الخرطوم (smc) بعد عشر سنوات من التوقيع على نظام روما الأساسي وبعد ست سنوات من دخوله حيز النفاذ، تجد محكمة الجنايات الدولية نفسها في وسط ماء عكر. حيث أن القضية المرفوعة ضد توماس لوبانجا، وهو أول المتهمين المطلوب مثولهم أمام المحكمة يكاد يضعها على حافة الانهيار ويمكن في نهاية المطاف أن تنتهي إلى فشل كامل. وفي قضايا أخرى لا تزال أمام المحكمة، على سبيل المثال أوغندا والسودان، نجد أن ما تحقق حتى الآن كان محدودا للغاية. نحن الآن وصلنا إلى نقطة وصفها عدد لا يستهان به من المحللين "بأزمة نضج" لتشخيص الحالة الراهنة بالنسبة للجنائية الدولية. في تعليق مكتوب إلى (Hague Justice Portal) في لاهاي, ذكر أحد المحللين أن السيد لويس مورنيو اوكامبو كبير المدعين في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي ارتكب سلسلة أخطاء جسيمة منذ توليه منصبه رسمياً منذ خمس سنوات وهو ما أثر سلباً على مصداقية وحيادية المحكمة. وقد أشار التقرير إلى أخطاء اوكامبو التى صاحبت محاكمة زعيم الجبهة الكنغولية المتحدة توماس لوبانجا حيث ما زال يرفض الكشف عن الأدلة التي قال انه جمعها ضده، فضلاً عن تقديمه طلباً لإصدار مذكرة توقيف في حق الرئيس عمر البشير، إلى جانب فصله لموظف في مكتبه وجه ادعاءا ضد اوكامبو يتهمه بالتحرش الجنسي بصحافية من جنوب أفريقيا وفي ما يلي أهم ملامح التعليق: محكمة الجنايات الدولية منظمة وليدة، أنشئت بموجب ميثاق روما الذي جرى اعتماده في 17 يوليو 1998م وأصبح نافذاً في الأول من يوليو 2002م وقد أدى قضاة المحكمة القسم بعد ذلك بأشهر في الثالث من مارس 2003م وانتخبت مجموعة الدول الأعضاء المدعي العام للمحكمة في 31 ابريل 2003م وتولى لويس مورنيو اوكامبو مهام منصبه في 16 يونيو 2003م. واجتمع قضاة المحكمة للمرة الأولى في 24 يونيو 2003 وقاموا بانتخاب مسجل المحكمة الذي أدى القسم بعد ذلك في الثالث من يوليو 2003م وبحلول منصف العام 2003 م اكتملت جميع البنيات المشكلة للمحكمة. إن المحكمة التي لم يتجاوز عمرها خمس سنوات لا تزال في مرحلة التطوير ولابد أن تظهر النضج في أعمالها، فالمحكمة تعاني (أزمة نضج) وهذا ما يتضح من خلال إجراءاتها ومن خلال العلاقة بين أجهزتها المختلفة. فمن خلال إجراءات المحكمة الدولية الخاصة برواندا (ICTR) وعلى سبيل المثال قضية (براياقويزا) تظهر بجلاء ملامح ما يمكن تسميته أزمة عدم النضج. ففي هذه القضية خلصت دائرة الاستئناف إلى إيقاف الإجراءات حيث أنها لم تسر بالشكل المطلوب, الأمر الذي حال دون نقل شهود العيان. بعد ذلك طلب المدعي العام إعادة النظر في القرار أمام دائرة الاستئناف مع تكوين مختلف قليلا. وهو ما أوقع المحكمة في أزمة حقيقية وغير مسبوقة الأمر الذي يحتم مراجعة إجراءاتها. أما الآن فقد أصبحت هذه القضية طي النسيان ولا يزال (جين بوسكو براياقويزا) يمضي ما تبقى من سنوات سجنه العشرين وما زال يطالب بمراجعه إجراءات المحاكمة وملابسات الحكم الصادر بحقه. أيضا الأزمة الحالية بالمحكمة والخاصة ب(لوبانقا) زعيم الجبهة الكنغولية المتحدة مثال آخر على عدم النضج في الإجراءات المتبعة من قبل المحكمة, فقد قرر القضاة استحالة إجراء محاكمة عادلة ونزيهة ل(لوبانقا) بسبب رفض المدعي العام اوكامبو الكشف عن الأدلة التي زعم انه جمعها ضد المدعى عليه. إن الكشف عن الأدلة التي زعم اوكامبو انه جمعها ضد لوبانقا, ضرورية جداً وقد واجه المدعي هنا معضلتين أساسيتين وهي الكشف عن الأدلة التي جمعها ضد لوبانقا وكذلك ربط هذه الأدلة والبراهين. خلال تحقيقاته في قضية لوبانقا وقع اوكامبو اتفاقات تعاون مع عدة جهات لم يفصح عن أي منها ما عدا الأممالمتحدة. وقد وقع اوكامبو على هذه الاتفاقات استناداً إلى المادة 54 (3) من ميثاق المحكمة والذي يتيح ذلك بهدف الوصول إلى أدلة جديدة، لكن مسألة رفض الكشف من جانب اوكامبو عن هذه الأدلة يوقعه في أخطاء إجرائية وأخرى إستراتيجية. ومن خلال ما أشرنا إليه فيما مضى يتضح أن الخطأ الأول لاوكامبو هو خطأ قانوني اجرائي, فميثاق المحكمة لا يسمح بإخفاء الأدلة كما أنه من حق المتهمين الاطلاع على هذه الأدلة لاستجلاء القضية التي يحاكمون فيها أمام المحكمة. أما الانتقادات والمآخذ على مسلك المدعي العام السيد اوكامبو تقع في جانبين الأول متعلق بالإجراءات التي اتخذها بحق رئيس ما زال في سدة الحكم, والثانية فمتعلقة بسلوكه الشخصي وكيفية إدارته لمكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية [الإشارة هنا إلى قضية فصل الموظف الذي تقدم باتهام اوكامبو بالضلوع في سلوك جنسي غير مقبول مع صحافية من جنوب أفريقيا عندما كانت في مهمة رسمية وما استتبعها من تداعيات لاحقة]. إن الإجراءات التي بدأها اوكامبو بحق الرئيس البشير تعبر عن نفس أزمة لوبانجا, فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال الأولى بحق احمد هارون وزير الدولة بوزارة الشؤون الإنسانية والثانية بحق على كوشيب أحد الزعماء القبليين, ثم في الآونة الأخيرة أصدر اوكابو مذكرة توقيف ثالثة بحق الرئيس عمر البشير سينظر فيها قضاة الدائرة التمهيدية. في الرابع من يوليو 2008 م قدم المدعي طلب التوقيف استناداً إلى المادة (58) من ميثاق المحكمة وقد طلب من قضاة الدائرة الابتدائية بالمحكمة إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير على خلفية اتهامه بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في دارفور. لكن السؤال الأول الذي يطرح نفسه هل هذا الإجراء يعد انتهاكاً لمبدأ الحصانة التي يتمتع بها الرؤساء كأشخاص على رأس السلطة في بلادهم وتعترف بحصانتهم محكمة العدل الدولية استناداً إلى القانون الدولي؟. والسؤال الثاني ما هي أنسب لحظة أو التوقيت المناسب لاتخاذ مثل هذه الخطوة؟ فأيهما أفضل إصدار أمر بالقبض كهذا ولا يزال الرئيس في منصبه ويمارس سلطاته أم أنه من الأفضل القيام بذلك عندما يترك السلطة؟ إن الرد يجب أن يستصحب حقيقة أن المحكمة لا تملك قوة خاصة بها لتنفيذ هذا الأمر فالأمر مرهون بتعاون الدول عموماً والدولة المعنية على وجه الخصوص. ومن الواضح أن دولة بها زعيم يحظى بتأييد واسع لن تتعاون بسهولة مع المحكمة الجنائية الدولية فلماذا إذن يصر اوكامبو الذي فشل من قبل في اعتقال (كرادتش) و(سلوبودان) على اتخاذ خطوة غير ممكنة بطلبه توقيف الرئيس عمر البشير ما يؤدي الي زعزعة مكانة المحكمة. إذا أخذنا هذه المسائل في الحسبان يمكننا استنتاج أن هناك العديد من الوقائع تدعم الزعم بأن المحكمة تواجه مأزق أزمة النضج. فالوضع العام يؤكد بما لا يدع أدنى مجال للشك صحة هذا الزعم.