أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب (المقدمة في التاريخ الاجتماعي لقبيلة الأما- النمانج)


بسم الله الرحمن الرحيم
قاسم نسيم حماد حربة [email protected]
صدر حديثا كتاب بعنوان المقدمة في التاريخ الاجتماعي لقبيلة الأما (النمانج) للأستاذ عبد الله عبد الله جهادية وهو من أبناء قبلة الأما القلائل العارفين معرفة موسوعية بثقافة القبيلة وأنسابها وعاداتها وتقاليدها بصورة محكمة قل نظيرها ، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب فبالرغم من أن هناك عددا من الكتاب والباحثين قد تناولوا قبيلة الأما ( النمانج) في عدد من كتبهم فأهمية هذا الكتاب أنه كتب بقلم أحد أبنائها الذين ولدوا وشبوا في ديارها ،وتمكنوا من لغتها وعاشوا ميعة شبابهم في ستينيات وسبعينات القرن الماضي في مضاربها ،وقت لم تتناوشها بعد أسباب التمدن ولم تستوعبها مكنزمات التعريب ، فعاشوا ثقافة قبيلتهم البكر قبل أن توتشب عذريتها ،وأخذ عن معمري قومه حينذاك . وأهمية الكتاب تأتي لتميزه في التناول الاجتماعي ، هذا التناول الذي لم يجد حيزا حيال التناول التاريخي الذي وجد حيزا أوسع ، ولأن هذا التناول يبرز مدى أصالة وتحضر هذا الشعب في وقت وجهت كل الأبواق للتنادي نحو ثقافة أحادية بفهم أن ليس هناك أخرى ذات قيمة حضرية ، فأبرز الكاتب وجوهاً من مظاهر الرقي الاجتماعي لدى قبيلة (الأما) النمانج تقاصرت عنها وجوه الثقافات المتاحة التي عرفنا ، وأبرز الكاتب سلوكا منضبطا لدى أفراد مجتمعه ندَّ عنه النظير في أخرى رغم كابحات الوعيد ومرعدات الجحيم ، سلوكا تقاصرنا عنه بعد أن اجتالت القبيلة أسباب الحضارة المزعومة والثقافة الأحادية ، وهذا يدعم الزعم القائل بأن الأخلاق ليست لها علاقة بالدين وهذا مشاهد ، ولكن أهمية الكتاب الكبرى أنه يفحم بعض الذين أصبحوا يزعمون أن قبائل النوبة ليست من أصل واحد ، يعينون عدوهم ، ويخذلون صديقهم ، أم تراهم وقعوا في الشراك نفسه الذي وقع فيه النوبة المستعربون الذين أضحوا ينكرون أهلهم بمعرة السواد ، أم تراهم فعلوا ذلك لخلوا تاريخهم من مجد وضجيج ملأ جنبات الأما ( النمانج ) بالنجوم اللآلئ ، لكن دع ذا لفيرين وما أدراك ما فيرين ، فيرين الذي فرَّ ركوته وأخرج فراره يقطع به كل ( بروس) تاريخي نبت كأنه رؤوس الشياطين ، يقذف بالحق فيُقذف المخرسين من كل جانب ، فيا ويلهم حين ينتهي سفره من الطبع ، ولنعد لجهادية الذي رسم لنا عن قبيلته صورة متلألئة، ودوحة تتفيؤها قبيلته متوهطة أبدا ، عندما ماد الحاضر ،وتجهم المستقبل .
يقع الكتاب في مائة وستين صفحة ، ليس فيه حشوا ، وإن كان قد تلا مادته بالتوضيح والتحليل لما وسعت كتابه الخمسمائة صفحة ، إذن هو متن بلا حواشي ، ومن هنا نستنشده بكل مقدس لديه أن يجعل هذا الكتاب قضية عمره، وقيمة حياته، يضيف عليه في كل طبعة ما تجتمع عنده من مادة ،وما يطرأ عليه من تحليل، وأن يمحض كل جامعات السودان نسخا من كتابه هذا .
باب الكتاب الأول باسم الأصول والعشائر ، تحدث في أوله عن النوبة بعامة خلص منه إلى أن الدراسات الأنثربلوجية أكدت على أن النوبة لا يختلفون عن سكان وادي النيل بل أنهم الشعب نفسه الذي هزمهم سنوسرت الثالث في القرن التاسع عشر قبل الميلاد في منطقة وادي حلفا ،وهم سلالة سكان الجزيرة نفسها الذين وجدت آثارهم بجبل موية ، كما عرض نتائج الدراسات التي أجراها كلٌ من الباحثين (دري) و(سلجمان) والتي تقول بإن سكان السودان القدماء في الشمال والوسط والغرب هم السلالة نفسها التي تعيش في جبال النوبة اليوم، كما دحض رأي ماكمايكل الذي كان يرى اختلاف نوبة الشمال والجبال في الأصل المشترك وقال إن هذا الرأي قد هوى بفعل الدراسات اللاحقة المضطردة المؤكدة لوحدة أصليهما.
ثم نفذ إلى بيت قصيده قبيلة ( الأما ) النمانج فأرجع أصلهم إلى الكوشيين المرويين وأورد طائفة من مفردات اللغة (الأماوية) – لغة النمانج- الحالية التي تبرز لفظة كوش بدلالات مختلفة نحو ( كوش ، كوشنديا ، كوشلي ، كوشير ، كوشغيل ) ثم يعرض للروايات الشعبية (للأما) النمانج التي تشير لهجرتهم من الشمال فيورد إحدى الأغاني القديمة التي تقول في بعض أبياتها مترجمة للعربية.
لقد أتينا إلى هنا ثلة قليلة
بفعل بني الحمران
لقد أتينا من الشمال
نحن أهل البركل
لقد تركنا مساكننا وهجرناها
كما تهجر الطيور أوكارها
القصيدة واضحة جدا وهي مصدر مهم فقد كان النمانج ( الأما) يوثقون لتاريخهم عبر أغانيهم ، وبنو الحمران الواردون في البيت الثاني للقصيدة هم الملك عيزانا وجيشه الأكسومي ، واستدل كذلك بوجود اسم عيزانا حتى الآن في مجتمع ( الأما ) النمانج بمعنى المصيبة ، والقوة القاهرة التي تحل بالإنسان وتحمله جبرا على فعل شيء ما . ووردت كلمة البركل صراحة بلفظها نفسه فأي دليل أقوى من هذا ،وأورد الكاتب آخر الاكتشافات الأثرية على لسان صلاح الدين محمد أحمد أمين أمانة الكشف الأثري للهيئة القومية للآثار في ندوة حيث قال : إن الدراسات المقارنة التي تجري الآن بين اللغة المروية واللغات الحية قد أثبتت تشابها بينها ولغة (الأما) النيمانج ، وهذه الدراسة قام بها علام آثار فرنسي يدعة كلود ريليه وأثبت العالم أن لغة الأما هذه أقرب اللغات للغة المروية ، بهذا تثبت هجرة قبائل الأما من منطقة البركل في شمال السودان وهنا يفحم الاقصائيون الاحتكاريون، فإن أرادوا انتسابهم لتلك الحضارة العظيمة فليبحثوا عن وشيجة تربطهم بالأما ( النمانج) ولات ذات مناص ،ولن تفلح محاولاتهم لإيجاد تشابه لغوي مع أي المجتمعات الأخرى في إثبات النسبة لأن تلك المجتمعات ذاتها موقوفة بإثبات نسبتها علمياً للمرويين.
بعد ذلك طفق الكاتب في تبيين مسار ( الأما ) بعد نزوحهم إلى شمال كردفان ومنها إلى تيمي كوجا ثم إلى منطقتهم الحالية قبل اثنى عشر قرنا حيث وفد ثمانية من أجدادهم استقر أحدهم في منطقة كتلا ووصل السبعة إلى منطقتهم الحالية ومن هؤلاء الأخوة السبعة تفرعت القبيلة كما سنبين .
معروف أن هناك اسمان للقبيلة (النمانج ) و(الأما) والمشهور الاسم الأول وقد غاص الكاتب في أعماق التاريخ لعله يظفر بنتيجة قاطعة وأكد أن النمانج يطلقون على أنفسهم اسم (أما) لكن من أين جاءت كلمة (نيمانج) بعض السذج يحيلها إلى أيام حرب السلطان عجبنا للإنجليز أو لعل القبائل العربية قد أطلقتها على القبيلة كما هو حاصل لدى كثير من قبائل النوبة، لكن البحث أكد أن هذا الاسم قديم جدا وللأما سلاطين ومواضع حملت هذا الاسم قديما بل هناك آراء أن جد (الأما) الأكبر يدعى (نيما) لكن المدهش أن آثارا وجدت في معبد الملكة حتشبسوت ترجع إلى نهاية الألف السادس عشر قبل الميلاد أظهرت أشكالا لزعماء قبائل سود يقدمون الذهب إلى الملكة من بينهم (نيمو) Nimiu ويرجح ماكمايكل أن يكون (نيمو) أحد أسلاف (النمانج) الحاليين . على كلٍ لم يحسم أستاذنا عبد الله جهدية قضية الاسم هذه فيما أرى.
أكد كاتبنا أن قبيلة (الأما) النمانج أكبر قبائل النوبة ( وهذا وارد في الإحصاءات ) وقسم لغتها لثلاث مجموعات (مجموعة الأما) و(مجموعة المندل ) و(مجموعة أفتي ) بجبل الداير ، كما أورد رأيا يزعم أن قبائل كتلا وتيما وجلد وتيمين من فروع (أما) القديمة .
ثم أتى الكاتب لبطون (أما) فقد تتبع الكاتب أجداد (الأما) وأصولهم منذ قبل وصولهم إلى مكانهم الحالي وقد قسمها لست مجموعات كبيرة تتفرع لبطون وأفخاذ وفصائل والمجموعات الست هي (1) مجموعة النتل (2) المجموعة الدقاوية (3) مجموعة فوي (4) المجموعة القداوية (5) مجموعة قلي (6) مجموعة بدانق .
وقد أشار الكاتب لبطون (أما) المتواجدة في القبائل المجاورة ، فسلالة كاركمان أحد جدود(أما) منتشرة بكتلا وجلد وتيمين حيث حط هناك ، كما بين هجرة (أما) إلى جبل الداير ، وبيَّن كذلك هجرة عشيرة توجي لبلاد الغلفان والكاركو وأوضح في جدول أكثر من سبعة عشر بطنا من بطون (أما ) موجودة في كل من كاركو ، وكجورية ، وفندا ، والمندل، وكدر، والدلنج، والغلفان ، وجلد ، وكتلا ، وتيمين ،وتيما ، وكاشا ، وأبو جنوك مما يؤكد اندياح دماء (أما) في تلك القبائل الشيء الذي يؤكد وحدة قبائل المنطقة، كما عرض لأحلاف ( الأما ) مع بطون عرب الحوازمة وهي كالآتي:
دار بخوتة أولاد عدلان مع قرى النيمانج في سلارا وكلارا والفوس وكرمتي والنتل
دار بخوتة أولاد أبو صبا مع حجر السلطان
دار بخوتة أولاد دبلة مع تندية .
البناء الاجتماعي :نظام المراحل العمرية : يمرحل أستاذنا البناء الاجتماعي (للأما) بميلاد الشخص حيث يسمى له في اليوم الثامن بطقوس محددة حيث يولم له ويربط بشريط من جلد في يده أو خرز في عنقه كطقس عقائدي، ويميل (الأما ) النمانج إلى تسمية أبنائهم بأسماء في معانيها القوة في لغتهم وبعد إطلالتهم على الخارج ظلوا في دأبهم هذا فسموا ب( طليان، وأمريكا ،و إنجليز ) لأنها دول اشتهرت بالقوة وخاضت الحروب وتسموا ( بمرتين) وهو نوع من البنادق وحربة.
الختان وبداية نظام التجيييل : يقول الكاتب يعتبر نظام مدارج الأجيال أهم صفة مميزة للقبيلة وقد لفت هذا النظام نظر كل الباحثين والكتاب في أمور القبيلة لأنه يستوعب كل أفراد القبيلة في نظام واحد ويصوغهم في هيكل وأحد منظم به سمات دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية وعسكرية ،ويبدأ هذا النظام بالختان . وكانت قبائل (الأما) النيمانج يختنون أبنائهم ما بين سن الثانية عشر والسادسة عشر (12-16) وذلك لارتباطه بعادات أخرى تتعلق بتدرج الإنسان في سلم الرجولة ، ويكون الختان جماعيا مرتبطا بمواقيت محددة يؤقت لها بانتهاء مهرجان النار (جال) فيؤذن ببدء معسكرات الختان فيتم تجميع الأولاد المراد ختانهم في معسكرات يُعَد لها في سفوح الجبال ،ويقوم الفتى المراد ختانه باختيار شابين من غير أهله لمعاونته وخدمته طيلة فترة المعسكر كما يقوم باختيار فتاة من غير فتيات أهله وأسرته أيضا لتقوم بإعداد الطعام له ،وتنشأ علاقة أخوية دائمة بين المختون والشابين اللذين اختار طوال حياته ،كما تنشأ بينه والفتاة التي اختار علاقة أبوية رغم تقارب السن ويحرم الزواج بينهما ،ويحمل المختون عصا بصفة دائمة طوال فترة معسكره تمييزا له ، بعد الختان يعود الفتى إلى منزله ويذبح له ويطلق عليه اسما آخر ويبقى مشهورا وقد يطغى على اسم ميلاده ، كما يطلق على جميع الجيل الذين أتموا مراسم الختان اسما عاما يسمون به وتكون العلاقة بين أبناء الجيل الواحد كعلاقة الدفعة في العسكرية ،ويتناولون طعامهم في الحي سويا ، ثم يقوم الفتى عقب ذلك بأداء طقس آخر يدعى طقس الدخان بحرقه كوماً من القش رمزاً للكرم وإعانة الفقير ،ثم يُولم له وبذا يكون مؤهلا للزواج ،ثم هناك مهرجان مسح الزيت الذي بانقضائه يتولى الجيل الجديد مسؤولية الشباب في القبيلة وتزاح المسؤولية عن الجيل الأدنى ، وهناك مهرجان قتل الثور وتقوم به عدة أجيال مجتمعة ورمزيته انتقال الشباب لمرحلة الرجولة .ويحدثنا الكاتب عن طقس التتويج ويعتبره أهم الطقوس على الإطلاق حيث لا يجوز لأبناء الرجل من الجنسين الزواج ما لم يؤدي والدهم لهذا الطقس ورمزيته اكتمال الرجولة ، ويبدأ باعتكاف الرجل المعني في قطية (كوخ) لأسابيع ثم يخرج من كوخه حاملا سيفه رابطا علي زنده جرسا صغيرا قابضاً على هذا الجرس حتى لا يحدث صوتا ثم يتجه إلى مكان محدد في جنح الظلام ،حيث يلتقي بأقرانه لكنهم لا يتحدثون فيسيرون في طابور في صمت مهيب إلى مكان محدد حيث ينتظرهم كاهن مسن فيقوم بمسح سيوفهم بقطع من طين مخلوطة بشيء من دم ، وتسمى هذه العملية بطقس تطهير السيف ثم يذهبون إلى بيوتهم ويقومون بمسح أبنائهم ببقية قطعة الطين ، ثم يتحرون من أبنائهم إن كان فيهم من فعل جرما يتعلق بالشرف فإن كان فلا يجوز له هز سيفه في ساحة الاحتفال التي ينطلق لها مباشرة من بيته وإلا لحقت صاحب الخطيئة اللعنة كما يعتقدون ، وإلا فإنه يهز سيفه عاليا في ساحة الاحتفال، ويطلق على الدفعة اسما آخرا ، أيضا وبانتهاء هذا الاحتفال يكنى الرجل باسم أكبر أبنائه من البنين أو البنات وذلك بإلحاق المقطع ( ما) في آخر الاسم ثم يحل لأبنائه الزواج.
انتقل الكاتب بعد أن أفاض في ذكر تلك الطقوس إلى الحديث عن العلاقات الاجتماعية والصداقات وعدد أنواع الصداقات التي لا نظير لها، فلها أنواع وأحكام خاصة تترتب عليها ، وهي من صداقة الرجل للرجل وصداقة الرجل للمرأة ،وصداقة المرأة للمرأة وأحكام العديل والصهر بل الرجلان اللذان يحملان اسما واحدا والمؤاخاة بين الرجلين والدمج بين العشائر ، كل هذه العلاقات لها أحكام مترتبة على نوع العلاقة، فمنها ما تحرم الزواج ومنها ما تمنع تناول الطعام عند بعضهم وهكذا . وتناول الكاتب قضية الزواج حيث يحرم من الأقارب وإن كان القرب بينهما يمتد لأكثر من عشرين جدا البتة، فلا زواج من العشيرة أو البطن البتة ، وللزواج نوعان خاص وعام كما شرحه في كتابه، وعندهم المهر ومقدم الصداق ومؤخره ولا يسقط المؤخر ويقتضى حتى من الأحفاد .
العقيدة :يقول الكاتب إن النمانج (الأم) كانوا يعتقدون بوجود الخالق يسمونه (أبْردِي) ويقولون في لغتهم (إلهي في السماوات العلا أنت خلقت كل شيء إنك على كل شيء قدير ) ولهم مفهوما الإلوهية والربوبية، فأبردي يشير إلى الإلوهية أما (أبدي) فيشير إلى الربوبية .أما الكجور فذكر أن له دور كهنوتي ودنيوي وفي تفسيره لمعنى الكجور قال : ( الكوني) هي القوة الخفية أو الروح التي تتقمص شخص ما بعد إجرائه لطقوس معينة ، وهذه الروح تحمل اسم أول شخص تقمصت فيه فأسماء مثل (كدمالي ، شيلما ، أمسال ) أسماء أشخاص في غابر الأزمان تقمصت فيهم هذه الأرواح فسميت بأسمائهم ،ثم تنقلت في سلالتهم من جيل إلى جيل فحينما نقول ( كوني كدمالي ) فالأول روح تقمصت في الثاني (شخص) فحملت اسمه وبعد وفاة كدمالي الشخص تتقمص هذه الروح وبالاسم نفسه (كوني كدمالي) في أشخاص من سلالته من وقت لآخر . أما الشخص الذي تتقمصه هذه الروح بعد مفارقتها لصاحبها الأول بموته فيطلق عليه (كونقيدو كويدي) ، فإذا تقمصت روح شلما شخص فإنه يعرف من تاريخ تقمصه روح شلما ب(شلمونق كويدي) أي الذي تقمصته روح شلما.
أما الكوير فهو الذي تتقمصه الروح وفق ترتيب معين وتدرج وخلوة واعتكاف وصوم ، فهو درجة أرفع من مجرد كجور .ويسلسل الكاتب مهام الكجور في إنزال الغيث وهذا لكجرة بأعينهم - (والجدير بالذكر أنه كان لأي سلطان من سلاطين (الأما) قدرة على إنزال الغيث حسب اعتقادهم والسلطان ليس بكجور ) – علاج المرضى ، دفع الضرر نحو ( السرقة مثلا وعدم الإنجاب )، التنبؤ ، كشف الجرائم ، الاستنفار للصيد أو الحرب.
كيفية التكجير: يقول الكاتب :تستدعى الروح عند وجود حاجة فيجتمع الناس وينشدون أغانٍ بعينها ذات طابع حماسي فيستثار الشخص فيقوم بأداء حركات معينة كالركض والهرولة والتحرك جيئةً وذهابا والصياح ،ثم يبدأ بالحديث بلغة لا يفهمها إلا أناس معينون ويكون في حالة جذب سماوي ثم يعود لحاله ، وقد يتنبأ الكجور لوحده خاصة في حالات الكوارث حيث يقضي ليله في حركة دائبة داخل منزله وخارجه ، وهو يتحدث بأعلى صوته ويزجر حتى يذهب الظلام ويسفر الصبح فيحدث الناس بنبوءته وما يجب فعله إزائها .
التدرج الروحي للكجور : بعد مضي أربع سنوات من أول تقمص للروح في جسد الكجور يقوم بطقس رمي الأدران كما سماه أستاذنا ، ويذبح له وتثبت له شعبة ذات ثلاث رؤوس في قطيته يضع فيها متعلقات ممارساته ، وبعد مضي أربع سنوات أخرى يأتي طقس الاعتكاف فيذبح وتشيد له خلوة ويعتكف فيها عدة أسابيع ينام خلالها على البساط ولا يجوز له النوم على الأسرة، ويعتزل النساء ويقصده القوم بالزيارة إلا أنه لا يخرج إليهم بل يطوفون حوله وهم ينشدون أغاني حماسية خاصة تمجد أسلافه ، وفي يوم خروجه يحتشد الناس وتلبس نساء عائلته وأقاربه زياً موحدا من السكسك ويخرج الكجور المعتكف متحزماً بقماش أبيض في وسطه مهرولا نحو مكان معين ويهرول الجميع خلفه ،منشدين أغانيهم الحماسية بصورة كورالية ويطلقون الأعيرة النارية بكثافة في الهواء، والنساء يزغردن ،ويقذف حفدته الرماح أمامه، حتى يصل مكانه المحدد فيقف على حجر كبير معين ثم يعود لبيته حيث يذبح له وتبدأ الاحتفالات لعدة أيام ، بعد هذه المناسبة يطلق على الكجور لفظ (كوير) وهي درجة مرموقة في سلك هؤلاء القوم ، فيلبس نوعا من الخرز الأبيض وتثقب أذناه من أعلى عدة ثقوب توضع فيها حلقات من النحاس ، ويلبس في يده أسورة ويحمل سوطا وعصا بطول متر تقريبا تزين بحلقات حديدية منتظمة تسمى هذه العصا (مرشيلنق) ، عادة ما يكون الكوير مرحا يطوف بالطرقات ليتفقد أحوال الناس ويداعب الأطفال ويزرع فيهم البهجة والسرور لكنه لا يأكل في بيوت الناس، بعد أربع سنوات من بلوغ درجة الكوير يذبح الذبائح ويقوم بزيارة ذات الحجر الذي وقف فيه يوم تعميده (كويرا) ويسمى هذا الطقس خبط المعوقات، وبعد أربع سنوات أخرى يذبح أنثى ماعز صغيرة (سخل) ثم يأخذ ديكا ويطوف به على قطيع الماشية ،ويعلقه على باب الزريبة فتخرج الماشية من الزريبة تحته ثم يذبح الديك ويشوى ويؤكل ، ثم يقوم بذبح بقرة ويوضع قرناها على مدخل الدار ، بانتهاء هذا الطقس الذي يسمى ذبح الديك بفترة وجيزة تنتقل الروح لشخص آخر لكنها لا تظهر فيه إلا بوفاة الكجور . وللكوير طابع كهنوتي وكارزمي ووقار وتبجيل ، يخدمه الناس ويوقف المعارك التي تنشب بمجرد إلقاء سوطه الذي يحمله في الأرض دون أن ينبس ببنت شفة .
وحينما يموت الكوير تذبح بقرة ينسج من جلدها العنقريب الذي يحمل فيه إلى مثواه الأخير ، وتحفر حفرة في شكل بئر من جزأين الجزء العلوي بعمق يزيد عن المتر من سطح الأرض وبعرض يزيد عن المتر أيضا ، ثم تفتح فتحة في منتصف البئر بقطر يزيد قليلا عن عرض المنكبين ، ثم تعمق وتوسع حتى تصير غرفة تسع سريرا واحدا ، ثم يؤتى بالسرير الذي صنعوه من جلد البقرة فيوضع بداخلها ، وبعد مغيب الشمس يشيع الكوير حيث يخرج جثمانه من غرفته إلى فناء داره ،ومن ثم يوقف الجثمان معتدلا ويمشي على قدمين حيث يثبته بعضهم ويحرك آخرين رجليه كأنه يسعى حتى يخرج من داره، ثم يحمل ثانية في عنقريبه وسط إطلاق الأعيرة النارية بكثافة فيتقدم الجثمان الموكب ويتبعه ابنه حاملا عصا والده (الميرشليق) ثم جموع المشيعين حتى مثواه حيث يوضع الجثمان على السرير داخل المقبرة كما تدفن الفراعنة ، ويسد ثقب الغرفة ثم يهال التراب على الحفرة العليا ، ثم تبدأ أيام المأتم بالاحتفالات والرقصات على الطبول وقد تستمر شهورا ، أما نساؤه فيدفن بعد موتهن بمقابر شبيهة بمقابر زوجهن مع خلاف بسيط ويوضع بجوار جثامينهن بعض مستلزمات زينتهن من زيت وخلافه في آنية من القرع وغيرها من أشياء يعتقد أنهن يستخدمنها في حياتهن الأخرى .
وفرق أستاذنا بين الكجور والسلطان حيث يقع الخلط بينهما لدى العامة فالكجور أساسه القوة الخفية ( الروح) أما السلطان فلا تتقمصه أي روح ولا يكجر بل يقوم بإنزال المطر عبر خاتمه الجهنمي الموروث ويسمى (توم) ، ونفوذ الكجور في حدود عشيرته أو نطاق تخصصه عدا كجور الجبل الذي يبسط نفوذه على كامل جبله (منطقته) أما السلطان فيمتد سلطانه جميع مناطق (الأما) النيمانج ، وللسلطان عرش يسمى (كودي) أما الكجور فلديه حجر مقدس يقوم بإجراء طقوسه عليه ، والروح التي تتقمص الكجور تنتقل بعد وفاته داخل عشيرته دون ترتيب معين أما السلطان فيرث السلطنة من والده مباشرة ، لكنهما يتشابهان في طريقة الدفن ويختلفان في مكان الدفن . وفرق الكاتب بين الكجور والساحر فذكر أن الساحر لا يتمتع بأية مكانة وغير مرغوب فيه ونظرة المجتمع تجاهه أنه مضر ويتحصنون منه بكيفيات معينة .
لقد أجاد كاتبنا في تناول قضية الكجور وعقائد النوبة قبل دخول الإسلام ووصف ( الأما) النمانج بالتوحيد إلا أنه وفي معرض تناوله لقضية الكجور وصف مجتمعه بالوثنية ولعله لم يقصد حيث وردت هذه الكلمة مرة واحدة في كامل كتابه ، وهذه ما نعيبه عليه فلا ينبغي لباحث موثوقي كهذا أن يخطئ هذا الخطأ حتى ولو على سبيل التوصيف والتقريب ، وكنت قد أنشأت مقالة كاملة في الرد على من وصف عقائدنا قبل دخول الإسلام بالوثنية من الصحفيين أثناء عرضهم لاحتفالات ورق اللوبيا التي أقيمت في النتل غرب الدلنج قبل عامين عنونتها ب( لم نكن وثنيين بل موحدين ) ونشر هذا المقال في صحيفة أجراس الحرية حينها ، والمقال متاح في الإنترنت لمن أراد التوسع ،لكن إن كان لا بدأن أتحدث فأقول : مقتضبا أن الوثن هو الصنم وما كانت لدينا عبادة الأصنام ولا حتى عبادة الأرواح كما تبين ، لكن كان أهلنا يتوسلون ويستغيثون بأسماء أجدادهم الصالحين وجاههم كما تفعل الصوفية بالتوسل بالصالحين لديهم حتى الغد، وما نرى في ذلك شيء وهذا مذهب عامة أهل السودان ، ومن أطلق هذه الكلمة ( الوثنية) على حال أهلنا قبل الإسلام ما كان ليجهل خطل توصيفه ، لكنه أجرى ذلك عن قصد ، حتى نرى تلازم حالنا مع حال المشركين فنرفضُّ عن كامل تقاليدنا وثقافتنا ونتأفف منها ونستعير أخرى، رغم ضيقها بنا ،وتظاهرها عنا، وتضاحكها منا ، إن الله تعالى يقول (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون ) البقرة 62 . والصابئون هم كل من يؤمن بالله واليوم الآخر لكنه لا يتعبد برسول ، وهذا حال أهلنا قبل الإسلام ،فينبغي التصحيح .
ثم سرد الكاتب بإفاضة عن المحرمات بدءً بحرمة القتل والزنا وأكل أموال الناس بالباطل وأشار أن عواقبها دنيوية في اعتقاد النيمانج كالصاعقة وموت الأطفال للزناة والأمراض المزمنة الموروثة لأكلة أموال الناس بالباطل غير التشهير عبر الغناء لمرتكب المحرمات ، سوى أنه ذكر خلو مجتمعه من آفة المحرمات وقتذاك ، وأشار للتوبة بعبارة التطهير والاغتسال وفق لغتهم ،وذلك بالاعتراف والذبح لدفع العواقب الدنيوية إلا أن عقوبة التشهير بالغناء تظل باقية عظة واعتبارا ، وأضاف أن (الأما) النيمانج كانوا يعتقدون أن روح المقتول ستنتقم من القاتل فيجمعون ذوي القاتل ويجرون طقوس معينة وينفون القاتل بأهله ، وأورد أن (الأما) النيمانج كانوا يزكون صدقات أموالهم من ماشية أو زرع .
وعن أيمانهم قال أنهم كانوا يقسمون بشعاع الشمس وعزة الوالدين وثرى القبر(التربة) بدارجتنا وعنقريب الجثمان وأسماء أرواح كجرتهم . ثم سرد أستاذنا التقويم عند ( الأما ) وأن السنة عندهم تبدأ بشهر مايو وتنتهي بشهر إبريل ، وسمى الفصول والشهور وقابلها بأسماء الشهور الأفرنجية ، وعدد أستاذنا أعياد (الأما) من عيد الصيد (أفونج)حيث يخرجون للصيد في جماعة ويعزفون ( البوشير) وهي آلة من القرن، وفصل في أحكام الصيد ، ثم تحدث عن عيد (ورق اللوبيا) ( الكونيجار) أهم الأعياد وبين خطأ تسميته بعيد الحصاد حيث أنه لا يقام في أيام الحصاد وسرد طقوسه ، وتحدث عن عيد جدع النار (جال) وذكر أن المغزى منه طرد الأرواح الشريرة بقذف أعواد النيران في الهواء مصحوبة بصرخات . ثم طفق يعدد أنواع الرقصات وكيفيتها من رقصة الكرنق المشهورة ورقصة (بيرين) ورقصة المبارزة ورقصة المناحة وأُخر .
وفي توصيفه للنظام الإداري ذكر أستاذنا أن (الأما) وصلوا إلى ديارهم الأخيرة هذه في القرن الثاني عشر الميلادي ولم يخضعوا منذ وصولهم لسلطة قابضة على رأسها حاكم يصدر الأوامر السلطانية للرعية وتنفذها دون شورى أو جيش منظم بل يقاتل كل الرجال القادرين على القتال، إلا بعد الإنجليز وذكر أن ( الأما) لم ينسجموا مع المهدية رغم انضمام كثير من فرسانهم لها ومقاتلتهم معها ، وشبه نظامهم الإداري بنظام المدن الدويلات اليونانية ، وذكر أن الكجور يبسط سلطته على منطقته وله صلاحيات تصل إلى إعلان الحرب وينقسمون إلى ثمانية مناطق إدارية في كل منطقة كجور يبسط سلطته ، وهناك ما يعرف (بالقدي) وهو مجلس يتولى شئون العشيرة دون تدخل من الكجور أو السلطان إلا في بعض الأمور التنسيقية ، وللمجلس صلاحيات سن القوانين وفرض القيود .ثم سرد أستاذنا حرب الكجور دارجول 1908 وحرب السلطان عجبنا 1915-1917 بوصف شيق وريشة متمكنة تنقلك إلى ساحة الحرب وغبار المعارك وصهيل الخيول فتراها كفاحا وترى بطولات الأميرة مندي بنت السلطان عجبنا وهي تتقدم فرسان والدها ،ممتطية فرسها رابطة وليدها في ظهرها ممسكة بيسراها عنان فرسها وبيمناها بندقيتها المصوبة في وجه العدو ، فينهزم لديك الموت ، وتُحتقر الحياة ، وتُبتلى الرجولة ، لا استطيع اختزال هذا الفصل فأشيه الصورة ، وأبتذل المعنى الذي قصده الكاتب فعزرا قارئي الكريم ، وحسبي تعزياً أن أحيلك للكتاب .
ختم الأستاذ فصله بذكر مكوك (الأما) لمناطقهم الثمانية ثم تمدد نظارتهم لتضم الصبي والمندل وكاركو ووالي وكتلا وتيمين وجلد تحت إدارة الناظر أمينة دردمة الذي خلفه الناظر كندة كربوس الذي جرت في عهده تغييرات مفصلة في حياة (الأما) النمانج
في فصله الأخير المعنون بالأدب الشفاهي بدأ أستاذنا بعرض الأساطير عند (الأما) النيمانج ، بدءً بأسطورة (كنوغل) الذي أتى إلى ديار ( الأما) الحالية طائرا عند بداية هجرتهم ثم أنه تحدى الموت فتحول إلي حية برأس رجل وسكن إحدى الكهوف وقد يظهر من حين لآخر في الملمات ، إلى أسطورة (ديقيدا) الذي هاجر من تيما كوجا موطن النمانج قبل الآخير إلى ديارهم الحالية شقا تحت الأرض ، إلى أسطورة (ودار) و(موندر) اللذان أنجبتهما شجرة ، إلى أسطورة (ماريما) أصل أسرة السلطان الذين هبطوا من السماء ولا تزال آثار أقدامهم باقية ثم لحقهم جدهم متدلا بفرسه من السماء ، إلى أسطورة (ولا) الذي ولد من ركبة أمه ،إلى أسطورة (نمانغ تسرما) الذي دفن عاما كاملا وخرج حيا من قبره ،إلى أسطورة(شلما) الذي شق الصخرة بسوطه وطرد من داخلها الأرواح الشريرة ، إن قراءتنا لهذه الميثلوجيا تبين لنا اكتظاظ أدب هذه القبيلة بالأساطير الغريبة التي تصلح للرواية والقصة وصناعة الأفلام والتميز فيهم، وترفد أدبنا بإنتاج جديد مميز تقفز به إلى العالمية لإيغالها في الغرابة والتشوق ، فهو بحر جديد بسطه للأدباء أستاذنا بلغة عربية .
وتحت عنوان الحكم والأمثال ترجم لنا أستاذنا خمسة وثلاثين مثلا من لغة ( الأما) للغة العربية تعكس المدى الحضاري الذي بلغته هذه القبيلة وقد تجد من بين أمثاله ما يصادفك معناه عربيا لكن الغالب الأعم لا نجد له موافقا في المعنى من بين ما نعرف من أمثال ، فهذه ثروة أخرى فتح بابها أستاذنا لقراء العربية.
أنهى أستاذنا سفره بعنوان الغناء عند ( الأما) فاعتبره أهم عناصر الأدب الشفاهي ، وعد منطقة (الأما) أكثر المناطق ثراءً في هذا النوع وأهمية غنائهم تبرز في حمله لتاريخهم ، وأرجع تعدد أنماطهم الغنائية لتعدد مجالاته المغطاة غنائيا ، وعدد أساليب الغناء المتبع وقسمه لأغاني الكبار وهي أشبه بملاحم اليونان ،وتحمل قصص التاريخ والأساطير والحروب وأيامهم والقيم الاجتماعية والعقدية والنسيب ، وأغاني النساء ،وأغاني المناحة ، وأغاني الحماسة ، وأغاني البنات ثم قام بترجمة عشرة أغاني من أغاني الأما.
لقد حملتني المتعة التي وجدتها أثناء قراءة هذا السفر للتنويه به ، رغم ابتعادي عن الكتابة فترة ، فهو كتاب تتحفه الجدة ، وتتملكه الغرابة ولا تفارق قارئه الدهشة فضلا عن علميته ورصانته وصدق كاتبه ، فليكن تدشينه ملهما لآخرين ليكتبوا عن بقية قبائلنا بذات النمط ليبينوا للآخر أن لكم ثقافة وحضارة ذات قيمة لا أن تكتفوا بمجرد الهتاف والشعار .

--
قاسم نسيم حماد حربة
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.