تبدو الأحداث الجارية في الساحة المصرية اليوم مستعصية على كل منطق للتحليل السياسي. إذ أنّ المعارضة ممّثّلة في "جبهة الإنقاذ" رافضة ومتمانعة بالكلية على كل حل وسط يمكن أن يقارب بينها وبين التيار الإسلامي الحاكم. والذي هو في الواقع سلطة جزئية تتمثل في مؤسسة الرئاسة، لا يتملّك فيها كامل الأليات والأدوات، سواء على مستوى االفعل السياسي أو على المستوى الدستوري والقانوني؛ مما يجعله مضطرا وباحثا عن كل درجة من درجات مشاركة الآخرين له في تحمّل مسئولية بلورة رؤية وقواعد تأسيس النظام السياسي الجديد في هذه المرحلة المفصلية. ولئن كانت القراءة الأولية تقول بأنّ مشاركة كل القوى السياسية وإسهامها، ومن ثمّ كسب أرضية مستقبلية وسط الجمهور، هو التصرف المنطقي في هذه المرحلة التي تعتبرالأوضاع فيها إنتقالية بالمنظور السياسي الطبيعي؛ ألا أنّه في المقابل يبدو تيار جبهة الإنقاذ حريصا على ألّا يتبلور توجّه أو أن يتأسس نظام سياسي جديد في ظل تقاسم مع هذا التيار الإسلامي، دعك من أن تكون لهذا التيار غلبة أو نصيب أكبر في الحكم أو الحياة السياسية. فتيار جبهة الإنقاذ يبدو وكأنه في سباق مع الزمن حتى لا يتحقّق ذلك التبلور والتأسيس ومن ثمّ وقوفه على رجليه متمثلا في البرلمان القادم. ولما كانت الأحداث، كما سلف الذكر، تبدو متجاوزة لمنطق التحليل السياسي، فربما بحثنا لها تفسيرا بالنظر من زاوية المحور الإجتماعي بمرتكزه ومرجعيته التاريخية.. فالعنصر الأساسي للصراع والتدافع القائم اليوم ربما كان مثاره خشية قوى إجتماعية معينة من أن تفقد ما تعتبره حقا مكتسبا تاريخيا في السيطرة على مناحي الحياة، ظلت تستمتع به خصما على القطاع الأكبر من الشعب، الذي تعتبره تلك الصفوة قانعا بما وصل إليه من نصيب تدّبّر به حياته وتأقلم به من ثمّ على ذلك المستوى من العيش والسلطة التي أتيحت له على مرّ الزمن. فهنالك في مصر اليوم تيار إجتماعي بتمظهر سياسي، يقاوم أي تحول أو تغيير يراه أو يظنه جذريا. وذلك بوعي مدرك وبدافع باطني يكاد أن يكون تلقائيا، نتيجة للتقادم والتراكم التاريخي. وهذا القطاع في المجتمع المصري يتمثل في كيان بمقام جغرافي وإقتصادي، يمكن أن نطلق عليه مجملا منطقة "الدلتا" بعاصمتهعا ومحيطها وببواباتها البحرية، وهي المنطقة التي لا زال بعض سكان مصر يطلقون عليها مسمي" بر مصر"، ويصفون سكانها بشكل عام ب "الأسكندرانية" وعلى صفوتها لقب "الباشوات". ولعلّ الدارسين للتاريخ الإجتماعي لم يهتموا كثيرا لرصد وتسجيل حقيقة أنّ أول إنعتاق للمجتمع المصري من إنفراد فاعليات صفوة "الدلتا" بالسيطرة والتحكّم كان هو ثورة الضباط الأحرار في يوليو1953؛ حيث صار لعامة الشعب، ليس القدرة فحسب، بل الحق إبتداء في التمّلك للأراضي الزراعية ومن ثمّ النشاط الإقتصادي إلى جانب فرصة المنافسة للوظيفة العامة بفضل التعليم الذي صارمتاحا للجميع بمجانيته. ولئن كان الرئيس "أنور السادات" بالنصر النوعي في حرب أكنوير 1973 قد أعاد لمصر ثقتها التي كانت قد إختطفتها هزيمة يونيو 1976 وأثارها المدمرة على مجمل الحياة، إلا أنّه كان متعجلا قطف ثمرة ذلك المجد بأن يحقّق للفرد المصري ما يراه رفاهية كثمرة لذلك النصر. فكانت إتفاقية "كامب ديفيد" ومن ثمّ سياسة الإنفتاح الإقتصادي والتي جاءت في وقت لم تتقوّى وتثبت بعد ركائز وأليات وأدوات التغيير الإقتصادي ومن ثمّ الإجتماعي التي توّلّدت بفعل ثورة يوليو1953. فكان أن وجدت قوى النفوذ التاريخية الفرصة للعودة للتحكّم في الحياة السياسية من بوابة الإقتصاد، وذلك بالخبرة المتراكمة والعلاقات الممتدة مع السوق العالمية. وربما هلّل عامة الشعب لذلك الإنفتاح وسانده وإستفادت منه جزئيا عدد من النخبة المتعلمة مهنيا، بخاصة. ثّمّ جاءت فترة حكم "حسني مبارك" لتكمل حلقة تحكّم قوى النفوذ القديم، مع إستيعاب لأفراد وفئات جديدة؛ وذلك بفعل القدرات الإقتصادية المكتسبة لهؤلاء الأخيرين بإستغلال النفوذ السياسي.. وربما بلغت الثقة والإطمئنان بتلك الفئة المتنفذة تاريخيا، بتحالف مع القادمين الجدد، حدا جعلها تسوّق للرئيس حسني مبارك توريث الحكم. ولعل العامل الذي أتاح المجال لتلك الصفوة التي تنفّذت خلال فترة "حسني مبارك" للبقاء حيّة وفاعلة مشاركة في الحياة السياسية بعد رحيله، ربما يتلخص في حقيقة أنّ الحراك الشعبي الذي أنهى حكم "حسني مبارك" قد جاء ضمن منظومة تحوّلات إقليمية ودولية، لم يكن معها لأىّ من القوى السياسية أو الإجتماعية مجال أن تدّعيّ أنها هي الفاعل الرئيس ومن ثمّ صاحب الحق في رسم معالم المستقبل لمصر.. فقد كانت كل القوى السياسية المنظّمة، بما فيها الجماعات الإسلامية، مشاركة في العملية السياسية منذ فترة "أنور السادات" بدرجات وأقدار متفاوتة ومتمتعة بقدر وافر من النشاط الإقتصادي ومردوده الإجتماعي والتي إقتطفت ثمراته سياسيا عقب رحيل" حسني مبارك". وهنالك ملاحظة جديرة بالإلتفات؛ تتمثل في تركّز الحراك الشعبي في مدن "الدلتا" بشكل أساسي وفاعل وحاسم. فقد كانت مناطق الفلاحين في الصعيد وكذا مناطق النوبة في الجنوب والبدو في سيناء تبدو غير معنية أو متفاعلة بتلك الدرجة والقدر االذي يمكن أن يمنح المراقب قناعة أنّ أهل تلك المناطق يرون مصيرهم مرتبطا بمآلات ذلك الحراك.. فالنوبة كانوا يرون أن حقهم لا زال مهضوما من قبل قوى "الدلتا"، وبدو سيناء يكاد أن يذهب بهم غضبهم إلى حدود التمرد؛ بسبب ما يرونه أو يحسونه من عدم ثقة وإهمال حيالهم منذ عودة سيناء من إسرائيل.أما قطاع الفلاحين فربما كان لا يزال ممتنا لرموز ثورة يوليو التي أخرجتهم من ربقة الإقطاع. ولكن على الرغم مما سيق من تحليل عن الموقف اللامبالي نسبيا لذلك القطاع من أهل الصعيد والجنوب وسيناء، إلا أنّ الوعي الذي يتجلّى واقعا عند تجسيد وتحديد الموقف العملي لأهل هذه المناطق الثلاث حيال "الدلتا" عادة ما يكون سالبا تجاه فئة الصفوة التي ظلت مسيطرة ومتحكّمة إنطلاقا من ذلك "المركز" منذ عشرات العقود. وربما نجد بعض مصداق لهذا التحليل بالنظر في إحصاءات نتائج الإنتخابات والإستفتاءات الني جرت مؤخرا في مصر؛ فقد جاءت في تلك المناطق منحازة إلى حركة "الأخوان المسلمين"، التي ربما يراها سكان تلك المناطق متجاوّزة للإطار الجغرافي وذلك من خلال طرحها الفكري وإنجازها الإجتماعي. تبقى هنالك فئة قطاع الشباب أفرادا وجماعات فكرية ومنظمات إجتماعية وسياسية، والذي كان له دور فاعل في إحتفاظ الحراك الشعبي في يناير 2011 بقوة الدفع حتى إجبار حسني مبارك على الرحيل. فربما يكون الكثير من هذا القطاع مدركا لطبيعة المعركة الدائرة بين التيار الإسلامي وجبهة الإنقاذ. فهو يبدو متحفّظا ومحتفظا بمسافة، مراقبا ومترقّبا مألات تلك المعركة. لقد كان ما سبق بعض إجتهاد لتلمس مؤشرات ربما أعانت على إدراك بعض خلفيات ومآلات ما يجري في مصر. فالمعركة القائمة بين التيارين القائدين الرئيسين الحاكم و المعارض، قد دخلت مرحلة "تكسير العظام" وتبدو وكأنّها قد صارت بالنسبة للطرف الثاني "جبهة الإنقاذ" مصير حياة ، "يا غرق يا جيت حازمة".. ولا يمكن التعويل على القوة النسبية لأي من الطرفين في حسم المعركة؛ فالألية والأدوت المستخدمة غير متفق عليها؛ إذ أنّ أحد الطرفين بإستماتته للبقاء يعمل على ألّا تهدأ الأوضاع لإستكمال العملية السياسية بالإنتخابات البرلمانية، والتى يخشى منها هذا الطرف أن تخرجه من الساحة ربما بشكل يصعّب عليه الإحتفاظ بمكتسباته التاريخية إقتصاديا وإجتماعيا. ف"جبهة الإنقاذ" تدرك أكثر من غيرها أنّ أغلبية القوة المتحركة في الشارع ليست بالضرورة جماهيره؛ ولكن هذه الجبهة بحكم خبرتها قادرة على الإستعانة مباشرة بعناصر بشرية وفئات إجتماعية، تولّدت بالظروف الحياتية واكتسبت خصائص وقدرات تكاد مصر أن تتشخصن بها. وإلى جانب تحريك تلك الفئات الإجتماعية تعمل "جبهة الإنقاذ" على منح حركة الشارع زخما ودلالة سياسية من خلال تحريك قضايا أوالإستفادة منها، مثل الخلاف بين مشجعي النادي الأهلي ونادي بورسعيد، والتي تجعل من ذوي الصلة بتلك القضايا وقودا فاعلا نوعيا وعدديا لما يمكن أن يعتبر حراكا جماهيريا، على المستوى الإعلامي على الأقل، معقّدة بذلك الأمور والإشكال والمعالجة على التيار الحاكم. ولعل من المفارقات التي تميّز المشهد السياسي في مصر أن الطرف الحاكم متمثلا في التيار الإسلامي يبدو عاجزا إن لم يكن مشلولا عن الإستفادة من قوته الجماهيرية، خشية أن يؤديّ ذلك إلى فوضى شاملة. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أنّ ذلك سيحول دون أن يتطّوّر ما يجري في الشارع إلى تلك الفوضى؛ وذلك بفعل ما يصبّه فيه الطرف الآخر من وقود. ** لقد غادر نابليون مصر في العام 1799 خلسة دون سابق إنذار تاركا إياها في فوضى شاملة دون مؤسسات للدولة. فتقسّم النفوذ فيها إلى حين مجموعات من أمراء الحرب، بل بعضها عصابات "بلطجية". واستمرت تلك الحال حتى تمكّن واحد من أمراء الحرب أولئك، الذين كانت الدولة العثمانية قد جلبتهم لمقاومة نابليون، من الغلبة والتسيّد على البقية في العام 1805. وكان ذلك هو العسكري الألباني "محمد علي باشا"، الذي إقتضت بسط سيطرته ضرورة قهر بقايا "المماليك" الذين لجأ بعضهم جنوبا، وكان ذلك إحدى دواعي غزو "محمد علي" للسودان، في وقت كانت دولة الفونج في سنار قد فقدت سيطرتها على أطرافها، لدرجة جعلت بعض مكوك تلك المناطق يستنجدون بحاكم مصر .