د. بشير البكري النحاس برغم ما تتعرض له البلاد من عناء هذه الأيام، كوارث بشرية أو طبيعية، تلوح في الأفق أضواء الأمل والخروج من النفق والعودة إلى الاستقامة إن صلحت النيات وصلبت الإرادة والعزيمة ويسعدني أن نتبادل الرأي في تأملات هذا الأسبوع حول عمل صالح قامت به «يونيكونز» للاستشارات وعلى رأسها الوزيرة «عابدة المهدي» متعاونة مع مشروع الأممالمتحدة الإنمائي. وعلى رأسه صديق السودان د. جيرزي سكرتاويز Jerzy Skuratuwiez مدير المشروع، وعلى مشهد من العصف الذهني اشترك فيه أساتذة الجامعات ورجال وزراء المالية والواعدون والصحافة المتخصصة الواعية والعفيفات السيدات، وأخص بالذكر وزراء مالية الولايات، وقاد الكوكبة بحكمة ومهارة البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله صاحب الرئاسات المتعددة وخصوصاً جمعية الأممالمتحدة وقد أخذ الموضوع «الإنفاق في الميزانية ومعالجة الفقر وأهداف التنمية المستدامة» نهاراً كاملاً من يوميات قاعة الصداقة. ورقة «المختبر العلمي» الأولى «التحليل العلمي لآثار إنفاق الميزانية في مكافحة الفقر الذي لا زال «رجلاً عصياً على القتل»، والورقة الثانية «مؤسسات هذا العمل ومهارته البشرية» للأستاذ الجامعي «د. أحمد البدوي»، وأخيراً «تقسيم الثروة وتوزيع الموارد العامة» وسنكتفي هذه المرة بتلخيص الأوراق، أما النقاش الثر الفني فقد نؤجله لمناسبة أخرى. ~e~وليسمح لي بملاحظات عامة:~e~ أولها: لم يعد موضوع الميزانية شأناً خاصاً للمحترفين من ذوي الرأي وزالت «كهنوتية» وأصبح من اهتمامات المجتمع كله واختلفت فيه مبادئ الإدارة المالية العامة، وإدارة القطاع الخاص الراشدة والحاكمة، وأحب أن أسجل هنا دعوة الاقتصادي الكبير د. بابكر التوم رئيس اللجنة المالية بالمجلس الوطني الى جلسة علنية بالمجلس تتناول هذا الموضوع وما كان يحدث هذا حتى في أيام المرحومين حماد توفيق، ومأمون بحيري، والشريف حسين، وبدر الدين سليمان، وأصبح هذا الموضوع من أساسيات المواطنة وحقوق الإنسان. والثانية، كان بودنا لو حضر وزير المالية، بل وزراء الأمن والزراعة والصناعة والطاقة والرعاية، فالأمر يعنيهم جميعاً ولكني أود أن أسجل تحية خاصة لوزراء الولايات الذين أسهموا عن خبرة ووطنية في النقاش وأخذوا بثأرهم من وزراء المركز بل المركزية بصفة عامة. والثالثة: أنه ولأول مرة تناول النقاش موضوع تقسيم الثروة بعد معاهدة السلام الشاملة «C.P.A» نيفاشا وما بعدها وأصبح من حق «محمد أحمد» أن يدرك هذه المعاني للديمقراطية المالية واتحفنا عشاقها بملاحظات حرة بناءة - ذلك أن تقسيم السلطة بلا ثروة وموارد لا معنى له ولئن تركز النقاش إلا ما ندر في التوزيع الرأسي بين سلطات الحكم، وغيبة الجنوب للأسف ولا أقول الجنوبيين فلا هوية هنا في الوطن الواحد بإذن الله ونرجو أن نتناول التوزيع الأفقي فإن الفقر عندنا له جهات أربع ومكافحته دالة السلام وأولى بأن يبذل فيها النفس والنفيس. الورقة الأولى: ورقة «المبادئ» التي تحكم التحليل العلمي للإنفاق الموجه لمكافحة الفقر، وقد قدمتها البارعة «عابدة» في إنجليزية فصيحة، وبخطاب مقتدر رفعت بقدرتها لا رأس النساء ولكن قبلهن الرجال! وأبدأ بالجزء الأخير من الخطاب: مستلزمات الإدارة المالية، والتأهب والاستعداد السياسي للإصلاح وإشكاليات «الإنفاق التنموي» وذلك: 1- بتوجيه أرباح ارتفاع أسعار النفط الى التنمية (ممانعة مرض البترول المعروف أزمة الغذاء العالمي «فرصة» لزراعتنا يجب أن نقتنصها .. ونحصدها.. ويجب أن يتجه الإنفاق للتنمية ضد الفقر. 2- المستلزمات الفنية وإشكالياتها: أ- المصداقية في الميزانية، مطابقة الصرف للتخطيط لا للتصديق فحسب. ب- توجيه المشاريع للزراعة النباتية والحيوانية والمشاريع الاجتماعية تفادي تأخير التحويلات والقيام بها بلا صعوبات. ونلخص لابد من الإدراك والرؤية الصادقة والمراجعة الداخلية القادرة التي تسيطر عليها الشفافية - ومن مبادئ الإدارة المالية، الرشيدة:- - تحسين الشفافية بتوسيع المشاريع التي تتسع ولا تضيق بها. - تدفق المعلومات للشفافية والمراقبة الدقيقة. - أصحاب المصلحة شركاء على كل المستويات في الإنفاق وذلك ييسر التأثير على الفقراء ومقدرتهم لدرء الفقر وتخفيفه. - مواصلة البحوث والاتصال الدائم بكل وسائل الاتصال. - التراضي والوفاق على معنى الإنفاق لمكافحة الفقر. - لابد من التخطيط متوسط المدى لربط كل العناصر ولابد من تنمية المهارات وإزالة عوائق تدفق المعلومات. وقد بدأت الورقة بسرد مبادئ التحليل العلمي للإنفاق لمكافحة الفقر. - اختلاف الظروف والتعامل والتدابير بين حالة الحكومة الوطنية وحكومة الجنوب. - لابد من مسوحات سابقة للإنفاق الأسري لتوجيه السياسات العامة للإنفاق لمقاومة الفقر. - لابد من تحليل الإنفاق وعوائده (Cost Benifits Analyses). - وللأسف لا توجد إحصاءات كلية والموجود إحصاءات فردية للحكومة المركزية والولايات مما يعيق العمل. - لابد من توصيف الإنفاق لإمكانية التحليل. بدأت الورقة بتحليل سلسلة الأداء الاقتصادي للفترة 2007/2000م حتى تتاح الرؤية والأهداف. وسجل السرد معدل النمو العالي للاقتصاد الكلي واستقراره وهذا من مصلحة الفقراء ولكن:- - الفروق وعدم المساواة في توزيع الدخل حجبت فوائد الأداء الكمي عن مصلحة الفقراء- سجل ارتفاع الإنفاق العام ولكن بنسبة ضعيفة للتنمية في أشكال بيانية واضحة من الصعب نقلها هنا- سجلت التحويل المتسارع بعد اتفاقية السلام «C.P.A» بتفعيل «المرتبات والأجور والخدمات». ارتفاع الصرف على الأمن الذي بلغ في 2007م (4) مليارات جنيه سوداني وهو ما صُرف على التنمية القومية وخُمس (20%) من ميزانية الحكومة - وتوصيف الصرف وقدره (18.5%) على المركز وأكبر صرف على تسديد القروض الداخلية وسندات المشاركة. ~e~متابعة مبادئ الإنفاق الرشيدة~e~ كنت أود أن استرسل في متابعة الورقة الجامعة التي قدمتها د. عابدة، رغم تواضعها في أنها ليست خطيبة ولكنها باحثة، ولكن الوقت والمكان لم يسمحا لي، فليسمح لي القارئ أن ألخص فلسفة هذه الورقة التي تريد أن تؤسس معايير ومقاييس للإنفاق ليس في نوعه فحسب ولكن في متابعته وريادته لتحقيق قصير أو طويل الأجل استراتيجي في كل مدى، فحملت الورقة على ما خصص من إيراد لخزان مروي مثلاً ليس في إنكار فائدته ولكن في إشكالية أولويته التي أخذت من القطاع الزراعي بحاجته وحاجة العالم إليه الآن، مع أن خزان مروي سيفيدنا في المستقبل لنهضة صناعة قادمة بإذن الله وكذلك نقدها وتأييد الحاضرين في أن أكثر من (70%) من الإيراد يذهب للأمن ومقتضياته، ليس لأننا نقلل من أهمية الأمن ولكن لأننا نهمل أسباب عدم استقراره أو تعرضه للمخاطر، أن نظام تعليمنا وثقافتنا لم تحقق ما نرجوه ليس لإهمال في بنيتها الأساسية ولكن لعدم العناية التامة بالنوعية والمنهج الذي يؤكد التراضي والمودة بين الهوية والمواطنة. إن حملة د. عابدة على سياستنا في الاقتراض الداخلي والخارجي تقوم على وجوب مراعاة مستوى من المعيشة تليق بنا دون مبالغة وهي أيضاً تستهدف ألا نكسر الجرة التي هي جسر بيننا وبين الممولين وحرماننا من التيسيرات للبلاد الأكثر ديناً والأقل إمكانية وموارد. ~e~الورقة الأخيرة~e~ وقد قدم هذه الورقة الوزير ابراهيم سليمان وفيما سمعت أنه ينتسب الى جامعة النيلين ومارس المهنة الاقتصادية عملياً أيضاً وامتاز في عرضه بالبساطة وقد أنحى مقدم الورقة باللائمة على سلطات المركز التي تريد أن تحتضن توزيع الموارد مع احتضانها للسلطة. وقد ختم الورقة بعبارة يجب أن نعيها لأنها تشير الى علتنا السياسية الأولى: «حتى يعاد التوازن للمجتمع والدولة ويستقر الوضع السياسي والاقتصادي في السودان وتضيق الفوارق التنموية والخدمية ومعالجة أسباب الغبن لابد من اعتماد معايير عادلة لتوزيع الثروة في السودان». هذه الورقة فصَّلت تاريخ معركة الثروة والسلطة «بما لا نجده في مكان آخر» ولكن سنعطي الأولوية للوضع الحالي بإنشاء مفوضية تخصيص ومراقبة الإيرادات المالية التي أنشأها المرسوم الجمهوري رقم 2005/41م وهي من بنات أفكار اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا). وتتكون من رئيس يعين بقرار «رئاسة الجمهورية» وثلاثة ممثلين للحكومة القومية، وثلاثة ممثلين لحكومة جنوب السودان، ووزراء المالية في الولايات، بالإضافة الى ممثل لكل من الصناديق والهيئات الخاصة بالإعمار كمراقبين، ولدى المفوضية فريق من الخبراء الوطنيين يتكون من عشرين خبيراً من ذوي الكفاءة والخبرة من جامعات ومؤسسات وقطاعات حكومية يمثلون عدة اختصاصات تم تعيينهم من الرئيس، وللمفوضية أمانة عامة فنية من ذوي الكفاءة العالية لتحضير العمل وتصنيف المعلومات، يقدم عملهم لفريق الخبراء ثم مجلس المفوضية، والمهم متابعة التحويلات المالية لمستويات الحكم المختلفة. اختصاصات ومهام المفوضية ضمان الشفافية والعدالة فيما يختص ويتصل بالأموال المتحصلة على المستوى القومي وحكومة جنوب السودان والولايات ومراقب الدعم من صندوق الإيرادات القومي وتحقيق المساواة وسرعة التحويل لمستويات الحكم وتقوم باقتراح الصيغ والمعايير الخاصة بتقسيم الموارد ومراجعة الأسس كل ثلاث سنوات وتقدم المفوضية تقارير ربع سنوية لرئاسة الجمهورية سنوياً الى الهيئة التشريعية- وللخبراء مهمة القيام بالدراسات في مجال عمل المفوضية وهي: طرق تجميع الإيرادات وتوزيعها في الصندوق القومي للعائدات وتنسيقاً مع وزرارة المالية اقتراح الصيغ والأوزان بمشاركة الجهات المختصة من أجل التخصيص الرأسي والأفقي وقام بهذا الميزانية 2007م والمعيار الرأسي فكان نصيب الحكومة القومية (55.2%)، والولايات وحكومة الجنوب (44.8%)، أما المعيار الأفقي فقد تم بناء على مؤشرات أربعة: الكثافة السكانية (40%)، الحد الأدنى لمستويات الحكم (40%)، والتنمية الاجتماعية (15%)، وجهد الولاية في التحصيل (5%). أما الصندوق القومي للعائدات فقد تم إنشاؤه بموجب المادة (197) من الدستور لسنة 2005م وله حساب مستقل عن المالية حيث تجمع الإيرادات فيه، وفي الورقة بيان بتوزيع الإيرادات وكذلك تحويلات الاعتمادات الولائية غير المخصصة.. وهناك اقتراح بإنشاء بنك استثماري لتنمية الولايات في إطار الاستثمار الأصغر. ~e~خلاصة و اعتذار~e~ وقبل أن أصل الى بعض التوصيات التي حوتها الأوراق أريد أن أشيد بالورقة الثانية التي قدمها الدكتور أحمد بدوي أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم وعنوانها: «الإدارة المالية العامة والقدرات المؤسسية» (Public Financial Mangement & Institutional Capacities)، حيث وضع السلام كهدف من أهداف التنمية والتنمية كثمرة من ثمار السلام، وكذلك العدالة في توزيع الثروة والسلطة ووضع أسس، مشيراً إلى ضرورة المشاركة في إعداد الميزانية، وأكد على مشاركة منظمات المجتمع ويعاني التحضير من نقص المعلومات الصحيحة وتدفقها وأصر على وجوب التنسيق بين المؤسسات، وانتقد د. بدوي الهيكل التنظيمي للوزارة وتعدد جهات التقرير في سياسة الإنفاق، وأشار الى العجز في تدفق السيولة والتدفق النقدي للوزارات- ولابد من وجود المؤسسية الحاكمة التي تسيطر على كل ذلك وخصوصاً النظم المالية الحديثة والسليمة ومنها إدارة التنبؤ السليم- واعتذر عن عدم إيفاء الورقة حقها العلمي واعداً بتلافي ذلك في المستقبل.. ولابد من الإشارة أخيراً إلى بعض توصيات في الأوراق المختلفة وهي أن يكون للمفوضية قانون لسلطاتها وصلاحياتها ثم معالجة الإعفاءات الجمركية والضرائبية وتحميلها للجهات التي قامت بالتصديق وتفعيل الصندوق القومي للعائدات، وإنشاء منبر للتواصل والتوعية العامة ونشر ثقافة مالية جيدة، وأخيراً في مناسبة لاحقة سأتعرض بالنقاش الثر وللموضوعات الوطنية التي أثيرت وخصوصاً تلخيص رئيس الاجتماع ومقترحاته القوية.