودا وأبو جبيهة المدينة الاقتصادية الأولى، ولعل لهاذ التدوير أهمية خاصة في محاربة مفهوم عدم زيارة المسؤولين للمناطق البعيدة وبالتالي عدم الإحساس بما يعانيه أهلها، إذن فمن شأن ذلك الحضور أن يجعل قضايا المنطقة حاضرة ضمن الأجندة الرسمية للاجتماعات. أما مدرسة الشيخ علي عثمان محمد طه الثانوية كانت بحق قلادة في صدر الجبال ودلالة على المكانة الموضوعة للتعليم الذي يعتبر الأساس لكل تنمية لأنه يعني بالإنسان الذي يعتبر الرأسمال الحقيقي للتنمية، فدون وجود العقول التي تخطط وتفكر لن تشهد أي منطقة انطلاقة حقيقية تواكب بها متغيرات الزمان. بعض الحاضرين لشدة انبهارهم بالصرح اقترحوا مباشرة تحويل المدرسة إلى جامعة، إذ أن شكل البنيان واتساع الفصول وجودة الأثاث تؤهل المدرسة لهذا الارتقاء. أما الداخلية الملحقة بالمدرسة فإنها لا تقل شأناً، من حيث رحابة الداخليات وتوفر ما يعين الطالبات على التحصيل العلمي خاصة وأنها تستطيع استيعاب من يأتي منهن من القرى والمناطق البعيدة. أكثر ما أثار الانتباه في المشروعات التي انتظمت كاودا التي كأنها وجدت عصا موسى التي تشق بها ظلمات التخلف والإهمال، هو ذلك المبنى الذي يمضي به العمل بكل جد من العاملين، ولم نجتهد لنعرف من خارطة المبنى وتعدد أعمدته بالداخل أنه مسجد كاودا العتيق الذي كان مشيداً بالمواد المحلية لتحل محلها (الخرصانة والطوب الأحمر والأسمنت) ويتحول ضيق المسجد بالمصلين إلى مساحات رحبة تسع كل من يسعى إلى الصلاة .. وبمثلما شملت التنمية الجوانب المادية امتدت يدها لتطال تعمير الروح المفعمة بالإيمان. ولم نستغرب ونحن نجد من ضمن الذين ينقلون (المونة) على ظهورهم شيخ كبير امتد الشيب إلى رأسه ولحيته ولكم أن تتخيلوا شعور الجميع وهو يُقدم إلينا على أنه إمام المسجد الذي يؤم المصلين في الجمعة والجماعات، تواضع العالم الذي يتنادى له أهل المنطقة لسماع حديثه جعله من السابقين للأجر والثواب الجزيل دون ترفع أو استعصام بمكانة نالها بعلمه وتقواه. ولم تقف التنمية عند هذا الحد فهناك محطة الكهرباء التي هي عصب الحياة الموعودة في كاودا، لذلك كان اهتمام المسؤولين الزائرين في الرحلة بتوفير كل ما يلزم من وقود ليضخ الحياة في شرايين المدينة حتى يجد طلابها الإنارة للمذاكرة وعمالها الطواحين لطحن محصولهم، كما أن مركز الشرطة وقفت مبانيه شاهقة دلالة على أن الأمن يقف شاهداً على مدى الاستقرار الذي تحقق للمنطقة التي عاشت التوتر والخوف، وكانت لفتة من أحد وزراء الولاية وهو يطلب أن تفتح له الحراسة ليقابل المحتجزين ويسألهم عن أحوالهم داخل الجدران الأربع ويوجه مسؤول الشرطة بضرورة معاملتهم بصورة كريمة حتى يقضوا فترتهم. المك حسين كُبي مك أطورو كان أكثر الناس سعادة بما يراه حوله فهو لا ينفك يردد أن هذه التنمية كانت مفقودة على مر الأزمان، كما أن مجيء الوالي أحمد هارون ونائبه عبد العزيز الحلو جلب الاستقرار للمنطقة، ولأن الرجل يدرك أحاسيس جميع أهل كاودا فقد تحدث لسانهم قائلاً: الشعب هنا مبسوط ومرتاح، وكل أبنائنا الذين جاءوا للعمل في مشاريع التنمية دخلوا القلوب من أوسع أبوابها، ونحن نعجز عن شكرهم. المك يفتخر بما عندهم بالقول: البلد حباها الله بخيرات كبيرة، ففى هذه الجبال أكثر من (15) معدن وأراضي زراعية واسعة ومياه تجود بها الأمطار بكثافة، ولو تم إنشاء سدود ستكون كاودا منطقة سياحية تنفع السودان كله. ويتهكم المك من الذين يقولون ان سكان هذه الجبال منغلغلون ويرد عليهم (اسألوا من جاء إلى هنا .. النوبة أهل حضارة ونحن أحفادهم، لذلك نحن متحضرون مثلهم ولا نرفض مجيء الناس). معتمد كاودا كمال النور الذي قام بواجبه تجاه الزائرين للمنطقة التي تتبع لمحلية هيبان، وصف المشروعات التي قامت في كاودا بأنها جذابة وطموحة أرضت المواطنين خاصة وأنها تقدم لهم خدمات شافية وكافية.. وقال ان هذه المشاريع تمثل جذوراً للثقة بين كافة المواطنين خاصة أنها كبيرة رغم أنها تمت في فترة قصيرة. وبهذا تحنى الجبال الشامخات هاماتها تواضعاً أمام التنمية التي أعادت لهم الثقة في أنفسهم وفي من حولهم .. فالاهتمام الذي حظيت به كاودا جعل من استعصموا بالجبال ينزلون إلى الأرض، فالجميع هنا بدأ يمارس حياته الطبيعية خاصة في الزراعة التي تنادى إليها الصغار والكبار، الرجال والنساء، فنعمة الأمن جلبت بركة السماء بشكل غير مسبوق، وكما قال كاتب القبيلة على لسان المك: إن الأمطار التي بدأت تشهدها المنطقة هذا العام غير مسبوقة منذ سنة 1950م. وهنا يستدل المك المثقف العالم بامور دينه بالآية (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض).