مع الإعلان الرسمي لميلاد جمهورية جنوب السودان يبقى الود والروابط الاجتماعية هي أبرز ما يربط بين جمهورية السودان والسودان الجنوبي، وكذلك تبقى القضايا العالقة هي أبرز ما يعكر صفو العلاقة بين البلدين، حيث يحتدم الجدال السياسي بين الحزبين الحاكمين هنا وهناك (شريكي الحكم حتى الأمس القريب) حول قضايا خلافية تؤخر حسم أمر الملفات العالقة. وتبقى كذلك مسألة الحدود بين الدولتين هي أبرز القضايا التي لم تحسم بعد، وما يميز مسألة الحدود بين الدولتين ليس هو طولها فحسب، ولكن كذلك تعقيدات المسائل المرتبطة بالحدود والتي بحسب تصريحات إعلامية لرئيس لجنة ترسيم الحدود أنه تم ترسيم أكثر من ثمانين بالمائة منها، غير أن النسبة المتبقية وهي أقل من عشرين بالمائة ترتبط بأكثر القضايا حساسية مثل موضوع أبيي وحفرة النحاس وكفياكنجي وغيرها، وكلها أماكن بانتظار تحديد تبعيتها للشمال أو الجنوب. وتخضع هذه التبعية لحد كبير لأعمال إجرائية أو فنية ليس إلا، أما مسألة التداخل القبلي على الحدود ومسائل المرعى والحقوق التاريخية للقبائل فتحددها أعراف دولية وإنسانية يعرف السودانيون ربما أكثر من غيرهم كيف يتعاملون معها، فهي تشابه لحد كبير حقوق القبائل التاريخية في الرعي في غرب وشرق وشمال السودان. بعد ذلك تبقى قضية الإرادة السياسية لإدارة العلاقات الحدودية وهي إرادة تتجه للتوتر وسوء الجوار أم لحسن الجوار وتهدئة العلاقات عبر الحدود؟. يحاول المركز السوداني للخدمات الصحافية استعراض ملامح هذه العلاقة على خلفية وجود العديد من الحركات المسلحة التي تحاول اتخاذ أراضي الدولة الجديدة كأرضية للانطلاق نحو السودان وبخاصة دارفور. نهاية علاقة قديمة ارتبطت حركات التمرد في دارفور لحد كبير بالحركة الشعبية لتحرير السودان، مثلها في ذلك مثل حركات التمرد في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان، وذلك انطلاقاً من استراتيجية الحركة الشعبية الرامية لشد السودان من أطرافه وصولاً لكيكة السلطة والثروة في الخرطوم. وفي هذا الإطار عمدت الحركة إلى تغذية كل بؤر التمرد بالسلاح والمال إن لزم الأمر، وقد بدأت هذه العلاقة تضح في دارفور عندما أمدت الحركة الشعبية داؤود يحيى بولاد بالسلاح وبمتحرك عسكري كامل مهمته توصيل السلاح وتدريب المتمردين المحتملين في دارفور على السلاح، إلا أن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح حيث تم تدمير المتحرك وقتل داؤود يحيى بولاد في شتاء عامي 1990م / 1991م وبعد ذلك لم يسمع الناس شيئاً عن علاقة الحركة الشعبية بالتمرد في دارفور حتى وقف الفريق حسين عبد الله جبريل رئيس لجنة الأمن والدفاع آنذاك بالمجلس الوطني في فبراير 2002م وهو يحذر الناس من تمرد قادم في دارفور، ويقدم تقريراً أكد فيه مشاهدة طائرة صغيرة طراز سيسنا تتبع للحركة الشعبية تهبط مراراً في أعالي مرتفعات جبل مرة لإمداد المتمردين بالسلاح. قويت علاقة الحركة بالتمرد في دارفور أثناء مفاوضات السلام، وذلك لأن الحركة لم تتوانى عند استخدام التمرد في دارفور بقيادة عبد الواحد ومناوي كوسيلة ضغط للحصول على أعلى سقف للتنازلات من الحكومة السودانية، وبالأخص إقرار مبدأ تقرير المصير الذي ظلت كل حركات التمرد في جنوب السودان تنادي به بحسب ما يرى الدكتور آدم محمد أحمد عميد كلية الدراسات الاستراتيجية في جامعة الأزهري، وبعد ذلك تدهورت العلاقة بين متمردي دارفور والحركة الشعبية حينما وصلت الحركة للسلطة في الخرطوم وحققت هدفها الرئيس المتمثل في الإقرار بمبدأ تقرير المصير - والحديث لا يزال لدكتور آدم- فلم تلتفت لحركات التمرد في دارفور، وحتى عندما عقدت مؤتمر جوبا كان الهدف منه جمع المتمردين تحت لواء حليفها القديم في دارفور أحمد عبد الشافع، وذلك كوسيلة ضغط أخرى لما ترى الحركة أنه تقاعس من المؤتمر الوطني في إنفاذ بعض بنود الاتفاق. ولما لم تفلح محاولتها التي انتهت بمأساة اغتيال صديق مساليت ومن معه لجأت الحركة للمواجهة المباشرة بتعليق عضويتها في البرلمان وفي مجلس الوزراء. بعد ذلك لم تلتفت الحركة لمتمردي دارفور إلا قبيل إجراء الاستفتاء على مصير جنوب السودان، حيث عمدت لإعادة استقطاب عبد الواحد وأحمد عبد الشافع ومناوي في محاولة للضغط على حكومة الخرطوم خوفاً من تأجيل الاستفتاء أو من عدم الاعتراف بنتائجه على أسوأ تقدير. وبعد أن تم الاستفتاء والاعتراف بنتيجته التي أصبحت واقعاً بعد الإعلان الرسمي بالاعتراف بجمهورية جنوب السودان في 9 يوليو 2011م، بدت رؤية الحركة الشعبية وحكومة الجنوب غير واضحة في التعامل مع متمردي دارفور الموجودين حتى الآن في جوبا وبعض نواحي جنوب السودان الأخرى، ولا يزال شبح تغذية التمرد في دارفور يطل برأسه في ظل العديد من المتغيرات السياسية والإقليمية. علاقات سلمية عند بداية العد التنازلي لنهاية الفترة الانتقالية بدأت التصريحات في جانبي السودان تؤكد على سلمية العلاقة واستراتيجيتها وخصوصيتها، حيث أتت التصريحات عبر أعلى مستوى في الحكم، فقد صرح الرئيس البشير عقب اجتماع مجلس شورى الحزب بالخرطوم في بدايات يوليو الجاري أنه يريد علاقات أخوية بين الشمال والجنوب، وهو ما أكده بعد ذلك عقب حضوره قمة الإيقاد الأخيرة بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، حيث أكد الرئيس البشير على أن العلاقة بين الشمال والجنوب ستكون على أسس سلمية يتم فيها تبادل المنافع المشتركة، وإن القضايا العالقة يمكن أن تحل بالحوار. وفي ذات الإطار أتت تصريحات الفريق أول سلفاكير ميارديت رئيس حكومة جنوب السودان لدى لقائه سفراء دول الاتحاد الإفريقي بالسودان في الاسبوع الأخير من الشهر المنصرم، فقد أشار إلى أنهم حريصون على إقامة علاقات جيدة مع الشمال عقب الانفصال. وقد كرر سلفاكير ذات المعنى بلهجة مختلفة خلال اجتماع لجان الحركة الشعبية للتحرير في مارس الماضي، حيث أكد أن ما يربط شعب جنوب السودان وشمال السودان أكبر من كل المصالح الضيقة - بحسب وصفه – وفي ذات اللقاء وجه الفريق سلفاكير لجان الحركة بالانخراط في المباحثات من أجل تحقيق كل ما من شأنه خدمة مصالح شعبي جنوب وشمال السودان، وأكد أنه سيعمل على خلق علاقة استراتيجية بين الشمال والجنوب هدفها الأول خدمة المواطن الذي يجب ألا تتأثر مصالحه بقيام دولتين. وعقب الاجتماع الذي ضم نائب الرئيس علي عثمان محمد طه وسلفاكير في غينيا -حيث حضرا القمة الإفريقية الأخيرة - اعتبر سلفا أن ما يدور من تفلتات في بعض مناطق البلاد لا يعدو أن يكون حالات انفلات أمني من بعض العناصر، وأبدى سلفا استعداده لحل المشكلات بين الجنوب والشمال حتى تنعم الدولتان بالأمن والاستقرار في المرحلة المقبلة. هذا ما كان عليه الأمر من تصريحات المسئولين الرسميين، أما على المستوى الاجتماعي والشعبي فقد أجهش الشماليون والجنوبيون معاً بالبكاء في حفلات الوداع الرسمية التي أقامتها مختلف المؤسسات الحكومية لوداع الجنوبيين العاملين بها قبيل التاسع من يوليو، حيث تم وداع زملاء العمل لسنوات وعقود بعضهم البعض في أجواء مشحونة بالعاطفة والانفعالات الوجدانية وصلت لدرجة البكاء، حيث كان الوداع غالباً بالأحضان والدموع وهو أمر يجسد عمق العلاقة في المجتمع الواحد. محاذير محتملة كل التصريحات الودية والعبارات التي تفيض حسن نية لا تنفي حقيقة كون أن مناوي وجزء مقدر من قواته لا يزالون في أراضي جنوب السودان يهددون بالحرب على دارفور. وقد صرح مناوي للصحافيين عبر الهاتف من جوبا في اللقاءات الصحفية التي عقدتها حركته في دارها بأم درمان قبل إقالته أنه موجود داخل السودان، وتساءل لماذا يتخوف الناس إن خرج مناوي من الخرطوم للفاشر أو لجوبا؟ أليس من حقه أن يتجول داخل وطنه السودان؟ لكن تصريحات مناوي هذه أصبحت من الماضي، فهو الآن سوداني مقيم في دولة أخرى، وإن اتخذ هو أو غيره من أراضي هذه الدولة قاعدة انطلاق لمهاجمة السودان والاعتداء عليه، فإن ذلك بالتأكيد سيكون له ظلال سالبة على العلاقة بين الدولتين اللتين لا تعتمد علاقتهما على العواطف الاجتماعية والوداد السكاني، ولكن هناك مصالح تجارية واقتصادية ليس أولها البترول وليس آخرها طرق التجارة التي تغذي شرايين الجنوب عبر الشمال، وتمتد هذه العلاقات لمصالح استراتيجية تضمن استقرار الدولتين على المستويات كافة. وهناك أيضاً مياه النيل وغيرها من المصالح التي يهددها قيام متمردي دارفور بأعمال عدائية تجاه الشمال انطلاقاً من أراضي الجنوب، وتتهدد هذه المصالح أكثر إذا قام الجيش الشعبي بتسليح هؤلاء المتمردين. ويبدو أن مدير جهاز الأمن الفريق أول محمد عطا قد اختار طريقة الإنذار المبكر وهو ينبه لخطورة وجود متمردي دارفور بجنوب السودان قبل حوالي 72 ساعة من إعلان ميلاد الدولة الجديدة، حيث حذر من مغبة وجود متمردين دارفوريين في الجنوب واحتمال قيامهم بأعمال عدائية. ولا تبدو تصريحات المسئول الأمني استباقاً للأحداث بقدر ما هي حرص على سلمية العلاقة المتجذرة بين الدولتين، وذلك لأن العلاقة بين متمردي دارفور والحركة الشعبية علاقة براغماتية تحكمها المصالح المتبادلة بين الطرفين، فبينما تستغل الحركة الشعبية متمردي دارفور كورقة ضغط للحصول على مكاسب سياسية أو تحقيق أجندة تفاوضية، يستغل متمردي الحركة الشعبية للحصول على السلاح وإيجاد مدخل لعلاقات دولية تضمن للمتمردين الدعم السياسي والدبلوماسي على المستوى الدولي، وهو ما حاول عطا أن ينبه له بأن مصالح الشمال والجنوب لا تحتاج إلى ذلك، وأن التعقيدات الإجرائية والفنية في القضايا العالقة لا تحتاج إلى تعقيد إضافي يهدد السلم والأمن بين الدولتين وينسف الاستقرار بتبني حرب بالوكالة، فهل تقوم الحركة الشعبية بطرد متمردي دارفور من الجنوب حرصاً على سلمية العلاقات، أم أن رؤية الحركة حول متمردي دارفور لا زالت قيد النظر؟ هذا ما ستسفر عنه الأيام.