2- شعب الفور عَرَضَ أحد زملائي في مرحلة الدراسات العليا خطة بحثه الذي يدرس أحد جوانب شعب " الفور" على المشرف ، فإذا بالمشرف يقوم بشطب كلمة " الفور" ويكتب بديلا عنها كلمة " الزغاوة " ،عندما استفسر الطالب عن مغزى هذا التعديل ، قال له المشرف: أمض حسب توجيهي ( من غير ليه)!. ودرس الطالب الزغاوة صاغرا عِوض الفور . واعتقد أن قصد الأستاذ – وهذا مجرد استنتاج – إن على طالب دراسات العليا النابه أن يولي اهتمامه ب (الظواهر ) ، وإن سمة (الظاهرة ) تنطبق على (الزغاوة )أكثر من (الفور )، والله أعلم ، مازال السر المكنون في (بطن البروفيسور)! ، الذي هو أستاذ مشهور في هذا الباب ، ولا علاقة له بهذه المجموعة أو تلك ، في أية ناحية من النواحي . سُقت هذه الحكاية لأدلل على قلة الدراسات حول الفور ككتلة إثنية ، ففي الوقت الذي يُشكل شعب الفور المجموعة الأكبر حجما في دارفور من الناحية الديموغرافية ويَشغل مساحة جغرافية لا بأس بها ( هذه أيضا محض استقراءات عامة فليس لدي بيانات إحصائية تثبت صدقيتها ) عزف الباحثون –أو أجبروا أحيانا كصاحبنا – وأنأوا عن إعطاء هذه الأثنية حقها في الدراسة . ربما يعود ذلك إلى حالة الشعور بالتشبع من الدراسات التي دارت حول (سلطنة دارفور ) التي سميت باسمهم .. والإحساس بأن دراسة( دارفور) تُغني عن دارسة ( الفور) ، ربما هذا الإحساس هو الذي يبعد الكثيرين عن الانخراط في مشاريع بحثية حول الفور ، رغم أن تلك دراسات التاريخية حول سلطنة دارفور لا تفيدنا كثيرا فيما يتعلق بأصول شعب الفور وكيفية تطور أنماط عيشه وديناميات حراكه الحالي. في رأي يوسف فضل حسن ، أن الفور ، شعب أفريقي ، له لغة خاصة به ، وموطنه جبل مرة وما حوله.. ويلخص رأيه في قوله:" الفور شعب شبه زنجي مجهول الأصل ... ويرجح أنهم مزيج من الزنوج والحاميين.." .. ومن حسن الحظ أن الفور يطلقون على أنفسهم ذات المسمى (فور) بعكس الزغاوة مثلاً ، ولكن من أين جاءت كلمة (فور) ، لسوء الطالع ، ليس بين أيدينا مصادر حقيقية لتزودنا بالإجابة الصحيحة ، لذلك - والحالة هذه -لا مفر ولا مناص من أن نعود إلى صاحب الزغبلات العجيبة والتخريجات المضحكة ؛ أعني المستر( آركل ) الذي يقول أن (فر) جد الفور و(فيرات ) جد الفرتيت ( تشمل الفروقي والكريش والبندا )، وأن (فر) و(فيرات) كانا أخوين ، وأن الفرتيت كانوا يسكنون غرب جبل مرة (الأحرى يجب أن يكون شرقه أو جنوبه) وأنهم نزحوا إلى مستنقعات بحر الغزال نتيجة لضغط سلاطين الفور ( والحقيقة الأقرب للمنطق يجب أن يكون سبب الفصل هو ضغط العشائر العربية التي تدفقت على المنطقة مع نشوء سلطنة الكيرا ) أما هارولد مامكيكل (الله لا سامحه) قد كال على الفور الشائم والسباب وأشبعهم قدحا وذما دون مبرر أو سبب منطقي ، ولا أرى نفعا من اقتباس مما قاله من عبارات متحيزة ومن شاء منكم فليعد إلى كتابه المعروف ( تاريخ العرب في السودان ) ويقرأ الفقرة الذي كتبه عن الفور . يصف شريف حريرالفور بأنهم عبارة عن تجمعات أبوية ذات روابط فضفاضة ،وعلى الرغم من أنهم يتحدثون لغة واحدة إلا أن (الوجدان المشترك ) فيما بينهم لم يكن متكاملا ، ويعزي ذلك إلى أنهم ظلوا تحت سيطرة الدولة المركزية لفترة طويلة ، حيث تحتكر الدولة سلطة القهر ، لذلك أصبح الفور يفتقدون إلى حد كبير خاصية التعاون فيما بين مجموعاتهم الأبوية .. خاصة عند الدفاع عن النفس ، بعكس الوضع السائد لدى جيرانهم من القبائل الرعوية (صحراويون كانوا أم عربا) حيث دور العشير مازال قوياً . وهو الدور الذي تركه الفور للدولة لمدة تنيف عن ثلاثة قرون .. هذا التحليل أكثر من رائع ، وقد تجلت وجاهته في وقائع سنوات الشدة (1986-1989م) أي فيما عرف بالصراع بين (العرب والفور ) حيث كان استنفار الفور جزئياً ضد (التجمع العربي ) الشرس الذي كان هدفه غير السامي تدمير الفور وتطهريهم عرقيا . هذا العامل التاريخي قد تكافل وتكامل مع عامل آخر جغرافي / بيئي ليجعلا من الفور ( أمة غير محاربة ) هذه من عوائد الشعوب التي تعيش في البيئات الزراعية المستقرة أن تميل إلى الحياة الوادعة الآمنة ، حيث عاش الفور في بيئة مثالية متمثلة في كتلة جبل مرة البركانية الخصبة ، والتي هي أعلى منطقة في دارفور ، حيث تهطل عليها الأمطار بمقادير معقولة - حتى في السنوات الجفاف والقحط الشديد - مما يمكن الفور من ادخار قوت عامهم على الأقل ولم يتعرضوا للمجاعات المهلكة، كما استطاعوا من توطين نوع خاص من (الدخن )يتسم بسرعة النمو مع قصر الساق ، وعظم السنبلة ، حتى أن الحاصد عليه أن ينحني لقطع السنابل ، بعكس دخن ( القيزان ) الذي يطول في النمو وإذا لم تكن الأمطار كافية ( يحرق ) وتحل المجاعة .ولم يخض الفور مثل هذه التجارب المهلكة نتيجة لخذلان الطبيعة . كما أن الأمن والاستقرار في السفوح العالية والوديان العميقة أمكن الفور من دعم وتطعيم (عزلتهم المجيدة)! بنسج صيغ من (الأسلحة الفلكورية ) التي تبعد الأغراب عنهم وذلك بنشر الأساطير والخرافات المحلية التي لها وظائف دفاعية ، مثل الخرافة القائلة بأن بعض أفراد الفور لديهم القدرة على أن ينقلبوا إلى ذئاب ( مرافع - جمع مرفعين )! ، ولا غرابة أن وجدنا الفور- أو بعضهم على الأقل - لا ينفون ذلك بل يؤكدونها والهدف - بالطبع - تخويف الآخرين من الاقتراب ، مستغلون كثرة الذئاب في منطقتهم لأنها جبلية ، ولأن الذئاب هناك مثل الكلاب الضالة تبحث عن الأكل والماء أحيانا من داخل البيوت خلسة ، وعندما يرى الأغراب ذئبا يخرج من المنزل يقولون ( يا ويلي قد انقلب صاحب الدار هيا نهرب ) ! وهكذا. في سنة من السنوات قامت السلطات الحكومية بحملة واسعة لقتل الذئاب بالسم وقضت على أعداد كبيرة منها. وعندما ذهب جباة الضرائب لأحد العُمد يطلبونه الحصيلة التي جمعها، قال لهم: كيف تقتلون الرجال وتطلبون مني الضريبة ممن أجمعها؟ !، منتهي البراعة في توظيف الأساطير المحلية . فمثل هذه الحيل الدفاعية معروفة على نطاق دارفور ، و في وسط جميع الإثنيات ، كل على طريقته ، فالعشائر العربية مثلا عندما يمسحون إبلهم ( القطران ) افتعالا ويزعمون أنها مصابة بالجرب و"الجهار" –أخطر مرضين تصيب الإبل –غرضهم تخويف أصحاب الإبل النصيحة ليفروا (فرار الصحيح من الأجرب ) ! ويستأثروا هم بالمرعى الجيد. حتى عتاة اللصوص في دارفور يتجاوزون القطعان التابعة لقبائل الفولاني/الفلاتة وإن وجدوها هملا بلا راعي ، لأنها في عرفهم واعتقادهم (مسحورة) ولا يمكن سرقتها .. حتى (الفلاتي) نفسه يتحداهم قائلا : " والله كم راجل أسرق ..في نهاية كما جيت في درأ بتاعي أضحك علي )!. وهكذا . عندما كنت صبيا في العاشرة من عمري،رافقت والدي (عليه رحمة الله) إلى منطقة الفور ل( جلب العيش) ، فحططنا رحالنا في سوق( ملة) في سفح الشمالي من ( جبل سي ) الذي هو بمثابة الامتداد الشمالي لجبل مرة. فوقفت مبهوتا أمام ما أرى إذ الناس عاليهم ثياب ناصعة البياض .. يتاجرون في عيوش وحبوب وبقول وتيوس وخراف وثيران ، وأدخنة الشواء الساخن في كل اتجاه وثلل الرجال الذين يناولونها بالشطة ( دنقباء ) منتشرة تحت أشجار العرديب والقرض الظليلة و"البخو " – الجعة المحلية - متوفر لمن ( في إيدهم )! متواريين خلف أمكنة معلومة وساترة ، والنسوة قد ارتدين ثيابهن الفاقعة الألوان من( آخر الشنطة )يتبادلن العسل واللبن والسمن والكول والمرس .. الخ ، أما البطيخ والفقوس والشمام وال" عنكوليب" لا تسألها عنها ، فهي مبذولة للجميع بلا ثمن ( تأكل بلاش) !, حتى الحمير أكثرها إما من النوع الدراوي أو الريفاوي .. وثمة ماكينة خياطة تحت كل( راكوبة) تقريبا .. كلنا عيشنا وبتنا ليلتنا .. وعندما أسفر الصبح انفجرت القرية كلها ب(هنا لندن ) و(هنا أمدرمان )! .. أي أن معظم رجال القرية يملكون أجهزة الراديو ، كل هذه الأشياء كانت نادرة في المنطقة التي أتيت منها ولا يقنيها إلا علية القوم ، وهذا أن دل على شيء فإنما يدل على حالة الرخاء و (التمدن ) التي كان يعيشها الفور ، وإن كان قد لفت نظري ظاهرة جد مهمة وهي أن معظم القرى الكبيرة التي مررنا بها لا توجد فيها (مدرسة ) وإنما ( مسيد) ، وهذا ما يسفر لي ملاحظة أخرى لاحظتها فيما بعد ألا وهي القلة النسبية لأبناء الفور في المدرسة الثانوية التي درست فيها مقارنة بأبناء الإثنيات الأخرى مثل البرتي والزغاوة والميدوب والقبائل العربية . الحراك الاقتصادي تعتبر منطقة الفور الممون الرئيسي لجميع مدن دارفور بقائمة طويلة من الحاصلات الزراعية ،تمتد من الفاكهة إلى البقول والحبوب والخضروات .. الخ، كما تعتبر (المنقذ) لمواشي العرب والزغاوة في سنوات القحط والجفاف إذ يتدفقون من اتجاهين معاكسين للرعي على المخلفات الزراعية ..وقد ظل الفور في وضع اقتصادي جيد طوال تاريخهم ، لأن في المجتمعات التي تعيش تحت ظل (اقتصاد الكفاف ) إذا تمكن الفرد من توفير قوت عياله لمدة عام يعد ذلك (منتهى الرفاهية ).. حتى حلت سنوات الشدة بتكالب العشائر العربية على أراضيهم والاستيلاء على مزارعهم وبساتينهم عنوة واقتدارا وليس توافقا وتكاملا بين الرعي والزراعة كما يحث في السابق. وعلى إثر ذلك تدفق شباب الفور إلى المدن وحلوا محل الزغاوة في الأسواق الشعبية في جميع مدن دارفور ، وكانت ظاهرة واضحة جدا ولا يجتاح المرء لحس مراقبة الظواهر لتعينها . . كما تفرق عدد آخر منهم إلى جميع المدن السودانية الرئيسية و تخصصوا في بعض المجالات الاقتصادية مثل محلات البيع بالتجزئة في الأحياء ال( كناتين ) أو ( دكان الفور)!.. وزرائب الحطب والفحم وكمائن الطوب ومحلات غسيل وكي الملابس بالإضافة إلى حصتهم في الأسواق الشعبية . ومع اندلاع الحرب الجديدة في دارفور دمر الفور دمار ا لا يضاهيه إلا دمار الزغاوة . وانكفأت جموعهم إلى (كولما) و (أبوشوك) ومعسكرات تشاد أو العبور إلى القضارف والالتحاق بمستوطنات الكمبو في المشاريع المروية . الحراك السياسي قد حاولت جل الحكومات المركزية ، المدنية منها والعسكرية، أن تجد لها (ظلا ) ما لاحتواء الفور لإدراكها بأهمية هذا الشعب من جهة نظر التاريخية على الأقل ، وكان سلوك الأوضح للحكومات المركزية- خاصة العسكرية منها - لاستيعاب الفور هو تقريب أحفاد علي دينار مثل (حسين أيوب علي دينار) ( إبراهيم يوسف علي دينار) غيرهما وتعيينهم في منصب ( سلطان عموم الفور) وهو مجرد كيان فوقي فارغ لا دور له في توطيد العلاقات بين السلطة و(عموم الفور). فكلما توجست الحكومة من جهة ما – وغالبا ما تكون هذه الجهة الزغاوة أو الحركة الإسلامية – تحاول ضربها بالفور !. فتشير إحدى الدراسات الحديثة أن الذين أشعلوا انتفاضة يناير عام 1981 في دارفور كانوا عبارة تحالف ثلاثي بين ( الزغاوة والقبائل العربية والأخوان المسلمين) بينما وقف معظم قيادات الفور ضدها ، وفي هذا السياق كنت شاهد أعيان للانتخابات التي جرت عقب هذه الانتفاضة ففي الفاشر مثلا احتدمت المنافسة بين السياسي المعروف (الشفيع أحمد محمد) ،وهو منسوب للعشائر العربية ،وأحد أحفاد علي دينار وهو (عبد الرحمن زكريا علي دينار ) فكانت السلطة تدعم الأخير بينما أحياء الزغاوة (حي الثورة حي الوحدة الربع الخامس .. الخ ) صوتت بالجملة للمرشح الأول . واعتقد أن استبدال (مني ) ب(سيسي ) في منصب (رئيس السلطة الانتقالية لدارفور ) قد جاء من هذا الباب . باستثناء بعض أفراد (بيت علي دينار) فقد تعامل معظم مثقفي الفور مع الحكومات المركزية بحذر ، وبصيغ متعددة حيث يتجلى ذلك في السلوك السياسي لأربعة من أشهر أبناء هذا الشعب ، الذين امتد سلوكهم من البراجماتية إلى الدراماتيكية فالاعتباطية ! وأعني بهم السياسي المخضرم ورجل الأعمال (أحمد إبراهيم دريج ) والأكاديمي المعروف (التيجاني سيسي محمد ) والكادر الإسلامي المرحوم (داود يحى بولاد ) و(أخونا) عبد الواحد نور! . الأول والثاني قد انتميا لحزب الأمة ، ومن الواضح أن هذا الانتماء كان فوقيا ولم يكن أصيلا ، بمعنى أن الولاء لحزب الأمة لم يكن كاملا ، بدليل أنهما تركاه على مضض ، للعمل مع الحكومات العسكرية التي هي عدوة حزب الأمة على الدوام ، حيث انتقل الأول من زعيم المعارضة يقود نواب حزب الأمة في البرلمان إلى حاكم دارفور مع (مايو) وتحول الثاني من حاكم دارفور معين من قبل حزب الأمة إلى (رئيس السلطة الانتقالية لدارفور ) مع (الإنقاذ ) . أما انتماء المرحوم داود بولاد للحركة الإسلامية فلا أقول (فلتة )ولكن حالة شبه نادرة لأنه ، ولسبب مجهول ،نجد أن معظم مثقفي الفور يميلون نحو اليسار - بعكس أبناء الزغاوة و القبائل العربية، الذين يفضلون الالتحاق بالحركة الإسلامية- . فيعزي زميل دراسته شريف حرير الالتحاق المرحوم داود إلى الحركة الإسلامية " لكون ولاء الفور لعائلة المهدي وأصهاره كانت ومازالت قوية ... فالتحاق داود بحركة الأخوان المسلمين جاء كنتيجة لزواج الترابي من أخت الصادق المهدي " .. فمن الجائز أن تكون عائلة بولاد أنصاريا ولكن من المؤكد أن الفور تاريخياً ليسوا من أنصار المهدوية ، بل ويعتبرون من أقل الجماعات الدارفورية ولاء للمهدوية .. وأزعم أن الصحيح هو ما ذهب إليه هولت في قوله: "إن الفور لم تجتذبهم المهدية كثيراً " ، فانجذابهم في الغالب الأعم إما نحو اليسار أو محاولة إنشاء تشكيلات خاصة بهم كثيرا ما تولد ميتة ، مثل (سوني ) و(جبهة نهضة دارفور) و(تحالف قوى الريف ) و(التحاف الفدرالي ) ..الخ كان داود ( الذي أصبح رئيسا لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم )يتمتع بقدرات تنظيمية عالية جدا ، وحياته مليئة بمشاهد البطولة والإقدام ، حقيقية كانت أو مؤسطرة (من الأسطورة) ، ففي هذا السياق أذكر ما كان يرويه عنه محمد محي الدين الجميعابي( أحد زعماء الاتجاه الإسلامي في جامعة الخرطوم في أيامنا ) وما ينسجه من القصص والأساطير التي تضع بولاد في مصاف الأولياء الله الصالحين!، منها أنه كان شاهد أعيان عندما تمكن بولاد أن يخرج من سجن (دبك ) عبر فتحة طولها 20 سم وعرضها 10سم ولم يره العسس ولا الديدبان حتى توارى خلف السراب !!. بانقلاب موقفه السياسي انقلبت الصورة الذهنية عنه رأسا على عقب ف(داود القديس) تحول إلى (بولاد البليد)! .. سئل (الطيب سيخة ) مرة عن وقائع لقائه مع زميل دراسته و( أخاه في الله )! داود بولاد وهو أسير مقرون بالأصفاد و لا حيلة له ، فقال "نظرت إليه ونظر إلي لبضعة دقائق وغادرته "!. لم يقل بماذا أمر رجاله أن يعاملوه ؟ هل قال لهم اعتنوا به وأعطوه ماء مثلا .. يا لغلظة القلوب التي بين الصدور ، فسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال !. صحيح إن التحول الدراماتيكي للمرحوم داود بولاد كان مفاجئا للجميع ( قد تحول آخرون من أمثال فاروق أحمد آدم وعبد الجبار أبكر (نائب وداي صالح) ولكن بصورة أقل حدة وأكثر نعومة حيث انضموا للحزب الاتحادي الديمقراطي بدل اللحاق بالحركة الشعبية كما فعل بولاد. إن هذا السلوك البراجماتي -ولا أسميه الانتهازي – من (دريج )و(سيسي )، وتلك (الانفعالية ) من المرحوم بولاد لها ما يبررها ، لأن مرجعها ( الوعي بخطورة وتيرة الاستعراب) وأن الهدف الاسمي من أي (النضال السياسي) عندهم هو يجب (تأخير معدل هذه الوتيرة )لأن جميع الأحزاب المركزية مع الاستعراب قلبا وقالبا وأن عقد ( مؤتمرات صلح) ( أحد هذه المؤتمرات كان قائما عشية انقلاب الإنقاذ التي أرسلت إليهم محمد الأمين خليفة فطلب من المؤتمرين المقررات خلال 24 ساعة فقد كان !) إن مزاعم ومساعي الحكومات المركزية بأنها تريد صلحا بين العرب والفور هو نوع من سياسة ذر الرماد في العيون ريثما يستكمل العرب استعرابهم بعد جيل أو جيلين، كل هذه حكومات كانت منحازة للعرب .. كان يجب على شخص ذي قدرات تنظيمية مثل بولاد أن يقرر بعد أن وقف حزبه مع التجمع العربي في السر والعلن ، عليه أن يفعل شيئا إزاء الاستنفار الجزئي للفور أمام هذا التحالف الهائل من العشائر العربية الذي يريد تدمير الفور.. كانت تلك اللحظة الانفعالية هي سبب التحول الدراماتيكي لبولاد من الجبهة الإسلامية إلى الحركة الشعبية. وكأي فعل يبنى على الانفعال قد رأينا نتائجه ، إذ عاد بعد عامين يقود جنودا من أطفال الدينكا وانهزم في أول معركة وأسر وأعدم .. وفي يوم مشئوم من أيام عام 2003 أطل على المشهد شاب غرير باسم (عبد الواحد نور) ، وابتدع الاعتباطية في السلوك السياسي ، حيث حمل منشورات اكتتبها من الراحل جون قرنق وورط الفور في مشروع لا يفقه كنهه ولا يعرف (رأسه من قعره )! .. من حيث أراد أن يكحلها عماها .. كانت (مليشات الفور) في عام 2002 تكافح وتتصدى لمقاتلين العرب ( الجنجويد) على مداخل جبل مرة على الأقل .. وبعد عشر سنوات من ظهور هذا الرجل على مسرح الأحداث أين نحن الآن ؟ ها قد استكمل العرب استعرابهم ..واليوم وعلى طول جبل مرة وعرضه لا تسمع غير رغاء الأيل وحدأة ال(همبو همبو أبو ملاحه روب )!. والآن ما حل ؟ كيف نُخرج (القادمون الجدد) من جبل مرة ؟ قرأت بيانا في أحد المواقع يطلب مصدره المتطوعين من جميع أنحاء العالم لطرد العرب من جبل مرة !. وهو بيان شيبه لما أصدره زعماء شام مثل عز الدين القسام والحاج أمين الحسيني مفتي القدس في عشرينات القرن الماضي عندما هالهم نجاح جهود الحركة الصهيونية في جذب آلاف اليهود إلى فلسطين .. فتطوع بعض الناس حتى من جاوة .. وخاضوا حروبا كلها خسارة.. وقامت إسرائيل وأصبحت أقوى دولة في المنطقة وأضطر أشد الناس عداوة لإسرائيل أن يقر بالأمر الواقع وبدءوا في مفاوضتها والعيش معها بمساحة20%من فلسطين التاريخية . إن (حلف الجنجويد) الذي تشكل في دارفور حلف قوي جدا .. ويزداد قوة يوما بعد يوما .. وسوف يسيطر على دارفور بكاملها حال انهيار الجيش السوداني ، وهذا الانهيار حتمي وقريب .. سوف يستولي على أسلحة الجيش الثقيلة من دبابات و مدفعية وصواريخ ( أو يقوم الجيش المهزوم بتسليمه ) وبذلك تصبح العشائر العربية في دارفور مثل قبائل حاشد وبكيل والضالع واليافع في اليمن ، التي هي أقوى من الدولة ، إن الذين يتحدثون عن إخراج العرب من جبل مرة ، مثلهم مثل الذين يتحدثون عن إلقاء إسرائيل في البحر (!) ، أو نزع سلاح القبائل اليمنية .. الحل -في رأي المتواضع ، يكمن في أبعاد المتطرفين من كلا الطرفين ،من أمثال المجرم (علي قشيب )، والمحامي الغرير عبد الواحد نور.. وأن يعود الفور إلى قراهم ، ويباشروا فلاحة أراضيهم ويعتنوا بساتينهم ، أعنى أولئك الذين يتكدسون الآن في المعسكرات مثل ( كولما ) و(أبوشوك) ومعسكرات تشاد فأما الذين عبروا إلى القضارف أو سكنوا ( مايو و(الحاج يوسف ) فلا أمل في عودتهم .و أن يرعي العرب مواشيهم في الأراضي غير المزروعة وفي الصيف على المخلفات الزراعية ، وبذلك تتكامل الرعي والزراعة ، وبتكامل أنماط العيش تتمدد العلائق الاجتماعية تلقائيا حيث يتزوج الشبان العرب بنات الفور ، وفيتان الفور بنات العرب ، وبعيد جيل أو جيلين نحصل على عنصر جديد يرى في الصراعات الدموية الماضية مجرد ذكريات تاريخية ، قد تضيع لغة الفور ، لا غضاضة ، فقد ضاعت من قبل لغة البرتي والبرقد والداجو والقمر هل بكى عليها أحد ؟ ، إنني جاد والله في هذا الاقتراح ولست هازلا ، لأنني لا أري أي مخرج غير هذا!.. إن عبقرية البشر تتمثل في اختلاطهم ، وشقاؤهم تتبدى في انعزالهم ، و لا ينعزل البشر إلا لثلاثة أسباب وهي :إما أن تكون الطبيعية قد فرضت عليهم عزلة جغرافية مثل سكان الجزر والواحات أ الصحراوية أو لأن النظام الاجتماعي المتوارث قد قضى على عزلهم اجتماعيا مثل ( الغجر )(!) ، والسبب الأخير والأهم هو ( حالة غياب الأمن )State of insecurity )) وهو ما يعاني منها الفور الآن .