لا أكتم القراء حديثا أني كنت إلى وقت قريب، شديد الشك، بل أكاد أقول التشكيك، في جدية إدارة وزارة العدل والنائب العام، وقيامها بحق المسؤوليات الحساسة الدقيقة التي أوكلها إليها الشعب. وقد كنت من سوء ظني المزمن بإدارات العدل العليا في الدولة، أميل إلى أن وزارة العدل والنيابة العامة تدمن التستر على قضايا الفساد، وتتآمر على قتلها بالصمت، وتظن أنها تحسن صنعا طالما صانت أهل الثقة ووضعتهم فوق مصاف الحساب والعقاب! وفي الشهور الأخيرة كاد ظني أن يتحول إلى يقين قاطع بعد تجربة شخصية لي مع هذه الإدارة الحكومية. وذلك إزاء قضية جنائية رفعتها ضد وزير الدولة للنقل، السفيه المصفوع المدعو فيصل حماد عبد الله، الذي تهجم علي شخصيا، مستندا إلى خلفيته الأمنية المشبوهة، وأنذرني بالاعتداء على حياتي، إذا ما وجدني أسعى وحيدا في مكان قصي خفي بشوارع الخرطوم كما قال! تعطيل العدالة نقيض لها! وقد أقر القاضي الجنائي بخطورة القضية، المتهم فيها وزير الدولة، لأنها قضية تهديد جدي للحياة، ودفع بأوراقها مع إفادات شهودها، الذين أقسموا على المصحف أمامه، إلى وزارة العدل، طالبا رفع الحصانة عن الوزير ليقف أمامه، ويقاضيه كما يقاضي أي متهم عادي يمثل بين يديه. ولكن استطاع أعوان الوزير المتهم، أن يعملوا بنفوذهم المشبوه المتداخل مع أفراد نافذين من البيروقراطية النيابية الفاسدة، على تعطيل وصول أوراق القضية، فلم تصل إلى وزراة العدل إلا بعد عدة شهور من أمر القاضي بإحالتها إليها. ومعروف أن تعطيل العدل أمر مناف للعدل ونقيض له. ومرة أخرى عمل أعوان الوزير على تعطيل نظر القضية لعدة شهور، مستخدمين نفوذه (الإخوي الإنقاذي) المشبوه، وذلك حتى بعد أن وصلت أوراق القضية إلى أروقة وزارة العدل. هذا مع ملاحظة أن الأوراق لم تصل إلى وزارة العدل إلا بعد أن ضاق محامي ذرعا بالذرائع والأباطيل، التي استمرأها الطرف الآخر، فقام بانتزاع الأوراق انتزاعا من أيدي البيروقراطية الفاسدة المتواطئة مع الوزير، وذهب بها إلى هناك. وكانت المفاجأة التي أخذت بلب المحامي الموكل من قِبلي، وإن لم تأخذني شخصيا، أن الوزير المتهم قضائيا، فيصل حماد عبد الله، اتصل به، وطلب الاجتماع العاجل به، وحاول أن يثنيه أثناء اجتماعه به، عن الترافع بالنيابة عني في تلك القضية. وهذا نوع معهود من التدخلات الخطيرة التي دأب على ممارستها بعض المتنفذين من المستوزرين الإنقاذيين الجدد لاسيما ذوي الخلفية الأمنية الفاسدة منهم. وحتى اليوم فما تزال أوراق القضية رابضة لدى وزارة العدل، يحجبها بعض الوسطاء من أعوان الوزير، فيصل حماد عبد الله، ويحولون دون أن تنظر الوزارة فيها، وتقرر بأمرها سلبا أو إيجابا. هل الناس سواء أمام القانون في السودان؟! وأخيرا أشرق بصيص أمل، بدا لي وكأنه سيبدد شيئا من سوء ظني بوزارة العدل وإدارة النائب العام، وهو ظن لا أظنه كان من قبيل الظن الآثم. وقد أطل هذا الأمل بإقدام مولانا وزير العدل، الأستاذ محمد بشارة دوسة، بإصدار قرار كبير جرئ، بإحالة بعض كبار المسؤولين الحكوميين إلى نيابة الأموال العامة، حتى تتم محاكمتهم تحت مادة خيانة الأمانة من مواد القانون الجنائي. وهذه بالتأكيد قضية كبيرة، أكبر بكثير من قضيتي الخاصة، التي ما زالت بعض أقسام وزارة العدل تماطل فيها، ظنا منها أني سأتغاضى وأصرف النظر عنها. وهي لا تدري أن هذا الضرب من (المطوحة) و(المحركة) و(المراوحة) لا يزيدني إلا إصرارا على قضيتي، وتمسكا بحقي المشروع في مقاضاة خصمي، الذي لا يهمني وضعه الوظيفي وما إن كان وزيرا أو خفيرا. وما ذلك إلا لأن العدل مفهوم وجودي كلي لا يتجزأ، وأن الناس متساوون امام القانون. فالعدل في قضيتي الشخصية الصغيرة، والقضية الوطنية الكبيرة، سيان لا يختلفان. ولا ينبغي أن يحتاج المواطن العادي البسيط، من أمثالي، إلى أن يقف وراءه البرلمان، والرأي العام، والإعلام، لينال حقه في العدالة، كما حدث في قضية البذور الفاسدة. وهي القضية الخطيرة الفاضحة، التي اتهم فيها مدير البنك الزراعي، ومديرو الإدارات المالية والتجارية بالبنك، وأعوان وشركاء لهم وذيول. حكيم الأمة علي عثمان وأرجو أن يكون أخونا الأكبر وحكيم الأمة، الأستاذ علي عثمان محمد طه، قد كان على رأس من شعروا بخطورة عبث مثل هؤلاء المسؤولين الزراعيين الكبار بأمور الزرع. وأدرك بحسه القانوني الدقيق أن فساد هؤلاء المفسدين لا يضاهيه ولا يلحق به أي فساد. فهو من قبيل الفساد الذي ألحق خطأ بمادة خيانة الأمانة، من القانون الجنائي السوداني، وقد كان الأحرى به أن يلحق بمادة الخيانة الوطنية التي نص عليها ذات القانون. وربما كان الأحرى أن يلحق بنوع الفساد الأكبر الذي تحدث عنه القرآن الكريم ودعاه بالفساد في الأرض. قال الله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ. وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ". البقرة:204- 205. وما رآه الناس في قضية التقاوي الفاسدة إنما تطبيق عملي جلي، للنموذج النظري التجريدي، الذي ذكرته الآية القرآنية الكريمة المعجزة. وهو تطبيق أداه بعض أولي الثقة من المسؤولين الإنقاذيين بإتقان، أولئك الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا، ويبهرك تظاهرهم بالتدين والصلاح، وربما انطلت عليك ادعاءاتهم المغالية بالولاء للوطن، وحتى إذا ما فحصت أداءهم الإداري، ودققت فيه بإنعام، هالك جحم الفساد المهول الذي يجترحونه ويأتونه، ويهلكون به الحرث والنسل. ودليل ذلك ما ذكرته بعض الجهات البحثية التي قامت على تحليل الفطريات والبذور الفارغة المجتلبة وبينت ما تسببه من الأمراض الفادحة للإنسان والحيوان. برافو للنائب العام وسؤال محرج للنائب الأول!! محمد وقيع الله (2من2) إن أكثر ما يهولك من أمر المفسدين الكبار في أرض السودان، من أمثال أصحاب البذور الفاسدة، أن تراهم وهم يأملون في العفو، ويرجون أن تتغاضى الدولة عن فسادهم، بحجة أن لهم سابقة مجيدة في خدمة الإنقاذ! وأن ترى لهم ولأعوان لهم من أهل النفوذ الواصلين، والموصولين بأصحاب والوساطات والشفاعات، يقين لا يعتوره شك، بأن الدولة لن تتجرأ عليهم، وأنها ستتغاضى لا محالة عن جرائرهم، مهما عظمت، ومهما ألحقت الضرر بالأبرياء. ظنوا أن الدولة لن تتجرأ عليهم ولذا تراهم سادرين في الهوى والغطرسة، لا يجيبون عن الاتهامات الموجهة إليهم، إلا بإشارات التعالي، والتهديد، والوعيد، الذي لا يوفرون منه حتى نواب البرلمان المحترمين! ولكن نأمل كما بشرنا أخيرا متحدث باسم البرلمان، أن تلتزم الدولة بمحاكمة جميع المفسدين، ونأمل أن يصدق وعد هذا النائب بأن:" سيُحاكم المفسدون أيا كانت درجتهم أو فضلهم على ثورة الإنقاذ ". وأن تقوم الدولة بإيقاف طابور الإفساد المتسلط عند حده، فلا يتدخل أربابه كما تدخل وزير الدولة إياه، لتعويق إجراءات العدالة. فقد كشف بعض المزارعين المتضررين من جريمة التقاوي الفاسدة عن تعرضهم لترهيب وترغيب من قبل جهات نافذة، لم يسموها، للتنازل عن قضيتهم ضد عصابة المفسدين الزراعيين. وهذا الترهيب والترغيب ربما جاء صدر من الجماعات المفسدة نفسها، أو من جماعات الأعوان المساندين لها، والمنتفعين منها، والوسطاء والشفعاء الذي يشاركون بوساطاتهم وشفاعاتهم، التي لم يبتغوا به وجه الله تعالى، في اجتراح الإثم والعدوان. الفساد المؤصل وهذه ظاهرة مركبة من ظواهر الفساد المؤصل، أو ربما صح أن تسمى ظاهرة (تأصيل) الفساد، وهي ظاهرة إنقاذية بامتياز، تحتاج إلى أن يفرد لها علماء الاجتماع مبحثا خاصا، يحللون فيه دوافعها ونتائجها! وليس يوجد تصوير أقوى لشكل هذه الظاهرة الإنقاذية المركبة مما جاء في تضاعيف خبر الفساد إياه، من أن رئيس لجنة فرز العطاءات لتوريد البذور الفاسدة، كان على رأس المتهمين بالفساد في هذه القضية! وأن فساده المتهم به كان فساده أطوار متراكبة، حيث كان وما زال شريكا مساهما في شركتين من الشركات الثلاث التي تقدمت بالعطاءات وفازت بها! بمعنى أن هذا الشريك التجاري المريب، قد تحول إلى شخص حكومي، وإلى حكم متحيز، يحكم لنفسه ضد الآخرين، ويهدر عطاءات المتنافسين معه ويبطلها بغير الحق. ولو لم يكن هذا الشخص يعلم أن تقاويه التي سيقوم باستيرادها بسعر زهيد، هي تقاوي فاسدة في الأصل، لما اشرأب إلى اعتلاء هذا الموقع الحكومي، الإداري، شبه القضائي، الذي يقضي لصالحه ابتداء. وحتى لو لم تكن التقاوي التي استوردها هذا الشخص تقاوي فاسدة، وحتى لو كانت سليمة جدا، فإن منح منصب رئاسة لجنة فرز عطاءات توريد التقاوي، للشخص الذي كان طرفا في منافسة تقديم العطاءات، إنما هو فساد بين صريح. ولذا فلابد من ملاحقة المسؤول الحكومي الزراعي، الذي قام بتعيين هذا الشخص في هذا المنصب التحكمي، في فرز العطاءات، واتخاذ القرارات بشأنها، ومساءلته إن كان يجهل خلفيته هذه أم كان يعلمها حق العلم، ولكنه تغاضى عنها جبنا، أو مجاملة، أو لمصلحة في عمولة أو رشوة؟! من يملك هذه الشركات؟! وطالما أن الأمر كله ملتبس بالريب والشبهات فدعونا نفتح أيضا ملفات شركات هارفيست، وشركة أقرونيدز، وأقروتلج التي أشار بيان وزارة العدل إلى احتمال تورطها في الفساد، ووجهت وزارة العدل بتحويلها إلى نيابة الأموال العامة. فمن هو الذي يملك هذه الشركات حقيقة؟! هل يملكها المتهمون الحكوميون أنفسهم؟! أم يملكها أشخاص آخرون لهم علاقة بهم؟! فهذه مسائل مشروعة لا نظن أن القانونيين المكلفين بملاحقة الفساد في هذه القضية سيهملون أمر فحصها واستخراج خبئها. لماذا تصل التقاوي متأخرة دائما؟! ولا يفوتنا أن نلحظ ملمحا آخر من ملامح الفساد المؤصل في وزارة الزراعة، كشف عنه من دون أن يتأمله أو يعقب عليه وزير العدل، الذي عندما ذكر أن التقاوي قد وصلت متأخرة (وهي في الواقع قد وصلت أكثر من مرة متأخرة) إلى الميناء، وتم الإفراج عنها قبل صدور نتائج الفحص اللازم لتأكيد سلامتها. فلربما كان من مكر هؤلاء المفسدين الدهاة، العريقين في المكر والفساد والإفساد، أن يعمدوا إلى تأخير وصول التقاوي إلى البلاد، وذلك حتى يتفادوا تعريضها للفحص، ويتجنبوا نتائجه السلبية، التي تدينهم، وتمنع توزيع تقاويهم التالفة على السادة المزارعين الذين نكبوا بهم. ويعتذر المسؤلون الزراعيون الكبار بالنيابة عنهم، بمسألة ضيق الوقت، وضرورة اللحاق بالموسم الزارعي، وبالتالي يعفون البذور الفاسدة من اجراءات الفحص والاختبار. وأسئلة محرجة لرائد النهضة الزراعية وأخيرا نتقدم بهذه الأسئلة المحرجة الذي سمحنا لأنفسنا بتوجيهها إلى السيد نائب رئيس الجمهورية، الذي هو رجل قضاء ومحاماة، مشهود له بالنزاهة التامة التي لا مطعن فيها. وأولها: هل سيتجه الجهاز التنفيذي، ولو تحت ضغط البرلمان، إلى إسباغ الحماية اللازمة على وزارة العدل، لكي تستحق اسمها هذا، ولتكون اسما على مسمى حقيقي؟! وبلفظ أوضح: هل سيتجه نائب الرئيس، باعتباره الوجه القانوني الأبرز للنظام، لكي يضفي حمايته ودعمه الخاص على وزراة العدل، لكي تصبح حماية ووقاية لنظام الإنقاذ، من التردي في الظلم الممنهج، الذي أودى بنظم عتيدة من قبل، ظنت وهي تسدر في غرور الغي، أن الاستقواء بالظلمة من أهل الثقة سيمد لها في أسباب البقاء؟! وهل ستأخذ الإنقاذ العبرة من هذه النظم الثلاثة التي هوت أخيرا، بعد أن نخرها سوس الفساد، الذي تسرب من أهل الثقة، الذين كانوا أول من فروا منها بعد أن أسهموا في تقويضها؟! وأما مشروع النفرة الزراعية، الذي يشرف عليه الشيخ بعيد النظر علي عثمان، ويعول عليه لمستقبل تأمين البلاد، فلا شك أنه قد كان المتضرر الأكبر من عمليات الفساد الممنهجة، التي أشرف عليها بعض الزراعيين الكبار، في وزارة الزراعة والبنك الزراعي والشركات إياها. فهل يا ترى سيبسط الأستاذ علي عثمان حمايته القانونية القصوى على هذا المشروع الحيوي، الذي لا يمكن أن يتم تمامه ما بقي هؤلاء المفسدون الكبار يسرحون ويمرحون؟! مَتى يَبلُغ البُنيانُ يَوماً تَمامَه اِذا كُنت تَبنيهِ وَغَيرك يَهدِم؟!