لم يكن هذا هو وقت الكتابة ، بصراحة ، لقد التزمت بجدولتي القسرية المجحفة لرهبانية جديدة تماماً ، إنها رهبانية لم تستحي من أمها القانطة . وربما – وبعناد متذبذب – رفض لكاليسيكيات الحلم الرومانتيكي وانخراط مادي في مناهضة المثالية التي كبحت فعل الكتابة لسنوات . فموضوعات مثل الحب ، العدل ، الديمقراطية ، الحرية ، ...الخ. فقدت ذلك البريق التاريخي لها منذ كلاسيكيات الرومان الميتافيزيقية ، ورومانتيكية مسيحية النهضة ، وحتى رمزية الشرق. فماذا يمكن أن تكتب ؟ سؤال يظل يلح دائماً على أجندتي الشبقة لأن تمتلئ بالنقوش التي يسمونها –بإصرار – اللغة . هل الحب ، ما يمكن أن نعيد إنتاجه على مستوى هذا العالم المغترب بفردية براغماتية داخل تشوهاته الروحية؟ هل الحرية عادت تثير بمفاتنها شهوة البؤساء في ظل تماهي المصطلح مع المؤسسية الجبرية والمتطلبة حتى من خلال أولئك المطالبين بالتحرر منها. هل العدل ما يمكن أن يخضع لعملية تدوير بماكيناتنا الحديثة ؛ هذه الأخيرة التي ترفض إنتاج المطلق وتصر على النسبي؟ . ولكن ما المانع أن أعود إلى الماضي ، ذلك الذي أضحى سخيفاً وساذجاً بل وسطحياً ، في ظل وضع إنساني معقد تماماً ، لُفظت فيه المعاني الأولية للإنسان داخل الوضعية المنطقية التي لا منطق لها هي نفسها. لماذا لا أعود إلى إنسانيتي التي لا يمكن أن تتجرد عن مادتها وروحها بل وبيئتها وكونيتها . لماذا أخضع نفسي للخيار بأن أكون شوبنهاورياً عدمياً ، أو حدسياً تلقائياً مع ركام من التفاعلات والإنفعالات الشعبية التي تتسم بالبراءة واللا وعي . ولماذا إذا أقف في المنتصف في الأعراف ، تلك المنطقة التي تفصل بين وهمين . سرت على شارع الستين ، شارع يتعرَّض بستين مترٍ ، تفصله مصابيح برتقالية كئيبة ، وسيارات فخمة تتفجر طاقتها بسرعة لتردي المشاعر اللاوجودية عند من يقودونها وتحيي أملهم في المجد الظاهري . فلا شيء يملكونه أكثر من ذلك . نعم ، لقد سقطت تلك الإنفعالات الثورية التي كان الناس – في السبعينيات- يحاولون عبرها الخروج من مصيدة الفردية . لقد ابتسمت بسخرية ، "أنت الذي دافعت عن الليبرالية تقول ذلك ؟" . لا زلت متذبذباً بين الوضعيين وبين المتصوفين إذاً!؟ . هنا جاءني رد عاجل ، إنه من أعماق الحالة التبريرية التي تجتاح المجرمين والدكتاتوريين والإرهابيين ، بل وحتى المنهزمين ، هؤلاء المنهزمون الذين أمثلهم الآن ؛ "أنت بلا خيارات" . نعم هكذا ومض التبرير ، بشكله البدائي والبسيط وغير العدائي ، لم أكن أحمل في قلبي حنقاً ولا ترسم مخيلتي صوراً لأعداء . لقد كان التبرير مجرداً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من العري والذاتية والخصوصية المطلقة في نفس الوقت . "أنتَ بلا خيارات" . هكذا إذاً ؟؛ نعم هكذا إذا . رغم الهواء الساخن الذي ينبعث من مؤخرات السيارات ؛ إلا انني شعرت بخيط بارد يمر بوجهي ، أخذت أسير في شارع الستين ، وتلك الجملة تزيدني إنتعاشاً ، "أنت بلا خيارات .... أنت بلا خيارات ... أنت بلا خيارات .. أنت بلا خي..." كنت أنتشي بها ، وكنت أزيد تحرراً ، نعم إنني حر ... حر .. وأمتد أمامي الشارع متحرراً هو بدوره من الخيارات.. كان جميلاً .. واسعاً كحدقتي حسناء. 16 أغسطس 2013م