[email protected] أيام معدودات تفصلنا عن قيام دولة جنوب السودان المرتقبة ، وهي نفس الفترة التي تنتهي بحلولها مدة صلاحية صحيفة ( الإنتباهة ) حيث تحققت غايتها في فصل جنوب السودان ، وعندما تتحقق الغاية تنتهي مهمة الصحيفة التي كرست جهدها و وقتها وسكبت مدادها من أجل ( هذه اللحظة التاريخية ) و كان لها ما أرادت وحظيت بشرف المشاركة في انشطار الوطن ، لقد تبنت انتباهة ( الغفلة ) منذ البداية رؤية واضحة المعالم تجسدت في غرس بذور الفرقة و الشتات ، وكانت الرسالة تغذية روح العنصرية و الاستعلاء على الإثنيات الأفريقية و الدعوة إلى تعزيز الكراهية بين أبناء الوطن الواحد . بحلول التاسع من يوليو القادم يجب على الدولتين في الشمال و الجنوب وقف العدائيات ، و تبني سياسة حسن الجوار والتزام الحوار فيما يستجد من خلاف ، ونبذ العنف و الاقتتال ووأد الفتن ما ظهر منها وما بطن في مهدها حتى لا تتطور الأمور ، و لأن النار من مستصغر الشرر فلابد من أن يتقدم الصفوف العقلاء من الطرفين ، وأن تنشأ آلية لفض النزاعات في أوانها ، فلتسمى ( مفوضية حل النزاعات بين الدولتين ) وبالضرورة يجب ألا يكون شأنها مثل مفوضية ( نزع السلاح ) القائمة في الشمال بينما هناك من يوزع السلاح غربا وجنوبا لإثارة النعرات القبلية وتوسيع دائرة الاقتتال. إن اشتعال الحرب بين الجارتين بعد التاسع من يوليو لا قدر الله سيقضي على الأخضر و اليابس وسيكون الثمن أفدح و الخسائر أكبر لذلك يجب التحسب لها و الحول دون اندلاعها لأنها في هذه المرة لا تبقي و لا تذر ، لأنها ستكون بين دولتين وليس كما في السابق بين دولة بكامل عدها وعتادها و حركة مسلحة تعتمد حرب العصابات ، وتقاتل بأسلحة تقليدية و جيش غير نظامي ، هذه المرة ستمتلك الدولة الجديدة كل المقومات من أحدث الأسلحة و المدرعات و الطائرات وستفتح الأكاديميات العسكرية في أمريكا و الغرب أبوابها علنا لتدريب أفراد جيش دولة الجنوب ، وما أدراك قد تمتلك الدولة الجديدة في وقت وجيز حتى الأسلحة الفتاكة والمحرمة ، كل هذا لأن القائمين على أمرها يرون أن تحديات أمنية جمة قد تواجهها دولتهم الوليدة من ناحية الشمال، ألم أقل أن الحرب إذا اندلعت مرة أخرى لا قدر الله ستكون غير ! لذلك يجب على دولة الشمال أن تسكت منذ الآن الأصوات النشاز التي تعكر صفو العلاقات بين البلدين ، و لا تراعي أبسط حقوق الجوار و تعبث بمستقبل البلاد و العباد ، وأن تحرص على بناء جسور الثقة مع الجنوب ، وهذا لن يتأتى في ظل وجود منابر إعلامية شمالية قامت دعائمها على الحقد وكراهية الآخر ، وترتعد فرائصها لكلمات من قبيل السلام و الوئام و التعايش و التمازج و التجانس و التنوع ، وتغذت مفردات خطابها الإعلامي من ولائم العنصرية البغيضة ، وجندت نفسها لإثارة القلاقل وعاهدت ربها على أن لا يغمض لها جفن حتى يتشظى السودان إلى مثنى وثلاث ورباع . و الغريب في الأمر أن هذه المنابر لم يكن لها وجود خلال سني الحرب العجاف ، بل ظهرت للعلن وبثت سمها الزعاف بعد توقيع اتفاقية السلام ما يؤكد أنها نسيج ذاتها و تسبح عكس التيار و تحمل على ظهرها من الأجندة و الأوزار التي إذا ما ابتلت بالمياه الأسنة التي تغوص فيها فإنها لا شك ستنحدر بها إلى قاع سحيق من الفشل و الخذلان . بعد التاسع من يوليو يجب على أنصار السلام العادل أن يترجلوا عن منبرهم ، وأن يسلكوا طريقا آخر غير الذي خبروا دهاليزه ورضعوا من ثدي موبغاته ، لكني أشك في ذلك واحسب أنهم سيبحثون عن بؤرة أخرى يستطيعوا أن ينفثوا من خلالها ما تبقى من زفرات حقدهم وغلهم على الوطن وشعبه ، وأظنهم وجدوا ضالتهم في جنوب كرد فان حيث تتعالى أصواتهم الآن لإشعال فتيل الأزمة التي نسأل الله أن يخمد سعيرها ويريح البلاد و العباد من تداعياتها ، وأن يجري عليها قول الحق عز وجل ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) صدق الله العظيم . والآن دعونا سادتي نعود إلى الوراء قليلا أي إلى قبل شهر تقريبا من الآن حيث أوردت إنتباهة ( الغفلة ) خبرا مفبركا مفاده أن إسرائيل ضالعة حتى أخمص قدميها في عملية اغتيال قرنق ، وأشارت إلى أن مصدرها الإستخباراتي أفادها بأن قرنق غادر الجنوب في ليلة خريفية ظلماء متوجها إلى كمبالا ومن هناك أسرج له موسفيني الدابة التي امتطياها سويا إلى تل أبيب ليجتمعا مع الموساد الذي فشل في إقناع قرنق بضرورة الانفصال ، ومن تلك اللحظة اتخذ قرار التخلص منه في طريق عودته من كمبالا إلى جوبا ، كل ذلك حدث في غضون 48 ساعة ، تخيلوا معي أن قرارا بهذا الحجم و العيار الثقيل يتخذ في فترة وجيزة كهذه ، وبالطبع لم ترد في محاضر اللجان المختصة التي حققت في موت قرنق ما يطابق هذه الرواية ضعيفة الحبكة وقليلة الدسم أو ما يشابهها من قريب أو بعيد ، ولا أريد أن أخوض أكثر في هذه الرواية السخيفة التي تناولها العديد من الكتاب بالنقد و التحليل ودحضوا فريتها في حينها . هذه واحدة من الروايات المضروبة التي تنسجها الإنتباهة من وحي خيالها الضحل و التي لا تقنع أحدا ولا تنطوي على صاحب عاهة ، لقد أمعنت الصحيفة في اجترار الغث من القيم التي لا تشبه الشعب السوداني الطاهر العفيف المتسامح ، والذي جبل على خلق القرآن وطيب المعشر وعفة اللسان وشجاعة الأركان ، و الزهد في فضول اللغو الزائد عن النصاب ، شعب تسنم إلى وقت قريب العلا من الصفات و القيم الفاضلة ، وعرف بمكارم الأخلاق وتميز بين شعوب الدنيا بمآثر قل أن تجدها في بلد مثل السودان مترامي الأطراف ، متعدد السحنات و الملل و اللهجات و الطوائف و الأعراق ، ورغم ذلك انصهر هذا النسيج الفريد في بوتقة كان أسمها السودان . وأدخلت الإنتباهة وكتابها وفي مقدمتهم رئيس تحريرها ألفاظا ومدلولات لن تكن متداولة في صحفنا السيارة التي عرفت منذ سنواتها الأولى و التي تمتد لعقود من الزمن بقوة الحجة و المنطق ، ورزانة الكلمة وعفتها ، و نبل الرسالة وشرفها . وإذا استثنينا ما شاب محاسن الصحافة السودانية ولحق بها من تشوهات شكلية وموضوعية أبان فترة الديمقراطية الثالثة ( 86 – 89) بسبب الذين امتطوا صهوتها من الكتاب و الصحفيين الذين شربوا من نفس منبع الإنتباهة ، نجد أنفسنا أمام تاريخ عريق لمؤسسات صحفية رائدة قامت على أكتاف رجال أفذاذ حملوا الرسالة في أشد الأيام قسوة وعناء ، تحملوا عبء مقارعة المحتل و تعزيز الروح الوطنية بين قطاعات المجتمع ، كتبوا عن الوطن و التحرير و الجلاء و السودنة و الحريات وحقوق الإنسان و الديمقراطية و البرلمان و حقوق المرأة ، تحدثوا عن السودان من نملي إلى حلفا ومن حلايب إلى الجنينة ، لم يثيروا الفتن و النعرات الجهوية ، ولم يضرموا النار في الجسد المترامي الأطراف الخارج لتوه من نير الاستعمار . لا نقول لم تكن هناك خلافات و صراعات لكنها كانت تدار بحنكة ووعي ، كان الوطن فيها هو المعلى وما دونه هراء ، كانت القيم ثابتة و الكلمة موقف ومسؤولية ، وكان الخلاف لا يفسد للود قضية . لكننا اليوم أمام مواقف وتصرفات غريبة وكائنات عجيبة لا ندري من أين جاءت إلى هذا الفضاء الفسيح لتفش غلها وتبث حقدها و تنفث سمومها ولكن هيهات .. هيهات .