تعتبر أفريقيا الوسطى دولة ذات أهمية استراتيجية بالغة بالنسبة لبلادنا فهي واحدة من دولتين فقط تتقاسمان حدوداً مشتركة مع كل من السودان وجنوب السودان بعد انشطارهما في يوليو 2011. كما أنها تجاور إقليم دارفور الذي يشهد حرباً بين الحكومة والحركات المسلحة لما يزيد عن العشر سنوات مما يجعل للأحداث في ذلك البلد تأثيراً مباشراً على ما يجري في الاقليم بصفة خاصة وفي السودان بصورة عامة. علاقات أفريقيا الوسطى بإقليم دارفور قديمة وعميقة ومتشابكة ، فبالإضافة لوجود بعض المجموعات القبلية والإثنية المشتركة على جانبي الحدود فإن الروابط التجارية بين الطرفين تاريخية وضرورية مما نتج عنه الكثير من الحركة عبر الحدود بين البلدين. من ناحية أخري ، فإن هذا الارتباط يزداد تعقيداً من ناحية جيوستراتيجية بوجود دولة تشاد التي ترتبط مصالحها بكل من دارفور وأفريقيا الوسطى. غير أنه إذا كان أهلنا في دارفور نفسها يشكون من التهميش من جانب المركز بل إن بعضهم يحمل السلاح لتأكيد هذه الحقيقة التي ظل الإقليم يعاني منها منذ استقلال البلاد في عام 1956 ، فإنه من الطبيعي أن يكون اهتمام إعلامنا الممعن في المركزية بما يجري في أفريقيا الوسطى من أحداث ضعيفاً للغاية. وفي ظل الظروف السياسية والأمنية التي تمر بها البلاد على أيامنا هذه فإنه لم يكن من المستغرب ألا تجد الأحداث الخطيرة التي تشهدها أفريقيا الوسطى مجالاً في إعلامنا رسمياً كان أو أهلياً بالرغم من أنها تجتذب الاهتمام من مختلف أنحاء العالم. احتلت أفريقيا الوسطى صدارة الأنباء العالمية خلال الأسبوعين الماضيين بسبب التدهور في أوضاعها الأمنية والذي تمثل في صراعٍ دامٍ بين مختلف القوات المكونة لتحالف سيليكا المسيطر على الأمور في العاصمة بانقي حالياً وبين قوات الدفاع عن النفس التي ترغب في انتقال الحكم لرئيس مسيحي. يأتي معظم أفراد تحالف سيليكا من الأقلية الاسلامية بينما تتكون قوات الدفاع عن النفس أساساً من فلول جيش الرئيس بوزيزيه وجل أفرادها من المسيحيين ، وقد أعطى ذلك الصراع الدائر طابعاً دينيا في نظر البعض. كان تجمع سيليكا قد وصل للحكم في بانقي كما هو معلوم بعد أن زحف نحوها من الشمال وذلك في مارس الماضي بعد أن أطاح بنظام الرئيس بوزيزيه. غير أن التحالف شهد الكثير من التصدع بين مختلف مكوناته منذ وصول الرئيس جوتوديا للحكم ، وبدأت بعض الفصائل تشكو من تهميشها بعد أن حقق الرئيس جوتوديا ومجموعته غرضهم بالسيطرة على الأمور في العاصمة. وبسبب التذمر وسط قوات سيليكا ، واستمرار القوات التابعة للرئيس السابق بوزيزيه في إثارة القلاقل ، وعجز الحكومة الجديدة من بسط سيطرتها التامة على البلاد فقد انفرط عقد الأمن ونشطت المجموعات المسلحة في مختلف أنحاء البلاد مما خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. غير أن الذي وضع أفريقيا الوسطى في واجهة الأحداث خلال الأسابيع الماضية هو حدة التوتر بين المجموعات القبلية المختلفة ، ووقوع العديد من الهجمات عىلى المواطنين مما أجبر الكثيرين منهم للجوء إلى الغابات الكثيفة في مختلف أنحاء البلاد. يشكل المسلمون 15% فقط من سكان أفريقيا الوسطى بينما تبلغ نسبة المسيحيين حوالي 50% أما بقية السكان فإنها تدين بديانات محلية ، والظاهرة الأكثر لفتاً للأنظار في البلاد هي تعدد القبائل فبالرغم من أن عدد سكان البلاد لا يتجاوز 4.5 مليون نسمة فإن هناك 80 قبيلة مختلفة. وقد ظل الحكم في أفريقيا الوسطى منذ استقلالها في يد الغالبية المسيحية ويعتبر ميشيل جوتوديا أول رئيس مسلم للبلاد إذا استثينا ثلاثة أشهر من حكم الامبراطور بوكاسا الذي أعلن اسلامه في سبتمبر 1976 على يد الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي واتخذ اسماً إسلامياً هو أحمد صلاح الدين بوكاسا. كان الاعتقاد السائد هو أن بوكاسا اعتنق الدين الاسلامي طمعاً في دعم مالي من ليبيا ، وعندما لم يأت الدعم المرجو ، أو عندما قضى غرضه ارتد الرجل عن الاسلام في ديسمبر من نفس العام وتم تنصيبه امبراطوراً من داخل الكاتدرائية الكاثوليكية في بانقي. ظل المسلمون يعانون كأقلية من التهميش في بلادهم ، لذلك فقد كان من الطبيعي أن يشكلوا غالبية المحاربين من قوات السيليكا ، وقد حدا ذلك ببعض المراقبين للقول بأن الكثير من ثوار السيليكا هم في الأصل مرتزقة من السودان وتشاد. بل ذهبت بعض التقارير للقول بأن جرحى السيليكا خلال الحرب ضد الرئيس بوزيزيه في مطلع هذا العام كان يتم إجلاؤهم للخرطوم والرياض بغرض تلقي العلاج. وقد ورد في تقرير لمجموعة الأزمات الدولية في أبريل الماضي أن التوازن الديني في البلاد قد اختل بوصول تحالف السيليكا للحكم في بانقي ، كما وصف التقرير ان التحالف يغلب عليه الطابع الاسلامي الأصولي. من جهة أخرى ، فقد ورد في الأنباء أن بعض الدول المجاورة لأفريقيا الوسطى وخاصة يوغندا وجنوب السودان حذرت من تنامي الأصولية الاسلامية في أفريقيا الوسطى ، مشيرة إلى أن ذلك يقود إلى تهديد الاستقرار في المنطقة. إلا أن الباحث الفرنسي رولاند مارشال ، والذي يعتبر أحد المرجعيات المهمة في شئون السودان ودول وسط أفريقيا ، يشير في مقال له إلى أن مقاتلي السيليكا لديهم فعلاً ميول نحو الأصولية الاسلامية غير أن قوة الدفع الرئيسة وراء تحركاتهم هي الاحساس بالتهميش الإثني منذ استقلال البلاد في مطلع الستينات. كما أكدت بعض تقارير الأنباء إلى أن المحرك الأهم وراء التطورات الأخيرة هو الصراع القبلي ، وأن الصدفة وحدها هي التي وضعت القبائل المسلمة والقبائل المسيحية في مواجهة بعضها البعض في أجزاء متفرقة من البلاد. بالرغم من هذا القول فإن الكثيرين يتخوفون من أن تتحول الأحداث إلى نزاع ديني بسبب التركيز الشديد على هذا الجانب دون غيره ، وربما كان ذلك التخوف أحد الأسباب وراء الجولة التي قامت بها بعض القيادات الدينية للمسلمين والمسيحيين عبر جهد مشترك في محاولة لاحتواء الأوضاع المتردية في مختلف أرجاء البلاد. بعد سقوط نظام بوزيزيه في مارس الماضي لم تتدخل الأممالمتحدة لتهدئة الأوضاع ، وتحملت دول الجوار خاصة في مجموعة وسط أفريقيا المسئولية كاملة لتحقيق هذا الهدف ووجدت هذه الدول دعماً من الاتحاد الأفريقي الذي أنشأ ما يسمى ببعثة الدعم الافريقية التي وضح عجزها التام في مواجهة التطورات الأخيرة. لذلك فقد دعا مساعد الامين العام للأمم المتحدة لاستبدال القوات الأفريقية ببعثة دولية بتفويض أقوى ، ومع أن الرجل لم يفصح عن تفاصيل ما يعني فإن البعض يرون انه يدعو لبعثة دولية بتفويض شبيه بالبعثة في الكونغو الديمقراطية التي تدخلت بصورة مباشرة في الحرب ضد حركة M23 المتمردة مما أدى لهزيمتها واستسلامها. غير أن المتشككين يرون أن الاوضاع في أفريقيا الوسطى أكثر تعقيداً مما هو الحال في الكونغو الديمقراطية ، وأنه سيكون من الصعب على أي بعثة دولية كانت أو أفريقية من تحقيق الكثير وستجد نفسها في النهاية متورطة في حرب عصابات داخل أدغال أفريقيا الوسطى. من جهة أخرى ، يعاني التحرك الدولي من البطء الشديد بالنظر للأحداث المتلاحقة في أفريقيا الوسطى ، وذلك بسبب ضعف التنسيق بين القوى الأجنبية والإقليمية المختلفة الموجودة حالياً في البلاد. فبالإضافة لقوات الأممالمتحدة والقوات الأفريقية فإن هناك بالطبع القوات الفرنسية التي تقرر زيادة عدد أفرادها على ضوء الأحداث الأخيرة. بالرغم من أن نشاط حركة جيش الرب داخل أفريقيا الوسطى قد انحسر بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة ، وبالرغم من تواتر بعض الأنباء عن رغبة زعيمه جوزيف كوني في الاستسلام ، إلا أن مجرد وجوده هناك لا زال يمثل عاملاً مهما يضاعف من تعقيد الصورة خاصة وأن الشائعات السابقة عن قرب موعد نهاية جيش الرب كان يتبعها دائماً ارتفاع في وتيرة نشاط الجيش. ويذهب الباحث الفرنسي رولاند مارشال في مقابلة له مع موقع "جون أفريك" على الانترنت للقول أنه ليس للسودان أجندة خاصة في أفريقيا الوسطى ، وأن قلق السودان حول ما يجري هناك سببه وجود القوات اليوغندية بدعوى مطاردة جيش الرب مشيراً إلى أن السودان يتهم يوغندا بدعم الحركات المسلحة في دارفور. ويمضي للقول في ذات المقابلة بأن وجود السودانيين الذين شاركوا ضمن قوات السيليكا في هجومها على بانقي مستقل تماماً عن الحكومة السودانية وأنهم ربما كانوا من قبيلة الرئيس جوتوديا التي لها امتداد بإقليم دارفور ، وكان الرئيس جوتوديا نفسه قد عمل لعدة سنوات قنصلاً لبلاده بمدينة نيالا. على ضوء ما أشرنا له أعلاه من احتمال انعكاس التطورات هناك على الأوضاع في دارفور ، ومحاولات دمغ تحالف سيليكا بالأصولية الاسلامية فإن الحكومة السودانية قد تجد نفسها تسير على حبل مشدود ، وسيكون من المحتم عليها أن تسعى ما أمكن وفي إطار الجهود الإقليمية والدولية نحو تحقيق تسوية تقود للاستقرار في أفريقيا الوسطى. وتزداد أهمية الأمر بالنسبة لبلادنا إذا ما أخذنا في الاعتبار التحركات الفرنسية الأخيرة بالتنسيق مع الولاياتالمتحدة في أنحاء متفرقة من القارة الأفريقية ، والتنافس المكتوم بين فرنسا وبين بعض القوى الإقليمية الكبيرة مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا بعد انحسار الدور البريطاني. كان الأستاذ على كرتي وزير الخارجية قد ألقى مؤخراً بياناً حول السياسة الخارجية أمام المجلس الوطني أكد فيه اهتمام السودان بما يجري في أفريقيا الوسطى ومتابعته للاحداث التي تتطور هناك بسرعة دون أن يشير بالتفصيل لموقف السودان مما يجري. المعروف أن الرئيس جوتوديا كان قد زار الخرطوم في يونيو الماضي في أول زيارة له خارج بلاده بعد توليه منصب الرئاسة والتقى خلال تلك الزيارة بالرئيس عمر البشير ، وقد تكهنت بعض التقارير الأخبارية عندئذٍ بأن الحكومة السودانية ربما قدمت دعماً مالياً لحكومة أفريقيا الوسطى بعد أن أحجم أصدقاؤها القدامى وعلى رأسهم فرنسا عن تقديم أي عون للحكومة الجديدة بدعوى أنها وصلت للحكم بأسلوب عنيف. تظل الأوضاع في أفريقيا الوسطى تتميز بالكثير من عدم الاستقرار ، ويتضح من التقارير التي عرضت على مجلس الأمن أن فرنسا وعدد من الدول المؤثرة تسعى لاستقدام قوات أممية بتفويض واسع لوضع حد للفوضى التي تعيشها البلاد. ومن المؤكد أن أي تسوية متوقعة ستقوم على تقاسم السلطة بين تحالف سيليكا والقوى المسيحية التقليدية كما يوحي بذلك الحديث المتواتر عن سيطرة المسلمين على الأوضاع في البلاد بالرغم من أنهم يشكلون أقلية ضعيفة.