ليس البشير في حاجة إلى شفاعة أمثالي لكي يعفو عن بنيه الذين تقدموا بالتماس إلى سعادته بغية نيل عفوه، وذلك بعد أن أقروا ضمنيا أو علنيا بما كان منهم من تعدٍّ ومخالفة خطرة لولي الأمر. وهي مخالفة بيِّنة للشرع الحنيف ولا يمكن تبريرها ولا الحديث عن مشروعيتها من أي وجه. فقد قال الله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ". النساء:59. وجاء في الصحيحين قوله، صلى الله عليه وسلم:" السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ". وفيهما عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قال: قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ قال: نعم، قوم من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، قلت: يا رسول الله، فما ترى إذا أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ". وهكذا فما دام هناك إمام شرعي فلا يجوز الخروج عليه بالقوة. ولخطورة هذه الفتن المستحدثة عدَّ صاحب (العقيدة الطحاوية) الإمام أبو جعفر الخروج على الحاكم من مهددات الإيمان، وقال:" ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة ". ومن الملاحظات الواضحة على تصرفات بعض الإسلاميين السودانيين أنهم أصبحوا يتخطون قواعد الشرع الحكيم ونصوصه المحكمة، معتمدين على العقل المحض والحس العام أو ما يدعى بلغة العجم (Common Sense) وترى البعض ممن ينحون هذا المنحى اللا شرعي يفاجؤون عندما يواجهون بالدليل الشرعي، فيلجأؤون إلى الالتفاف عليه بالمماحكات العقلية، وفرضيات فقه التمكين، التي ربما استبطنت أن إسلاميي السودان الحاكمين قد صاروا كبني إسرائيل ليس عليهم للأميين سبيل! ويتفرع من ذلك حديث عن شرعية القوة الذي اعتمدت عليه فرق الخوارج قديما وفرق المتطرفين الإسلاميين ليوم الناس هذا، فأحدثوا التدمير وبثوا الفوضى في أرجاء الأوطان. والأواخر، ممن نعنيهم في هذا المقال، وهم المتشددون من إسلاميي هذا الزمان، ممن تآمروا على ولي الأمر، ربما انطلى عليهم شيئ من هذا الزيف. وربما أفتاهم متطرف مثلهم بما أرضى نزعاتهم وأغراهم بحنث العهد واتخاذ سبيل الغي سبيلا. وبعض المفتين من الإسلاميين المحدثين، ممن لا قدم راسخة لهم في علوم الشرع، يعتمدون على منطق الثورة الليبرالي العلماني، ولا يجدون في أنفسهم حرجا من تطبيقه في سياق (إسلامي) مبتدع! وأكاد أتصور فتيا المفتين بهذا الحال وهي تنطق بأن الفساد والانحراف المنتشر يتطلب تدخلا ثوريا عسكريا لحسمه. وبمنطق كهذا استحل المتطرفون المحدثون، كما استحل الخوارج الأقدمون، حراما بيِّنا، وهو الخروج على الحاكم الشرعي. صحيح إن هنالك الكثير من الفساد المعلن والمستبطن في حكم دولة الإنقاذ الوطني. وصحيح إن هنالك محسوبية كثيفة وبيلة وخيمة تعتمد باسم فقه التمكين المزعوم. وصحيح أن حلقة الحاكمية العليا تضيق وتضيق باسم هذا الفقه المشوؤم. ولكن ألم تكن هذه نتائج حديثة لظواهر قديمة ظلت شاخصة بارزة منذ اليوم الأول، ولكن كان الكل يغضون الطرف عنها ويدافعون عمن اجترجها؟! بلى! ولذلك فلا أجد عذرا لمن يزعم اليوم أنه ما كان يرى قديما ما يراه اليوم من ضروب الفساد الضارب رأي العين. ولا أجد عذرا لمن يزعم أنه حين رأى ما رأى - متأخرا- فار وثار، وعقد العزم على تصحيح الأوضاع بالقوة، وصمم على التآمر بليل مع شيعته على انتزاع الحكم من يد ولي الأمر. ولا شك أنه مشهد عجيب أن يبقى امرؤ مراقبا للباطل وهو ينمو و يستشري عقدا أو عقدين من الدهر، ولا يشجبه لا سرا ولا علنا، بل يدافع عنه ما استطاع، ثم ينهض فجأة لتقويمه بحد السيف! لقد كان مقبولا في لغة المنطق أن يتجه أمثال هؤلاء الذين كانوا (ممكَّنين) في مفاصل الدولة، وذوي كلمة مسموعة في أرجائها، إلى شجب الفساد والإطاحة به متى رأوه - وقد رأوه طارفا وتليدا- ولكنهم صمتوا صمت القبور، كما صمت فريق أوسع من إخوانهم من الإسلاميين، من يسمون بفريق الإصلاح أو الاصلاحيين، أو اسم قريب من هذا من هذه التسميات التي سئمناها من انقاذ وطني، وإصلاح للإنقاذ الوطني، ومؤتمر وطني للإنقاذ الوطني، ومؤتمر عام للمؤتمر الوطني، ومؤتمر شعبي غير شعبي، ومؤتمر عام للمؤتمر الشعبي غير الشعبي! ولا يساورني شك في أن من أرادوا أو يريدون سلوك سبيل التغيير الاصلاحي أو الانقلابي سيعودون إلى سيرة من سبقوهم في طريق الفساد الذي يحتجون عليه، فالجميع انبثقوا من طينة واحدة، وسيبقى معدنهم واحدا، وسيظل توجههم متشابها. ثم لنعد إلى ما استفتحنا به من قول، وهو أن العفو من عند البشير مأمول لهؤلاء الذين خرجوا عليه أخيرا، فهم من أهل الفضل والسبق في الذود عن الحياض. ولا ريب أنه قد كان للبدريين مقام خاص، كما كان للأُحديين مقام خاص. وكان الكثير من الأُحديين يتطلعون إلى أن يكونوا من أهل بدر، ولكن فاتهم ذلك الشرف العزيز بسبب من تسارع الأحداث، فعملوا على التعويض بحماسة فائقة (أكثر من اللازم!) حيث أجبروا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على الخروج إلى جبل أحد، بدلا عن البقاء بالمدينة والقتال من شوارعها، كما رأى صلى الله عليه وسلم، وكان رأيه الأصوب من حيث التكتيك العسكري. وأسهم هؤلاء (ضمن عوامل أخرى) بنكبة للمسلمين بسبب من فرط تحمسهم و(رجالتهم) رضي الله تعالى عنهم. ولكن مع ذلك نزل القرآن الكريم يأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالعفو عنهم والاستغفار لهم:" فاعْفُ عنهم واسْتغفرْ لهم" آل عمران :159. ومن وحي هذا المثل الخالد نرجو البشير أن يعفو عمن من تحدثنا عنهم من أفاضل ليسوا في فضل السابقين.