لولا آثار السيول والأمطار التي صاحبت خواتيم الشهر الفضيل رمضان وإمتدت آثارها إلى أيام العيد وما بعدها، لقلنا أن المشهد السياسي إتسم بنفحات عالية من الأمل والتفاؤل ببدايات أو ربما بظهور ضوء في آخر النفق لبداية حلحلة الأزمة السودانية. وإذا تمشت الفكرة بين الناس يبقى من العجز والتخلف عدم إهتبالها وتحويلها لواقع وبرنامج عمل. وكما أضعنا في تاريخنا السياسي الكثير من الأفكار المطروحة والتي كانت تملأ جوانح المشهد السياسي، أخشى أن تضيع هذه الساعة كما أضعنا قبلها الكثير، ودفع وما زال يدفع ثمنها الوطن. ولعل هذا الأمل والتفاؤل إنعكاساً لموقفين مهمين أطلا بكثافة مع نهاية الشهر الفضيل. وقد لا يكونان بتخطيط سابق على طريقة السياسة السودانية، ولكن خواتيم الأحداث إنتهت إليهما: الأول: الإعلان عن مبادرة سوف يطلقها الرئيس، تم توصيفها بأنها كفيلة بإنهاء الصراع في السودان وحلحلة كافة قضايا السودان العالقة. الثاني: إقالة سلفاكير لحكومته وإعفاء كل العناصر التي كانت لها مواقف ثابتة وسالبة تجاه السودان وعلى رأسهم باقان وإدوارد لينو ودينق ألور، وتشكيل حكومة جديدة تضم عناصر موصولة مع الشمال مثل رق قاي وعبد الله دينق نيال. معظم الردود تجاه الإعلان عن مبادرة الرئيس كانت إيجابية، على الرغم من عدم الإفصاح حتى عن الخطوط العريضة للمبادرة، كما ذكرنا في مقالنا السابق، الأمر الذي يشير إلى ما أشرنا إليه من الإستعداد النفسي والعقلي وبالتالي السياسي لقبول المبادرات التي تعمل على لم شمل الوطن. وهذا الإستعداد ناتج من عدة أسباب منها: 1. قناعة وإدراك كل الأطراف بأن أيا منها لا يستطيع إقصاء الآخر أو إلغاء وجوده سواءً كان بالطرق السلمية أو بالقوة المسلحة، فلا إستطاعت الحكومة أن تقصي أو تلحق الهزيمة السياسية أو العسكرية بالقوى المعارضة من خلال صراع إستمر لأكثر من عقدين من الزمان إستخدمت فيها كل الأساليب، الترغيب والترهيب، الإيجابي والسلمي، القانوني وغير القانوني، الأخلاقي وغير الأخلاقي. ولم تستطع القوى المعارضة سواءً كانت أحزاب أو حركات مسلحة أن تسقط الحكومة، وقد إستخدمت كل الأساليب كما الحكومة تماماً وزادت عليها بالإستعانة بالأجنبي سواءً كان الإقليمي أو الدولي. 2. إدراك الجميع خطورة المآلات التي يؤدي إليها هذا الصراع والتي تهدد وجود الوطن، وقد فقدنا إلى الآن ثلثه، وبقية الأطراف مهددة. 3. إدراك الجميع تفاهة ما يتصارعون حوله. 4. إدراك الجميع فداحة الثمن المدفوع إذا كان في الأرواح أو الأموال. 5. إدراك الجميع أنه لا توجد إختلافات عقائدية أو حتى فكرية عميقة بين القوى السياسية الكبيرة والمؤثرة أو حتى في الأشخاص، فقد تم الإكتشاف أنه ليس هنالك إختلاف بين (أحمد وحاج أحمد). 6. إدراك الجميع أن زوال الوضع القائم والذي يشمل (الحكومة والمعارضة) سوف يدفع الثمن الجميع بدون فرز، وسوف يدفعه (أحمد قبل حاج أحمد)، وسوف تقطع رؤوس وتسيل دماء وتحرق أموال (أحمد وحاج أحمد)، سواءً كان في الحكومة أو المعارضة. 7. السقوف العالية والمتوقعة لمبادرة الرئيس والتي يعتقد (خاصة من المعارضة) أنها مبنية من الرئيس على (المدركات) أو (الإدراكات) التي ذكرناها من (1 – 6)، والتوقع ليس من المعارضة فحسب ولكن حتى من الباحثين والأكاديميين، وذلك لأن هذه المبادرة وصفت بأنها كفيلة بإنهاء كل حالات التمرد ومشاكل السودان. وكلنا يدرك الأسباب أو قل (المظالم) التي دفعت البعض للمعارضة وحمل السلاح سواءً المعلن أو غير المعلن، ولذلك وبصورة موضوعية ومنطقية، وبناءً على هذا التوصيف عن المبادرة، والتي تم وصفها بذلك من النائب الأول للرئيس ومن القطاع السياسي للمؤتمر الوطني، فإنها سوف تكون مستجيبة لتلك المطالب والمظالم. ومنها: • أن تكون هنالك مرحلة إنتقالية يشترك فيها الجميع من دون إقصاء لأحد، تقوم على المشاركة الحقيقية ليس هناك سيطرة لقوة، وعلى الشفافية والمساواة أمام القانون والعدالة. • تقوم هذه الفترة الإنتقالية على برامج عمل متفق عليه في كافة المجالات. • تشرف الحكومة الإنتقالية على قيام الإنتخابات بواسطة مفوضية متفق عليها، وفق قانون إنتخابات متقف عليه يضمن تمثيل كل القوى الحزبية والإثنية والجهوية. • نتائج الإنتخابات عبارة عن جمعية تأسيسية تقم بإجازة دستور متفق عليه. • إطلاق الحريات العامة وخاصة حرية الرأي والصحافة والتنظيم، ولا تقيد حرية أي شخص إلا وفق حكم قضائي تكفل فيه كافة حقوق الدفاع. • إطلاق جميع المتهمين والمحكوم عليهم سياسياً. يمثل هذا الحد الأدنى من المطالب والتي ربما يكون المتفق عليه، ولكن عند التفاصيل ربما يكون هنالك مطالباً أكثر إزعاجاً أو (إحراجاً) لهذا الطرف أو ذاك، ولكن لابد من تقبل هذه المطالب والنظر إليها بعين الإعتبار وخاصة من الحكومة، وأن تقع عليها الآن المسئولية السياسية أو حتى الأخلاقية بإعتبارها هي الآن التي تمتلك مصادر قوة السودان المتمثلة في القوات المسلحة والمالية، وهي التي تريد إطلاق مبادرة لحلحلة كافة مشاكل السودان كما وصفتها. الحدث الثاني والمهم والذي يدفع في إتجاه التفاؤل والأمل هو إقالة سلفاكير لحكومته كلها بما فيها نائبه رياك مشار وتعيين حكومة جديدة مكانها. هذا الحدث بالتأكيد حكومة الخرطوم ليس لها يد فيه، ولم تخطط له وحتى لم تفكر فيه. لا أقول ذلك بناءً على معلومات عندي، ولكنه إستنتاج منطقي من معطيات الأحداث. أولاً: في الموقف تجاه الشمال والعداء له ليس هنالك فرق بين سلفاكير والمجموعة التي ذهبت، فكلهم لا يتفقون إلا في شئ واحد وهو عدائهم للشمال. ثانياً: إن المجموعة التي ذهبت على الرغم من عدائها للشمال إلا أنها تمتلك القدرة على التخطيط والتحليل والقراءة، بخلاف سلفاكير الذي لم يعهد له ثبات على موقف طيلة الفترة الإنتقالية، فرأيه دائماً كان مع آخر من يقابله، فلو كان هنالك تخطيط من الحكومة لخلق تيار معتدل معها فبالتأكيد لن تكون مجموعة سلفاكير. ثالثاً: هذا الحدث من الضخامة والتأثير السالب والإيجابي الكبير لا يقدر على فعله إلا سلفاكير، (وهذه ليست محمدة). فعمل مثل هذا لابد أن يكون من خلفه سند داخلي ودولي كبير، لأنه وعلى أقل تقدير يعني قلب كل إتجاهات التخطيط والبرامج السابقة رأساً على عقب. هذا وإذا أخذنا التكوين القبلي المتجذر في الجنوب مع وزن المقالين في قبائلهم، فإن مثل هذا العمل لا يقوم به إلا من كان فاقداً للعقل (يعني سكران)، أو متمرداً لا يحسب أي حساب لأفعاله ونتائجها. رابعاً: الحدث هو صراع على السلطة بإمتياز، والذي بدأ منذ ذهاب الدكتور جون قرنق، وهو ليس بفعل أبناء الجنوب، إنما بفعل جهة خارجية هي التي إغتالت قرنق (الوحدوي)، أي الذي يريد أن يقيم السودان الجديد بكل ما يحمله شعار (السودان الجديد). وكان المطلوب من الخلف العمل على تحقيق الإنفصال. لذلك تأخر الصراع بين القوى المتصارعة إلى الآن لأن الجميع قد وجد هواه في الإنفصال ويعني ذلك كذلك العداء المشترك للشمال الذي جمعهم كل تلك الفترة. ولكن ما أن تحقق الإنفصال حتى بدأ الصراع على السلطة مدعوماً بجهات خارجية تعتقد أن سلفاكير قد أدى مهمته بإمتياز، لذلك يجب أن يذهب. خامساً: وعليه لو تدخلت حكومة الخرطوم في اي لحظة من اللحظات ولو همساً لصالح أي طرف لما تم الذي تم. الذي حدث لم يكن (صدفة) ولكنه تخطيط من قوى أخرى وبالتأكيد الأهداف المراد تحقيقها في السودان هي أحدى العوامل التي أدت إلى هذا التخطيط. ربما تكون نتيجة التخطيط جاءت على غير ما هو مخطط له، ولكن هذا لا يجعل المخططون يرفعون أيديهم مستسلمين، وإنما يقرأون النتائج ويقدرون قوة كل طرف ومقدرته على الفعل والتأثير ومقدرته على التجاوب مع هؤلاء المخططين لتحقيق أغراضهم وأجندتهم. فإن كان كل ذلك وَجِد في سلفاكير فليس لديهم مشكلة في تغيير مواقفهم ودعم سلفاكير. وإن كان غير ذلك فسوف يعيدون التخطيط للوصول إلى هدفهم. ليس هنالك يأس، إنما هنالك قراءة وتحليل وتخطيط ومثابرة، (ولابد من إدراك صنعاء ولو طال السفر). هذا الذي يجري لا نعرفه نحن، ونعتقد أنه حدث (صدفة)، أو أنها هدية من السماء. السماء لا تعطي العاجزين، إنما السماء مع الذين يأخذون الأسباب (السنن الكونية) كما هي، وهي متاحة للمؤمن والكافر. هذه الجمل الأعتراضية كان لابد منها (وكفى). فإن ما قام به سلفاكير ليس له علاقة مباشرة بالموقف تجاه الشمال، وإن كان الشمال دائماً حاضراً في تخطيط من يخططون. ولكن هذا لا يعني أن التعامل مع هذا الحدث يقوم على هذه الفرضية. فإن الذي حدث سواءً كان صدفة أو مخطط له هو بالتأكيد له تأثير كبير على العلاقة مع السودان. كما أن إيقاف النفط أو السماح بمروره سيكون عاملاً مهماً ومؤثراً في مجريات الأحداث. إيقاف النفط يعني الإنحياز لمجموعة باقان، والسماح به يعني الإنحياز لمجموعة سلفاكير، سواءً قصدنا هذا أو لم نقصده، لذلك لابد من وضع الآتي في الإعتبار عند تحديد موقفنا: أولاً: سلفاكير ليس له في هذا الصراع داعم خارجي قوي على شاكلة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، ولكن الداخل القوي معه، فمعه قبيلة الدينكا وبعضاً من قبائل المتحالفين معه من النوير أو الشلك أو بقية القبائل الأخرى. وواضح أن سلفاكير قد قصد تلك القبائل وأستيعاب جزء منها في تعيينات حكومته الأخيرة. ثانياً: تمديد فترة السماح جاء هذه المرة بطلب من سلفاكير شخصياً وليس من لجنة الحكماء مما يعني حوجة سلفاكير للحكومة وأنه مستعد لفعل أي شئ للبقاء في السلطة، وهذه هي النقطة التي يجب أن تركز عليها الحكومة وتستطيع من خلالها أن تحصل على ما عجزت من الحصول عليه طيلة الفترة السابقة خاصة فيما يتعلق بالملف الأمني. ثالثاً: إستدعاء ياسر عرمان بواسطة سلفاكير والإعلان عن ذلك فيه رسالة للخرطوم فحواها (يا خرطوم الجن (على رأي البوني) أنا أعلم ماذا تريدين ثمناً للنفط وأنا أبدأ بالفعل قبل أن تطلبي). رابعاً: ليس من الحكمة الآن الحديث عن دعم حكومة الجنوب للحركات المتمردة وخاصة بواسطة الصحف. فقد حملت أكثر من صحيفة تقارير مطولة في عدد من صحف الخميس بالصور والأسماء عن دعم حكومة الجنوب للحركات المتمردة، فالدعم أصلاً لم يتوقف .. ولكن إذا تم النشر والإعلان في صحف الخميس بتخطيط من الممسكين بملف التفاوض مع حكومة الجنوب فأعتقد أنها خطوة ذكية وفي الإتجاه الصحيح، وفي تقديري هو رد على رسالة سلفاكير بإستدعاء ياسر عرمان. إذن المطلوب الدخول مع سلفاكير بصورة مباشرة في ترتيبات الملف الأمني بعيداً عن الإعلان والضغط لفك الإرتباط مع قطاع الشمال والحركات المتمردة. سلفاكير ليس له خيار الآن للإستمرار في السلطة غير دعم حكومة الخرطوم وبالتحديد بالسماح بمرور النفط. خياره الآخر دولته الفاشلة، ثم حمله بندقيته والعودة للغابة مرةً أخرى إذا تمت الإطاحة به وبقي على قيد الحياة. ومرحباً بسلفاكير في الخرطوم.