بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المعوقات التقنية لحد السَّرقة


د.أمل فايز الكردفاني
[email protected]
هاتف : 0909010501
أولاً: مقدمة :
السرقة من الجرائم التي أثارت –منذ فجر التاريخ- جدلاً واسعاً حول مضمونها ؛ فالإنسان العادي يعتقد بأن كل اعتداء على حق مالي هو سرقة ؛ فيقول الشخص واصفاً من قام بنشله بأنه سارق ، وكذا الأمر لمن يعتاد استعارة الأشياء دون ردها ..الخ لذلك فإن مفهوم السرقة كان واسعاً في المجتمعات القديمة كالبابلية والرومانية والفرعونية ، فهي عموماً كل اعتداء على حق مالي للإنسان فتشمل الاعتداء على الملكية والحيازة بل والمنفعة ، كما تشمل الاحتيال وخيانة الأمانة ..الخ. ولذا أشار القانون الروماني إلى أن مُدرك تحريم السرقة هو القانون الطبيعي ؛ ثم تطور مفهوم السرقة سواء لدى فقهاء الشرائع السماوية أو القانون الوضعي ، ليتخذ هذا السلوك وصفاً محدداً وتخرج من دائرته سلوكيات أخرى . ورغم ذلك فإن النظام الأنجلو أميريكي يشهد في فلسفته لجريمة السرقة عودة إلى مفهوم أكثر اتساعاً من غيره . وهذا الاتساع والضيق في تعريف السرقة يجد له أنصاراً في فلسفة اللغة ما بين المدرستين ؛ المدرسة التجريبية المنطقية logical empiricism theory ومدرسة اللغة العادية ordinary language theory وهذه المدرسة الأخيرة هي التي أثَّرت على القانون البريطاني في تحديد مفهوم السرقة .
وعليه فإن السرقة إذا نظرنا لها كسلوك ذي مضمون يحدده المجتمع فإنها تتسع . وإن أخذنا بمفهوم "تقني" (قانوني) فإن مفهومها يعتمد على محددات أخرى تحكم السياسة التشريعية ، كما لو كان المشرع يرغب في زيادة الجرعة العقابية على العدوان على منقولات معينة دون أخرى ، أو للتمييز بين الاعتداء على الحقوق المالية على أساس السلوك كالتمييز بين الاحتيال وخيانة الأمانة والإتلاف ...الخ ، دون أن يكون هذا التوسع بناءً على المفهوم الجماعي خطأ ، ولا التضييق بناءً على السياسة التشريعية خطأ ، فلكل منهما ظروفه المختلفة .
ثانياً: نظرة مقتضبة على شروط السرقة الحدية :
قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرقة ثم انتقل عليه الصلاة والسلام إلى جوار ربه ، دون أن يرد عنه أثر يعرف السرقة ويفصلها تفصيلاً ، وإنما وردت آثار قليلة عن الثمر والكثر والمحترسة .. ، فاختلف الفقهاء اختلافاً كبيراً انطلاقاً من الكليات وانتهاءً بالجزئيات المتولدة عنها .
1- فبالنسبة للأخذ خفية ، استمد بعض الفقهاء هذا الشرط من عرف العرب وفصل الأحناف الأخذ بأنه إما مباشرة أو بالتسبب . فالفقهاء على اختلافهم لم يتعرضوا للأخذ كنشاط مادي يسلكه الجاني ، بقدر ما تعرضوا له من ناحية الإخراج ، وإن كان يستشف من أقوالهم أن الأخذ هو التناول كالمعنى اللغوي .
واختلف الفقهاء في الخفية ؛ أهي ابتداء وانتهاءً أم أنها ابتداءً فقط ؟ إلا أن ذلك لم يصمد أمام بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطع البعض يد المستعير الجاحد رغم عدم توفر الخفية .
واختلف الفقهاء حول هتك الحرز أيشترط فيه الدخول أم لا ، كما اختلفوا حول الإخراج والخروج وتمام الجريمة . واختلفوا في مسائل فرعية في الإخراج كثيرة لهم فيها مطولات يقصر السانح عن تفصيلها .
2- الحرز: اختلف الفقهاء في شرطية أن تكون السرقة من حرز ؛ وكان لكلا الفريقين أدلة استدلا بها ، واختلف الآخذون بالحرز في وصفه ، ولم يستدلوا بآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان أغلب استدلالهم بالعرف ، فبعضهم سوى بين الأحراز جميعها وبعضهم ميز بينها ، واختلفوا في فروع كالسرقة من قطار الإبل والخيمة والكعبة والمسجد وغير ذلك ،واختلفوا حول اختلال الحرز بالإذن ؛ وميز المالكية بين الإذن العام والخاص ، واختلفوا في فروع ذلك كالزوجية ومدى تأثيرها على الحرز ..الخ.
3- اختلف الفقهاء أيضاً حول محل السرقة ابتداءً من الكليات وانتهاءً بالجزئيات كتعريف المال وما يتسارع إليه الفساد وسرقة الإنسان والمنفعة والمديونية ، مروراً بإشكاليات النصاب ابتدءاً من مشروعيته هو نفسه ومقداره عند تعدد المساهمين والتقدير بالوزن أو بالقيمة وصولاًَ إلى الملكية والاختلاف حول أخذ الدائن المال المدين وأثر التملك اللاحق على الرفع إلى السلطان ، والمال المتنازع عليه ، والمال الشائع ، والمال العام ، والسرقة من الأقارب ... الخ.
ثالثاً: المعوقات التنقية :
تعددت المذاهب في تحديد طبيعة السرقة وذلك بين ثلاثة مذاهب ، المذهب التأصيلي الذي تبناه النظام اللاتيني ، ومذهب الفعالية الذي تبناه النظام الأنجلو أميركي ، وأخيراً المذهب التفسيري الذي تبناه الفقه الإسلامي ؛ وفي الوقت الذي حاول فيه الفقه البريطاني تجاوز المعوقات التقنية أو النظرية technical obstacles أدى المذهب التفسيري في الفقه الإسلامي إلى تزايد المعوقات التقنية التي تؤثر على حدِّ السرقة بشكل عام ، ومن ضمن تلك المعوقات :
أولاً : تأثير تأويل الاستثناء :
لعبت السنة المعصومة ؛ كمصدر ثانٍ للتشريع ؛ دورا في تحديد نطاق السرقة بصفة عامة والمحل بصفة خاصة لا سيما شرط الحرز ؛ فأوردت بعض استثناءات على المحل . مثل عدم القطع فيما لم يؤوه المراح أو الجرين . لكن هذه الاستثناءات أحالت الفقه الإسلامي إلى فكرتين لتفسير النص ؛ أولاهما هي فكرة التفسير العلَّي ( أي المبني على علة النص ) . والأخرى هي فكرة التفسير الصُّوَرى .
فإذا وضعنا استثناء الثمر المعلق من القطع قبل أن يؤويه الجرين على مجهر التحليل لوجدنا احتمالين :
الاحتمال الأول : أن يكون الاستثناء مرتبطاً بعلة ما . ويمكن عند معرفة هذه العلة أن نبسطها على كافة ما لم يرد فيه نص متى توفرت فيه .
وبالرغم من أن هذا التفسير ( العلِّي ) يطرح نفسه بقوة ، لكنه أدى إلى اختلاف الفقه حول العلة المستنبطة من الاستثناء ؛ فلقد رأينا كيف أوَّل المالكية والشافعية حديث الجرين بعلة كون الثمر ليس محرزاً ، في حين كانت العلة لدى الأحناف هي تسارع الفساد مما لم يجف من ثمر وأصبغوها على سائر الأطعمة .
ولكن حين لا يمكن التحقق من العلة (كوصف ظاهر منضبط ) ؛ لا يمكن التحقق أيضا عند محاولة بسطها على صور لم يرد بشأنها نص .. ومن ثم ، لا يمكن أن نعتبر هذه العلة محدداً لمتطلبات السرقة بصفة عامة ، ولا لحدود المحل بصفة خاصة . وهذا ما يحيلنا مباشرة إلى الاحتمال الثاني :
الاحتمال الثاني : ألا يكون الاستثناء مرتبطا بعلة بل بصورته هو ذاته ، فلا يقطع من سرق ثمراً لم يؤوه الجرين بغض النظر عن العلة من هذا الاستثناء .
وهذا الاحتمال لا يفيد في تحديد نطاق السرقة . لأن الاستثناء الصُّوَري ، يقتصر على إقصائه هو فقط . ومن ثم قد يتسع نطاق محل السرقة فيشمل ما عدا هذا الاستثناء .
وهذا الاحتمال الثاني ؛ هو ما وجدناه بصيغة ما أسماه الفقه الإسلامي بالسارق الشرعي تمييزاً عن السارق اللغوي فيما يتعلق بجحد العارية عندما قضت السنة بقطع المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده ؛ فيقطع جاحد العارية وفق الرأي المرجوح لأنه سارق شرعاً لا لغة . أي بالرغم من عدم توافر شرط (الحرز) ؛ أخذاً بفكرة الإستثناء الصُّوَري .
وبناءاً على ما سبق ؛ فإن مفهوم السرقة الحدية قد يتسع وقد يضيق تأثراً بالاحتمالين السابقين.
274- ثانياً : تأثير تعريف السرقة :
توصلنا عند الدراسة التاريخية لتعريف السرقة ؛ إلى أن تحديد مضمون السرقة ، تبنيه الثقافات المختلفة حسب التجارب البشرية . فكانت السرقة تشمل كل اعتداء على حق مالي . ثم أخذ النطاق يضيق ويتسع بتدخلات تشريعية . فنجد أن نطاق السرقة ضاق عندما ابتعد النظام اللاتيني عن المفهوم الجماعي للسرقة . واتسع القانون البريطاني عندما حاول الاقتراب من هذا المفهوم متحللا من العوائق التقنية . وبالتالي فإن مدلول السرقة يتأثر بهذا العامل ضيقا واتساعاً . ولا يمكن أيضا إغفال تأثر مفهوم السرقة الحدية بمثل هذا العامل ، ولكن من وجهة أخرى .
فنجد أن تعريف الفقهاء للسرقة استمد أساساً من اللغة . فتفسير كلمة السارق والسارقة في القرآن الكريم استمدت من المفهوم اللغوي السائد الذي كونته الثقافة العربية في زمان ومكان محددين . ويلاحظ أن هذا الأمر قد أدى إلى ثلاث نتائج حتمية :
النتيجة الأولى : أن تفسير القرآن ارتبط بمفاهيم أو ثقافة المجتمع العربي في زمان ومكان معينين دون إمكانية الخروج عن هذا النطاق .
النتيجة الثانية : وهي أن نطاق محل السرقة سيظل مرتبطا بثقافة سادت في زمان ومكان محددين .
النتيجة الثالثة : أن هذا الاحتباس لحدود النص داخل النطاق السابق أدى إلى عدم القدرة على معالجة الفروض الحادثة نتيجة تغير المكان والزمان وتطور المنتج الثقافي البشري.
ولهذا ليس من السهل معرفة حدود المحل عندما نتعرض لأنواع حديثة من الأشياء ؛ كالكهرباء والحقوق الذهنية ، والنقود الاليكترونية ، والجينات البشرية .
275- ثالثاً: تأثير اختلاف الفقه:
لا شك أن اختلاف الفقه الوضعي حول مسألة ما ؛ لا يثير ذات الإشكاليات الناتجة عن اختلاف الفقه الإسلامي ، فالاختلاف في الأول ؛ لا يتعلق - من ناحية أولي – بنصوص إلهية مقدسة ؛ كما أن النصوص التشريعية قابلة للتعديل بل والإلغاء بموجب تدخلات تشريعية وفقا للإجراءات الدستورية من ناحية ثانية . إضافة إلى أن النصوص القرآنية هي مصدر التشريع ، في حين أن مصدر التشريع في القانون الوضعي هو الفلسفة التي يتخيرها المشرع ابتداءً قبل أن ينطلق في وظيفته التشريعية باعتباره معبراً عن رأي الشعب .
إضافة إلى ذلك ؛ فإن الجدل حول نص وضعي ، لا يثير حساسية ، كما هو الحال عند محاولة تفسير النصوص القرآنية .
هذه مقدمة هامة وضرورية لحل قضايا متلدة وطارفة انبثقت عن دراسة مفهوم السرقة الحدية.
فلقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرقة ؛ ثم انتقل عليه الصلاة والسلام إلى جوار ربه دون أن يرد عنه أثر يعرف السرقة ويفصلها تفصيلا فاختلف الفقهاء اختلافا كبيراً كما أسلفنا ، وقد أدى هذا الاختلاف إلى عدم وضوح حدود عنصر الفرض في القاعدة الشرعية (فرض الحكم التكليفي ) ، ليتسع الغموض بعدم وجود رأي يحمل الحقيقة المطلقة ، إضافة إلى أن إعمال الدرء للشبهة يؤدي – بلا شك ، وفي ظل كل هذه الاختلافات- إلى جمود الحكم . كما لا يستطيع ولي الأمر – وهو بصدد اختيار تعريف ما أو رأي ما – أن يجزم بأن أيا من هذه التعريفات أو الآراء المختارة ، متوافقة مع المراد من النص القرآني المجرِّم للسرقة . خاصة أن عقوبة السرقة وهي القطع ، جاءت " نكالا من الله " ؛ أي أن العقوبة مقدرة بتحديد إلهي ؛ مما يستوجب أن يقابل هذا التقدير الإلهي تفسير منضبط يقابل هذه العقوبة المقصودة قصدا من الشارع عز وجل ، وإلا فإن أي تطبيق لا يحمل حقيقة مطلقة لعنصر الفرض سيقابله عقوبة غير مستحقة شرعاً ، أو على الأقل لن نكون متأكدين وجازمين بأن القطع جاء مكافئا للجريمة المقرر عليها .
إن حساسية الحديث عن أثر هذه الاختلافات أدى إلى منع الفقه من سبر أغوار هذه المسألة ؛ ويمكن أن نجمل القول بأن معالجة الفقه لها لن تخرج عن كون الاختلاف رحمة .
لكننا نرى ، أن تشعب الاختلاف حول كليات وجزئيات السرقة ؛ أدى بلا شك إلى وجود عقوبة " موقوفة" ، اللهم إلا إذا طبقت بتخير مفاهيم ما واعتبارها – افتراضاً - حاملة لأوجه الجزم والإطلاق في حقيقتها .
إن المثال البسيط الذي يوضح الأمر ، هو تقديم متهم للقضاء بجريمة " س " مثلا ؛ لتوقيع أي عقوبة كالجلد أو الحبس ... الخ ، دون أن يكون القاضي قادرا على معرفة كنه هذه الجريمة المسماة – دون تحديد – " س " ، فإن هذا الفراغ الموضوعي يحول – بلا شك – دون إمكانية توقيع العقاب على هذا المتهم . وهذا ما يحدث عند الحديث عن تطبيق عقوبة القطع " نكالا مقصودا " على جريمة السرقة التي لا نعرف لها مضمونا ثابتا أو واضح المعالم .
فما السبب في إيراد عقوبة على جريمة دون توضيح المضمون توضيحا دقيقا ؟
كان هذا التساؤل هو النتيجة التي طرحها البحث بتلقائية في خواتيمه ، وكانت الإجابة على هذا التساؤل – مبهمة إلى أن وقع في يدنا مؤلف نحسب أنه أجمل في طياته بعضاً من الإجابة وهو مؤلف تشارلس تشوت و مارجوري بل، والمعنون ب" الجريمة والمحاكم والاختبار القضائي" .
حيث تناول المؤلف في جزئيات تاريخية منه تاريخ الجريمة والعقاب في كل من بريطانيا والولايات المتحدة .
لقد أورد المؤلف قسوة العقوبات التي سادت حتى القرن التاسع عشر وقال : " ثم أصبح الشنق علنا بعد ذلك هو العقوبة العادية للجنايات بما فيها سرقة الممتلكات التي يزيد ثمنها على شلن واحد ، وتحوي السجلات أن غلمانا لا يتجاوزون التاسعة من عمرهم كانوا يعدمون تزكية للقانون ، وليكونوا عبرة لغيرهم تردعهم عن الجريمة " .
وأضاف :
" يسجل التاريخ أنه في أثناء تنفيذ الشنق علنا في انجلترا ، حين كان الإعدام عقوبة النشل ، كان النشالون يمارسون مهنتهم في ظل المشنقة نفسها ، وكانت مراكز الشرطة تزدحم بعد كل عملية شنق بالشاكين من نشل أكياس نقودهم وغيرها من الأشياء الثمينة ".
" وفي سنة 1808 أمكن نقض القانون الذي صدر في عهد الملكة " أليذابيث " والذي كان يقضي باعتبار السرقة من شخص ما جريمة تستحق الإعدام " .
ويلاحظ قسوة العقوبة المقررة للسرقة ، التي لم تقتصر فيها عقوبة الإعدام على مدونة حامورابي ، بل استمرت حتى بداية القرن التاسع عشر كما أوردنا سلفا .
إذاً فالمشكلة الأساسية لم تكن في مضمون جريمة السرقة ، بل في الجرعة العقابية المقررة لها . التي وصلت – في ظل غياب حدود لها – إلى درجة من القسوة .
وكان من الممكن أن يقع المسلمون ؛ في ظل غياب نص على العقوبة ؛ في ذات ما وقع فيه الغرب من ارتباك في تحديد الجرعة العقابية حتى تصل العقوبة إلى الإعدام . إلا أن النص القرآني ؛ حال دون حدوث ذلك ؛ وكأنما القطع هو معيار أقصى للعقوبة ؛ بل ولا يمكن الوصول إليه إلا في حالة واحدة هي المعرفة القاطعة بالمتطلبات الموضوعية لقيام الجريمة ومن ضمنها محل السرقة ، وهذا ما لم يتأتَّ إلى الآن . لتظل العقوبة أقل من القطع دائما .
وربما جاءت المعالجة القرآنية لإشكالية الجرعة العقابية ؛ على النحو الذي جاءت به ، نسبة لأن الدراسات العلمية الخاصة بتناسب الجرعة العقابية مع الجريمة لم تكن سائدة في تلك البيئة العربية القديمة لأمة أمية . بل وحتى عصرنا الحالي – ومن خلال جريمة السرقة نفسها – نجد تباينا في الجرعات العقابية لذات الجريمة من دولة لأخرى .
وهكذا يمكن القول بأننا قد وصلنا إلى تعليل " نسبي " لاختلاف الفقهاء الكبير حول محل السرقة ، ونسبية هذا التعليل تكمن في عدم قدرتنا على الجزم به ؛ وإن كنا نأمل بأن يكون بداية لأبحاث جديدة ؛ تنظر إلى الأمر انطلاقا من هذه الزاوية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.