بقلم : بدر الدين حسن علي كان يا ما كان أخي وصديقي د. محمد المهدي بشرى نشر مقالا هاما بصحيفة البيان الإماراتية التي كنت أراسلها من الكويت ، وكان تلخيصا رائعا للكتاب يقول فيه : كتاب يا ما كان لمؤلفه الراحل الفكي عبد الرحمن عبارة عن سرد مطول لحياة المبدع السوداني الراحل الفكي عبد الرحمن يرويها بلسانه ، لقد أملى هذا السرد على عدد من الكتاب والصحفيين آخرهم دكتور أمين محمد أحمد الذي أجرى مع الفكي عدة حوارات نشرت جميعها في صحيفة الصحافة قبل أعوام خلت . الفكي عبد الرحمن معلم ومسرحي ينتمي إلى جيل نال تعليما رفيعا قبل الإستقلال ، حيث تخرج في معهد بخت الرضا وابتعث للملكة المتحدة ، وهو واحد من الطلائع التي تسلمت مقاليد السلطة من الإنكليز بعد خروجهم إثر نيل السودان إستقلاله في 1956 ، ولا شك أن هذا الجيل لعب دورا مفصليا ومفتاحيا في مصير البلاد سلبا وإيجابا ، كان الفكي عبد الرحمن مرآة صادقة للمجتمع السوداني كما رآه وعايشه في وسط السودان ، وللدقة يحكي الفكي عبد الرحمن بأسلوبه الشيق عن المجتمع العروبي الإسلامي الذي نشأ وترعرع فيه . بديري دهشمي "تشيقن " يقول الفكي عن نفسه أنه بديري دهشمي " تشيقن " صار شايقيا شكلا ومضمونا ، ثم يبدأ سرد مرحلة الطفولة منذ سنواته الأولى في بيت جده في تنقاسي ، ثم هو يتعلم في الخلوة ، يحكي كل ذلك بصدق وبراعة ، فنعرف كيف جلده الشيخ وهو طفل صغير ، يقول : وبسوط له لسانان ألهب قفاي – يضرب ويلعن – فأصرخ وأتلوى وأتوسل واستنجد ، فيهيج الشيخ ويزيد سبا وضربا . ولم يكن أمام ذلك الطفل الغرير وهو بين يدي شيخه وجلاده سوى أن يتبول في يدي الشيخ ، يصف الفكي هذه اللحظة قائلا : إستجاب جسدي للألم ، وشعر الشيخ ببلل على يده التي تمسك بقميصي فدفع بي بعيدا وهو يردد " نجس " . ويكبر ذلك الطفل فيصير صبيا ويذهب إلى سوق تنقاسي في معية أقرانه كبار السن ، ويستطرد الفكي في سرد عالم الطفولة البكر ، ويحكي لنا حضور علي الميرغني في زيارة له إلى تنقاسي ، وهنا نحس ببذور المسرحي والقاص الذي يكمن في داخل هذا الطفل ونقرأ : الرجال والنساء والأطفال ، يبكون يضحكون ويجرون العميان يشيل المكسر ، وتجري عائشة مع الجارين تجرني تدفعني – ترفعني –تهددني – تهدهدني . وحين وصلنا مكان الاحتفال كنت كما ولدتني، ولولا حرصها وحرص الاخريات على فلذات اكبادهن لدهستنا ارجل القوم وهم لا يعون. ويكبر الفتى وينتقل الى مرحلة دراسية اخرى هي المدرسة ويخرج من فضاء البيت الى فضاء القرية، حيث يسيطر عالم السوق والتجارة والزراعة. وهنا يسرد لنا الفكي عالم السوق وكأنه يحمل آلة تصوير تصور دقائق الموقف فيصور الانسان والحيوان والمكان بكل ضجيجه وحيويته ويقف أمام بعض الشخصيات النمطية التي عادة ما تكون معروفة في مثل هذه الفضاءات، منها ود الاوسطى «ربعة قمحي اللون، نظيف جداً جسماً وزياً، بالحناء يصبغ لحيته وبالاثمد يكحل عينيه ويتعطر بماء الصندل. ويحكي عن زكي وزكية من الغجر وعن ابوشبال وغيرهم. وهكذا نمضي مع الفكي وننتقل الى مدينة عطبرة او اتبرة كما يسميها الفكي ويحكي عن بيت الشبلاب الذي ينتمي اليه وعن الليلية والختمية يختمون الالواح في المولد: يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج واشغل اعداي بانفسهم وابليهم ربي بالمرج ويشرح الفكي باسلوبه الفكه كلمة المرج قائلا انها «حكة تصيب المنكر في مكان يتحرج ان يهرشه امام الناس» ومن اتبرة ينتقل الفكي الى بخت الرضا ويحكي ذكرياته في هذا العالم الغني المدهش، ويصف لنا الاسباب التي دعت الانجليز لاختيار بخت الرضا لانشاء اول معهد لتدريب المعلمين ولماذا فضلت على الهلالية والدويم وهنا يشير الكاتب الى دأب الانجليز ودقتهم في اطار القرار فقد شهدت هذه القرية التي دخلت تاريخ السودان من أوسع أبوابه نضوج واكتمال شخصية الكاتب، كما ان القرية كانت البوتقة التي انصهرت فيها ثقافات السودان المتنوعة والمتعددة. تخرج الطالب الفكي عبدالرحمن ليصير معلماً للكتاب بعد تدريب ممتاز وصقل للخبرات والمهارات، ليس اقلها النشاط المسرحي وتمثيل روايات من الادب العالمي مثل مسرحيات شكسبير حيث اخرجت مسرحية هاملت التي تم تعريبها يقول الفكي «مارس 1945 مثلنا مسرحية هاملت وقمت بدور حفار القبور. حفرت وشربت وغنيت وعبثت بجماجم الموتى، لاشك ان تجربة بخت الرضا ودور خريجيها مما يحتاج للتوثيق والدراسة، وتبقى مساهمة الفكي عبدالرحمن رائدة في هذا الصدد ويضيف في ثراء هذه الشهادة كونها شهادة من الداخل ومن شخص حظي بذاكرة فتوغرافية اضافة الى اسلوبه القصصي البارع في سرد ذكرياته. تنتنهي ايام بخت الرضا ويأخذنا الكاتب في أول رحلاته خارج السودان، حيث ابتعث الى مصر لدراسة المسرح عام 1953 ثم الى المملكة المتحدة بعد ذلك، ويتوقف الكاتب طويلاً في تجربته في المملكة المتحدة وليس هذا بغريب فالكاتب ينتمي لطلائع السودانيين الذين ابتعثوا الى هناك وكانت لهم تجربة ثرة وعمل الكثيرون من هذه الطلائع على تسجيل التجربة، كل بأسلوبه. ثم يحكي الفكي عن انشاء اول اتحاد للطلبة السودانيين في المملكة في عام 1956م ويشير الى ان هذا الاتحاد كان الأول من نوعه بالمملكة المتحدة. ونمضي مع الكاتب في سرد ذكرياته في لندن حيث عمل في هيئة الاذاعة البريطانية يقول «فقد اختارني المخرج الطيب صالح متعاونا مع الاذاعة شرفني الطيب صالح بالاشتراك مع يوسف بك وهبي فسجلنا بعض اعمال وليام شكسبير باللغة العربية اخراج الطيب صالح. وينتهي هذا الجزء باشارة خاصة لاسلوب التدريس ببخت الرضا وذلك بعد ان التحق الكاتب معلماً بالمعهد.