[email protected] معظم الثورات و الاحتجاجات التي تشهدها المنطقة العربية بدأت في أول الأمر كمطالب إصلاحية للأوضاع السياسية و الاجتماعية التي كانت سائدة، وتطورت فيما بعد للمطالبة برحيل الأنظمة التي لم تستمع لنداءات الإصلاح ودعوات العقلاء بإفساح المجال أمام الحريات العامة و المشاركة في الحكم وتوسيع مواعين الديمقراطية لتستوعب ألوان الطيف السياسية كافة ، إلى جانب تعزيز قيم حقوق الإنسان وتوفير الحياة الكريمة للشعوب التي ظلت ترزح لعقود تحت وطأة المعاناة و قهر الأنظمة التي استباحت كل شيء وأحكمت سيطرتها على البلاد و العباد من خلال الجيوش الجرارة من الأنظمة الأمنية و البوليسية . في مرحلة لاحقة ارتفع سقف مطالب المحتجين من الإصلاح إلى رحيل الأنظمة كنتيجة طبيعية لردة الفعل التي واجهت بها تلك الأنظمة الاحتجاجات ومطالب الجماهير وإمعانها في قمع المتظاهرين مستخدمة كل ما ادخرته من أسلحة تم تمويلها عبر ما استقطعته من قوت الشعب وعرقه لتريق بها دماء الشيوخ و النساء و الأطفال في الأزقة و الحواري و ( الزنقات ) ، متوهمة إن ذلك يفت من عضد الشعوب التي حزمت أمرها وعزمت على أن لا رجعة إلى الوراء ولا مفر من تنفيذ مطالب الثورة و المضي قدما في تحقيق أهدافها في الحرية و الديمقراطية و الكرامة . ومن الواضح للعيان وحسب مجريات الأمور الراهنة على الساحة العربية أنه كلما زاد قمع الأنظمة لتلك الثورات كلما ارتفع سقف مطالب المحتجين في متوالية تتسع فيها صحيفة اتهام المستبدين و المتسببين في القتل و الترويع أمام العدالة التي لاشك أنهم ماثلون أمامها مهما أمعنوا في العناد و التجبر ومهما كابروا وراهنوا على التشبث بنعيم السلطة وبريقها الذي خطفته منهم أياديهم الملطخة بدماء الأبرياء . من يتخيل أن حاكما عادلا فطنا أؤتمن على مصالح البلاد و العباد عقودا من الزمن يلجأ إلى قمع شعبه بهذه الطريقة الوحشية بمجرد أنه طالب بحق من حقوقه التي كفلتها له الشرائع السماوية والمواثيق الدولية و الأعراف الإنسانية ، وفي أغلب الأحيان تكون هذه الحقوق مضمنة في دستور الدولة المعنية الذي هو عبارة عن ديكور ومساحيق تزين بها السلطة وجهها الشاحب أمام العواصف و الانتقادات الخارجية إذا هبت ، لكنها لا تلقي بالا لمطالب جماهيرها التي ترنوا إلى حقوقها الطبيعية في الحياة العيش الكريم ، وفي ذلك ينطبق عليها حال ( المرأة التي تأخذ كامل زينتها وهندامها عندما تخرج للعلن و تجدها في رث ثيابها وهي داخل بيتها ) . في أوقات سابقة رفضت بعض القيادات العربية دعوات الإصلاح التي جاءتها من كل الاتجاهات خاصة من الحادبين على استقرار الأوضاع في تلك الدول ، ورجعت في مرحلة متأخرة ووعدت تحت ضغط الشارع بتقسيط المطالب من باب ذر الرماد في العيون ، تارة مبشرة بقفل باب مشروع التوريث للأبد ، ومرة أخرى بعدم التجديد لولاية أخرى و الترشح لفترة رئاسية سادسة وعاشرة ، وأحيانا بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة في أول فرصة سانحة لذلك ، كل هذه الوعود لم تلق آذانا صاغية لأنها جاءت في غير وقتها وزمانها ، وكانت تصلح للتخدير والاستهلاك المحلي قبل أن تتحسس الشعوب طريقها للحرية و الديمقراطية وتحدد وجهتها ورؤيتها للتغيير وتمتلك زمام المبادرة ، لذلك استفزت وعود ( التقسيط ) المحتجين الذين اعتبروها نوعا من المماطلة واللعب في الزمن الضائع لكسب المزيد من الوقت وامتصاص حماس الخصم ما جعلهم يصعدون من مطالبهم ويرفعون سقف طموحاتهم في التغيير وضرورة الرحيل . لا شك أن تغليب خيار العنف لقمع المظاهرات بدلا من إعمال العقل و الفكر وانتهاج أسلوب الحوار للوصول إلى كلمة سواء بين القادة و الرعية عقد المشكلة أكثر وجعلها تأخذ منحى آخر أفضى إلى الغلو في التحدي و الإصرار على العناد ما رفع كلفة الخسائر البشرية في الساحات الملتهبة رغم الاحتجاجات التي اتخذت طابعا سلميا ما عدا في الحالة الليبية التي لها خصوصيتها ومبرراتها في ذلك . ومن مظاهر امتلاك الشعوب العربية المنتفضة لناصية المبادرات الخلاقة و إيمانها المطلق بالنصر في نهاية المطاف أنها لم تنجر للاستفزازات و تبادل عنف الأنظمة بمثله رغم أنها قادرة على ذلك ولو في أضيق الحدود و أضعف الإيمان ، ففي اليمن مثلا ينتشر السلاح بين الأهالي كالنار في الهشيم ولا يخلو منزل منه إلا أننا لم نشاهد متظاهرا واحدا يشهر سلاحه أو يرفع أكثر من صوته وإعمال حنجرته ، لقد فعل هذا الأسلوب الحضاري و المتقدم فعلته في حشد تعاطف الآخرين مع الثوار و تأليب الرأي العام العربي و العالمي ضد الأنظمة التي لا تزال تتشبث بالسلطة وترفض مغادرتها خوفا من المصير المحتوم الذي ينتظرها وطمعا في الإفلات من المحاسبة و العدالة .
لقد فوتت الأنظمة التي تواجه هبات شعبية عاصفة الآن فرصة ذهبية للخروج من عنق الزجاجة بأقل الخسائر و الاستفادة من تجربة النظامين التونسي و المصري عندما اقتلعتهما رياح الثورة العاتية من أول وهلة وفي وقت وجيز ، ولم تستوعب الأنظمة المكابرة أن ما يجري داخل حدودها لم يكن وليد لحظة أو ردة فعل عابرة لثورات مجاورة بدليل أن جميعها أكدت وأعلنت للملأ أن ظروفها تختلف عن جاراتها وأن الهزات الارتدادية لزلزال الثورة لن تطالها ، وما هي إلا لحظات ووجدت نفسها في قلب العاصفة و مجبرة على مواجهة الطوفان الذي لا عاصم منه اليوم إلا بتلبية مطالب الحشود الهادرة التي تزداد قوة ومنعة كل يوم ، وتنتظم صفوفها كلما تقدمت خطوة نحو الهدف ، و تعززت أركانها كلما ارتفعت خسائرها البشرية ، فعندما تفقد جماهير الثورة المزيد من القتلى و الضحايا يصبح النكوص عن المبادئ و الأهداف خيانة للدماء التي سالت و الأرواح التي أزهقت وهنا يصعب القبول بأنصاف الحلول وجراحات التجميل ، لذلك يتعزز في كل يوم شعار الرحيل . ولكن في المقابل إلى متى تستطيع هذه الشعوب أن تحافظ على سلمية ثورتها وانتفاضتها ؟ وإذا فشل سلاح المظاهرات و الإعتصامات و العصيان المدني في تحقيق مطالب الجماهير فما هي خياراتها القادمة ؟ وهل تلوح في الأفق أي بوادر لحروب أهلية ؟ هذا ما يخشاه عقلاء الأمة وفي مقدمتهم ( قادة دولة الإمارات ) الذين يتحركون الآن عبر المبادرة الخليجية لنزع فتيل هذا الخيار الصعب في اليمن و الذي إذا حدث لا قدر الله فسيزيد من نزيف الدم العربي ويعمق جراحات شعوب المنطقة التي كلما توثبت لغد أفضل وأخذ مكانتها بين الأمم جاءها من يعطل قدراتها ويتهمها بالارتزاق والارتماء في أحضان الغير قدحا في وطنيتها وتقليلا من شأنها و إمكاناتها ، لقد لعبت الجماهير دورا أصيلا في تجنب مآلات الحروب الأهلية ولا تزال تؤدي دورها في ضبط النفس و عدم الانزلاق فيما لا تحمد عقباه ، وفي نفس الوقت على الطرف الآخر أن يعي دوره في هذا الصدد و يعمل على اتخاذ قرارات شجاعة وتاريخية ومصيرية تحافظ على وحدة الأوطان وصون كرامة الإنسان . ولتعي الأنظمة التي تواجه انتفاضات شعبية أن الحيل القديمة لاستمراريتها في الحكم لم تعد تنطلي على شعوبها ، ونظرية المؤامرة أصبحت مدعاة للسخرية و الاستهجان ، فقد استخدمتها من قبل الأنظمة التي أجبرت على الرحيل في وضح النهار لكنها لم تجني عبرها إلا المزيد من الإصرار على الرحيل ، فقد أوهم النظام المصري البائد العالم بأن قبضته الحديدية على زمام الأمور وإصراره على استمرارية قوانين الطوارئ لعدة عقود كانت بسبب المهددات الأمنية و التفلتات الطائفية التي اتضح أنها من فعل النظام نفسه ومن نسيج خياله وبنات أفكاره ، فقد أثبت الواقع الماثل للعيان أبان أيام الثورة الأولى وبعد تمامها أن من أهم أسباب نجاحها هذا التجانس الفريد و التعايش السلمي بين الطوائف المصرية . وفي تونس لا يختلف الوضع كثيرا فقد برر النظام قهر الشعب وكبت حرياته خوفا عليه من تداعيات الفوضى وحمايته من الإرهاب وجماعته في المغرب العربي ، وهي الذريعة نفسها التي ساقتها و تدثرت بها بعض الأنظمة التي تقاوم حاليا تيار الثورة واستحقاقاتها ، و لم تتوان في سحق شعوبها على مرأى ومسمع الجميع . للأسف الشديد هذه الأنظمة لم تستفد من أخطاء الآخرين وتمادت في غيها ، ومن لم يعتبر بغيره سيشرب من نفس الكأس ، وهو لا محالة إلى زوال . و للذين يستعجلون نتائج الثورات التي أنجزت كما في الحالتين المصرية و التونسية ويخشون من مهدداتها و العقبات و التحديات التي تواجهها نقول إن الحدث أكبر من أن تجنى ثماره بهذه السرعة ومن الطبيعي أن تواجهه هذه العراقيل التي يضعها الحرس القديم وأصحاب المصالح المنتهية صلاحيتهم ، لذلك يحتاج مثل هذا الانجاز الفريد و الكبير للمزيد من الوقت حتى يبلغ القمر تمامه ، حينها لا تستطيع قوة أن تحجب ضوءه مهما تلبدت السماء بالغيوم و كثرت الشكوك ، والمتتبع لمسيرة التغيير الجارية في المنطقة العربية يرى أنها بدأت تثمر وتؤثر في محيطها الإقليمي ، وإلا فما الذي حدى بحركتي حماس وفتح الفلسطينيتين إلى هذا التقارب مؤخرا و إنهاء قطيعة دامت خمس سنوات وسط غضب وتهديد إسرائيلي نتيجة لهذا الاختراق في العلاقات بين الحركتين ؟