كما وضح جلياً لكل مراقب لم يكن انفصال الجنوب هو الهدف النهائي للغرب وإنما كان مرحلة من مراحل مشروع تغيير هوية السودان العربية الإسلامية وإعادة هيكلته أو تقسيمه، بدليل أن الجنوب بعد أن تحققت له كل المكاسب التي كان يحلم بها من اتفاقية السلام، لا يزال يشن الحرب على الشمال بالوكالة من خلال القوات التابعة له في جبال النوبة والنيل الأزرق بالإضافة إلى قوات حركات دارفور. وذلك بعد أن فشل الغرب في إسقاط الشريعة والعودة للقوانين التي تركها المستعمر بعد خروجه. علماً أن الاستعمار بعد خروجه من السودان وبعد القضاء على الدولة الإسلامية التي أنشأتها الثورة المهدية، ترك إرثاً ثقافياً غربياً تمثل في القوانين التي أسست لدولة علمانية تمنح التراخيص لاستيراد الخمور وفتح الحانات لبيعها وتبيح ممارسة الدعارة.فقد كانت هنالك حانات في قلب العاصمة وغيرها من مدن السودان تباع فيها الخمور للجمهور مثلها مثل البيسي كولا وغيرها من المشروبات الغازية، كما كانت هنالك دور للبغاء تتم فيها ممارسة الدعارة في وضح النهار. انزعج الغرب أيما انزعاج عندما قام النميري في عام 1983 بإلغاء ذلك الإرث الثقافي واستبداله بالموروث الحضاري الإسلامي، حيث تم إغلاق محلات بيع الخمور وقبلها تم إغلاق دور الدعارة.وتم استبدالقانون العقوبات وقانون الإجراءات المدنية وهي قوانين علمانية وضعها الاستعمار بقوانين الشريعة الإسلامية. وأرسل الرئيس الأمريكي نائبه في ذلك الوقت جورج بوش الأب إلى السودان للعمل على وقفهذا الانقلاب الحضاري الذي كانوا يرون فيه تحدياً للإرادة الغربية ومشروعها الحضاري الذي يهدف لسيادة القيم الغربية المتمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات. وهي القيم التي استخدمت في كثير من الحالات كذرائع لمعاقبة الدول التي لا تدور في فلك القوى الغربية. بحجة انتهاكها لحقوق الإنسان أو عدم التزامها بالديمقراطية. ومنذ ذلك التاريخ بدأت حرب الغرب على السودان. حيث صدرت تعليمات لسفارات تلك الدول في السودان بعدم منح تأشيرات دخول لأراضيها لأي قاضي سوداني أصدر حكماً بموجب القانون الجنائي الإسلامي الجديد. وتم فرض حصار اقتصادي على السودان في ظل حكومة الإنقاذ الوطني لإجبارها على التخلي عن تطبيق الشريعة. وكان على رأس القائمة حظر استيراد السلاح بحيث تتوقف إمدادات السلاح عن الجيش السوداني مما يضعف قدراته،بينما يواصل الغرب تسليح الحركة الشعبية لإحداث خلل في ميزان القوة بين الطرفين لصالح الحركة الشعبية يمكنها في نهاية المطاف من هزيمة الجيش السوداني والاستيلاء على السلطة بالقوة وإنهاء المشروع الإسلامي. وقامت أمريكا بتأليب كل الدول المجاورة للسودان حيث فتحت الحركة الشعبية جبهات قتال في اريتريا وفي إثيوبيا بالإضافة إلى قواعدها الأصلية التي انطلقت منها في كل من يوغندا وكينيا. كما قامت بتوحيد جميع فصائل المعارضة في جبهة واحدة هي التحالف الوطني الذي ضم أحزاب المعارضة الشمالية و الحركة الشعبية. وقامت وزيرة خارجية امريكا بزيارة إلى يوغندا اجتمعت فيها بجون قرنق لرفع معنويات الجيش الشعبي حتى يواصل القتال. وكانت المفاوضات مع الحركة الشعبية في كل جولات التفاوض عبر السنين تتحطم على صخرة الشريعة. حيث كانت الحركة تصر في كل جولات التفاوض السابقة على إلغاء الشريعة كمدخل لأي تسوية للنزاع رغم أن الجنوب قد تم استثناؤه من تطبيق الشريعة. وفشلت المساعي الرامية إلى إلغاء الشريعة من خلال المفاوضات. وعندما سدت منافذ التسلح لجأ السودان إلى الاعتماد على الذات فبدأ مشروع التصنيع الحربي. وأصبح ينتج الدبابات و الصواريخ وطائرات بدون طيار. وتزامن ذلك مع استخراج البترول مما جعل ميزان القوة يميل بدرجة واضحة لصالح الحكومة. وهنا لم يجد الغرب أمامه مناصاً غير إجبار الحركة الشعبية على التوصل إلى اتفاق سلام كتكتيك مرحلي لتحقيق الهدف النهائي. وصمدت الشريعة في مفاوضات نيفاشا وصمدت حتى في محاولة استثناء العاصمة القومية من تطبيق الشريعة رغم أن جون قرنق حصل على تأييد من زعيمي حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي لطلب استثناء العاصمة من الشريعة. وهو المطلب الذي لجأت إليه الحركة بعد أن تأكد لها أن إلغاء الشريعة دونه المهج والأرواح. وبعد انفصال الجنوب كان التعويل على إسقاط النظام من خلال إشعال الحروب في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور. وعندما طال الانتظار دون أن يحقق المتمردون أي تقدم، ودون إحراز انتصارات تذكر، تم ضرب مصنع اليرموك كأكبر مساعدة في تحطيم القدرات العسكرية السودانية يقدمها الغرب لهذه الحركات لتشجيعهم على مواصلة القتال. وقد درج الغرب على رفع معنويات هذه الحركات من وقت لآخر فقد استخدم المحكمة الجنائية من قبل لإصدار اتهامات للبشير بارتكاب جرائم حرب في دارفور ومطالبته بالمثول أمام المحكمة. وقد تزامن ذلك مع المفاوضات بين الحكومة وحركة العدل والمساواة في الدوحة. كان ذلك بمثابة رسالة للعدل والمساواة تطلب منهم عدم التفاوض وتحرضهم على مواصلة القتال وأن المجتمع الدولي سوف يفعل كل ما في وسعه لمساعدتهم. وقبلها كان صدور قرارات مجلس الأمن حول دارفور التي حمل فيها المجلس الحكومة مسؤولية الحرب وكانت بمثابة تحريض معلن لحركات دارفور بأن المجتمع الدولي يقف إلى صفها ضد حكومة السودان التي تتمسك بتطبيق الشريعة. اثنان من الرؤساء الأفارقة صدرت بحقهما اتهامات من محكمة الجنايات الدولية لأن الغرب لديه ثارات ضدهما، ويريد محاكمتها، أحدهما حسين هبري الرئيس التشادي السابق، كل ما جناه أنه قضى على حكم الرئيس السابق تمبل باي الذي ينتمي لأقلية غير مسلمة وغير عربية سلمها الاستعمار الفرنسي الحكم بعد خروجه من تشاد وهو مطمثن أن تشاد سوف تسير في ركاب الغرب. ولم يكن حسين هبري يحمل مشروعاً إسلامياً ولكنه كان ينتمي للقبائل العربية المسلمة في تشاد. وعروبة تشاد تصب في صالح تقوية الصف العربي الإسلامي في مواجهة إسرائيل. و ليس بعيداً عن الأذهان تكالب الغرب على إسقاط عيدي أمين رئيس يوغندا السابق. الذي تعرض لحملة ظالمة من الغرب الذي تكالب على تشويه صورته وإسقاط حكمه حتى لا تصبح يوغندا بوابة جديدة للمد الإسلامي في أفريقيا.