بدأت الحملات الانتخابية مبكراً في السودان واستهلها بعض أركان النظام بالحديث عن انجازات الإنقاذ بصورة فيها الكثير من المبالغة ، فقد صرح والى الخرطوم لإحدى القنوات الفضائية مؤخراً بان البنيات التحتية التي تم تنفيذها حتى ألان في الخرطوم تضعها في مصاف العواصم العالمية ، ورغم أن المبالغات والتصريحات الغير مؤسسة أصبحت عادة لدى أصحاب السلطة في الخرطوم حتى في غير أوقات الانتخابات إلا أن هذا التصريح من شدة مفارقته للحقيقة والواقع ربما يضع الوالي في خانة عدم الرشد المهني والسياسي وبالتالي عدم الأهلية للمنصب الذي يشغله ، فالواقع المأساوي الذي تعيشه الخرطوم حقيقة يعلمها القاصي والداني والتي تؤكد أن الخرطوم ومع الأسف الشديد بلغت مرحلة من البشتنة تجعلها لاتنتمى حتى إلى مصاف القرى العالمية علماَ بان الوالي السابق قد وصفها بالزريبة ، ورغم أن البؤس والتخلف الذي تعانى منه الخرطوم لايحتاج إلى براهين وأدلة إلا أننا نسوق فيما يلي بعض الأمثلة وليس كلها لان سرد مآسي الخرطوم بالكامل يحتاج إلى مجلدات. تغرق الخرطوم عند هطول أول مطره وتبدأ الولاية في التعامل مع الوضع كأن هذه الأمطار ظاهرة طبيعية لايتوقع حدوثها في الخرطوم كالزلازل رغم أنها تتكرر سنوياً وتؤدى إلى تلوث في البيئة لايطاق وما يصاحب ذلك من تكاثر للبعوض وارتفاع معدلات الإصابة بالملا ريا وارتفاع معدلات الاسهالات وسط الأطفال وخلافه ، و يتم التعامل مع المشكلة عادة بعد هطول أول مطره تقيله عن طريق موال سنوي يتمثل في الإعلان عن إنشاء غرف طوارئ وإذاعة أغاني الحماسة من نوعية عجبونى الليلة جو خاصة إذا كان زنقة المطره معاها زنقة بحر ونشر شويت عمال في الشوارع لنظافة بعض المجارى السطحية ويروح العمال بى هنا ويرجع المشاة والعربات الوضع إلى ما كان علية حتى قبل هطول المطره الثانية . ولمقارنة هذا الوضع مع ما يجرى في العواصم العالمية لابد من معرفة ماذا يفعلون في تلك العواصم: كل من عاش أو زار تلك البلاد يعلم أن الأمطار يتم التعامل معها عن طريق الحلول الدائمة والمتمثلة في إنشاء شبكة تصريف مبنية under ground تشمل المدينة بأكملها والمعروف أن عواصم مثل لندن وباريس وغيرها أنشأت هذه الشبكات قبل أكثر من مائة عام ، ونتيجة لوجود هذه الشبكات يمكن للمرء أن يخرج للشارع بعد هطول أمطار غزيرة تستمر لعدة ساعات ولا يجد أي برك أو مستنقعات ، يعنى الشغلانة بخلاف الأموال الطائلة عاوزه هندسة صاح ، ورغم أن أساليب الهندسة التقليدية من مدنية وميكانيكية وغيرها قد تم تجويدها وصقلها منذ عشرات السنين حيث أصبح تنفيذ مشاريع البني التحتية من طرق وكباري ومشاريع العمران الأخرى لاتحدها أى عوائق تكنولوجية وإنما المال فقط ، في هذا الوقت بالذات نرى ولاية السيد الوالي الهمام تعجز وفى القرن الواحد وعشرين حيث يتأهب الإنسان لغزو المريخ تعجز ولاية الخرطوم عن إنشاء نفق مجهز بإمكانية تصريف مياه الخريف والنتيجة فضيحة بكل المقاييس حيث تحول نفق عفراء إلى حوض سباحة عند هطول أول مطرة. لو كان تدهور صحة البيئة قاصراً على الخريف لكان الوضع أخف بعض الشيء لأنها ثلاث شهور الناس تعديها كان دق كان خنق لكن المشكلة التلوث أصبح على مدار العام والسبب تراكم الأوساخ والنفايات لعجز المحليات عن القيام بواجبها رغم الفلوس التي يدفعها المواطن أضف إلى ذلك الملوثات التي تفرزها المصانع والمناطق الصناعية المنتشرة في المدن الثلاثة والملوثات التي تفرزها أسواق بيع اللحوم والخضار كالسوق المركزي الذي أصبح بؤرة للتلوث بسبب الطرق المتخلفة المتبعة في عرض السلع وعدم التزام العارضين بنواحي النظافة والهيجين وعدم المراقبة والمتابعة من جهات الاختصاص ، أضف إلى ذلك التلوث في الأسواق الشعبية حيث تقدم بعض المطاعم الوجبات لزبائنها وعلى بعد خطوات منها مجارى نتنة مملوءة بالمياه القذرة من مخلفات الأمطار والمواسير المكسورة وما يتبع ذلك من تجمعات للذباب والناس تأكل وأصحاب المطاعم والمحلية لايخصهم والوالي الهمام يتحدث عن مصاف العواصم العالمية ، غايتو مغسة تشق. ولعل من اخطر المحن التي يعانى منها سكان الخرطوم خصوصا والسودان عموما السموم التي يتناولها الناس مع المواد الغذائية ابتداء من مادة البوتاسيم بروما يد المسرطنة في الخبز إلى سموم المبيدات الحشرية في الخضار والفاكهة إلى المواد الحافظة والألوان المهلكة التي تستخدمها مصانع المواد الغذائية التي تنتج المعلبات والعصائر والبسكويت الذي تستخدمه اضعف حلقات المجتمع وأعنى بذلك الأطفال والنتيجة الحتمية لهذا العبث تدهور صحة المواطن إلى مستويات غير مسبوقة وارتفاع معدلات وفيات الأطفال وانتشار أمراض خطيرة لم نكن نسمع بها من قبل إلا نادراً كالفشل الكلوي والتهابات الكبد الوبائي بأنواعها ، ماذا فعلت الولاية لدرء كل هذه المخاطر عن المواطن ؟ الإجابة يعلمها الجميع وهى لاشيء ، وليت الولاية رحمتنا بالصمت بعد تقصير وهاهو واليها يضع الخرطوم الغارقة في التلوث والفساد يضعها في مصاف العواصم العالمية . اذكر أنني قرأت خبراً مفاده أن الجهات الرقابية في بريطانيا حذرت احد منتجي المربات ليس لان المربى التي ينتجها ضاره أو بها عناصر مخالفة للمواصفات وإنما لوضعه صورة على العلبة فيها أنواع الفواكه المستخدمة واتضح بعد التحليل أن هذه الصورة غير دقيقة لأنها تحتوى على بعض أنواع الفواكه غير موجودة في المربى موضوع الخبر مما يعنى أن المصنع كذب على المستهلك ، هكذا تصان صحة المواطن ياحضرة الوالي في تلك العواصم حيث يسهر عليها نفر من المسئولين حباهم الله بالاستقامة والنزاهة والأمانة ولا يهابون صاحب المصنع أو الشركة الفلانية لأنه من الأعضاء النافذين للحزب الحاكم وبالتالي فوق القانون . هولاء القوم ياسيادة الوالي عندما تبلغهم شكوى بان أحداً ما ظهرت عليه علامات النعمة بصورة غير طبيعية لايطلبوا من الشاكي أن يثبت أن في الموضوع شبهة فساد بحكم استحالة ذلك نظراً لان الهابر لايترك اثراَ وراءه وبدلاً عن ذلك يطلبون من صاحب النعمة أن يثبت مصادرها فان كانت مشروعة يصبح متهرب من الضرائب ويعاقب على ذلك أما إذا فشل في إثبات مشروعيتها فتصادر بالإضافة إلى عقوبة تتناسب مع نوعية النشاط الاجرامى الذي يمارسه وتحصل من خلاله على الثروة المفاجئة كتجارة المخدرات مثلاً ، أما في المجتمعات الرسالية فيطلب من الشاكي أن يقدم الدليل الدامغ على أن فلاناً سرق ونظراً لاستحالة ذلك يسرح ويمرح اللصوص بنهب المال العام وأصبح امتلاك العمارات والعربات الفاخرة بين ليلة وضحاها شيء عادى ومن يفتح خشمو يطالب بالدليل ، وما في داعي نقلب المواجع ونعمل مقارنات أكثر من كده لأنه لايجوز مقارنة المجتمعات الرسالية مع مجتمعات الكفر والضلال. أما الحديث عن ما يشربه سكان الخرطوم فهذه قصة اقرب إلى الخيال لأنك إذا أخبرت أحد ساكني العواصم العالمية التي أشار إليها سعادة الوالي أو أى بني ادم في بلاد الله الواسعة بأن الخرطوم عاصمة الدولة البترولية التي تنتج نصف مليون برميل في اليوم من النفط ( مليون برميل حسب تقديرات بعض أخوانا الجنوبيين لأنهم بقولوا المؤتمر الوطني عامل (اونطه) في الحسابات) لو قلت لهؤلاء القوم أن الخرطوم بتشرب لبن يوزع بالحمير وأنها ورغم ما فيها من انهار تعانى من مشكلة في مياه الشرب وان مواسيرها تشكو من الجفاف وبعض سكانها يشترون الماء بالكارو والحمير ، من المؤكد أنهم لن يصدقوك ولن يصدقوك أيضا إذا أخبرتهم بان الصارقيل يسرح ويمرح في مواسيرها بخلاف الطين والروائح الكريهة (موضوع الصارقيل هذا ليس توقعات من عندي وإنما حدث فعلا في الثورة الحارة العاشرة بامدرمان حسب ماجاء في صحف الخرطوم). ليت الوالي يركز على الصالح العام بدل المصالح الحزبية الضيقة ، فبناء الكباري والطرق قد يبهر العين ويؤثر على البسطاء ويجعلهم يتحدثون عن انجازات الإنقاذ ويقيمونها عالياً مقارنة بالعهود السابقة ولكن واقع الحال وحقائق الحياة تقول أن منشئات البني التحتية رغم أهميتها تتراجع في سلم الأولويات عندما تتم مقارنتها بالمشاريع الخدمية التي تمس حياة المواطن مباشرة مثل توفير مياه الشرب النظيفة الخالية من التلوث وتوفير الرعاية الصحية المناسبة والتعليم الجيد وخلافه من ضروريات الحياة ، فالعمران مهما تتطور وتنوع لاقيمة له مادام المواطن لا يجد قوت يومه والملا ريا تهلك أطفاله ويأكل ويشرب من الملوثات القاتلة آناء الليل وأطراف النهار ، لانسعى مما سبق لتبخيس ما تم انجازه فوق الأرض ولكن كنا نتمنى لو أن الانجاز شمل احتياجات المواطن اليومية السالفة الذكر وكان بالإمكان تحقيق ذلك لو توقف نهب المال العام واستباحة الموارد ولكن هيهات. م/ مصطفى عبد الفتاح الرياض - السعودية Abdelfatah Mustafa [[email protected]]