كاتبتني سيدة وهي من المداومات على قراءة هذه الذكريات، بل تكاد تكون تلك السيدة هي الوحيدة التي تشجعني ان اواظب على كتابتها واظن ان أكثر ما يَسُر الكاتب (ان كنت كاتباً أصلاً) اوردت بعض من تعليقها وعلى بعض ملاحظاتها ومنها قولها بأنني كنت خواف وكتبت أرد عليها معلقاً على هذه الجزئية التي استقتها في واحدة من ذكرياتي هذه قلت فيها بانني كنت حذر جدا في صغري من كل شئ وهذا الطبع شبّ معي.. ثم واصلت موضحا لها بان من أصعب الكتابات على الإطلاق هي الكتابة عن الانسان وعلماء الاجتماع يجمعون على ان دراسة سلوك الانسان تعد من ضروب الدراسات المرهقة لانه حيوان متغير الطباع ويتغير تبعاً لتغيرالظروف التي يعيش فيها وطبعاً كان ردي نوع من ميكنيزمات الدفاع عن النفس كما يقول علم النفس الاجتماعي وعللت لها انني بهذا الكلام قصدت القول ان حكاية الخوف وعدمه هو نوع من الحرص وبالتالي هما احد السمات التي تجعل الفرد يغير في كلامه لذلك تأتي النتائج التي تجرى عليه محتملة حتى وان كانت علمية.. والخوف كما هو معروف سمة موجوده عند كل إنسان وبأشكال متعددة ..كذلك الحرص وفي ذلك قول الشاعر العربي : حرصي عليك هواً ومن يحرص ثمينا يبخل اما نحن فعندنا نقول: (الخواف ربا عياله) اعود للقول بان حكاوي الناس والمدن له عندي طعم خاص وقد تعلمت هذا النوع من الكتابة قديماً مقتدياً باستاذي جمال محمد احمد رحمه الله ذلك الرجل الذي جلسنا حوله في أخريات سنين حياته ورغم قصرها لكنها إفادتنا الكثير .. اما شيخنا قد استفاد كثيراً من أسفاره العديدة ولم يشغل نفسه كثيراً بصغائر الأمور كما يفعل الكثيرين.. كتب جمال عن الناس والأمكنة بِنَفَس الكاتب الحصيف رقم انه ديبلوماسياً يفترض ان تشغله اي مهام رسمية ملقاة على عاتقه ولكنه تحرر من ذلك القيد وغاص في ثقافة الشعوب التي عمل في بلدانهم، فكتب وترجم الكثير.. غير استاذي جمال فهناك الكثيرين من من اهتموا بهذا الضرب من الكتابة على سبيل المثال الأستاذين خالد الكد وعلي ألمك وكلاهما كان يكتب عن مدينة ام درمان وناسها وكذلك احيائها وتكاد وان تقرأ لهولاء تحس بأنك تغوص في تلك الأحياء بل أحياناً تتخيل انك تمد يدك لتصافح الناس.. كان لابد لي ان اسوق تلك المقدمة لأنني هنا سوف أحاول على قدر المستطاع ان أقول في هذه الذكريات بعض ما عشته وشاهدته علني أسجل بعض من تاريخ تلك الفترة وأرجو ان أكون موفقاً وقطعاً حياة الطفولة الاولى لها نكهة خاصة وفيها ما فيها من الشقاوة.. اظن انني ذكرت لكم ان حياتي تبدلت من بداوة القرية -ان صح التعبير- إليّ المدنية وانني بدات في الاستقرار اخيراً بعد ان وصلت لبري الدرايسة وقد حدثتكم عن سكني وعن مدرستي الجديدة (لنج) في بري ابو حشيش تلك الضاحية التي تجاور بري الدرايسة وسكنها ناس طيبون يحبون اللهو ويحبُهم اللهو.. الحياة في مدينة البراري بأحيائها الخمسة (قبل انشاء امتداد ناصر) كانت لا تختلف كثيراً بين بقية الأحياء الاخرى في العاصمة المثلثة خاصة وان السكان هم نفسهم خليط من القبائل والسحنات دفعت بهم ظروف الحياة للهجرة للخرطوم بحثاً عن وضع أفضل وهذا الوضع هو الذي خلق ذلك التقارب بين طبقات ذلك المجتمع مع العلم ان غالبية سكان بري الدرايسة من ذوي الدخل المتوسط والعمال مع القليل جداً من التجار.. الشئ العظيم والذي امتازت به البراري هو انها أنجبت صفوة من المتعلمين والمتعلمات، خاصة بري المحس وقد سبق القول في هذا المجال وتلاحظ ان اهلنا المحس في بري وغيرها يهتمون بتعليم ابنائهم اكثر من اهتمامهم بأنفسهم فكان منهم العلماء واصحاب الشأن.. استفدت من حضوري للخرطوم انني بدأت اشعر بالتغيير الشديد في المجال الدراسي والحياتي..ومثلاً ففي المجال الدراسي كان لرجوعي للصف الثالث في مدرسة بري أبوحشيش السبب الرئيسي لنجاحي وكذلك المحيط العام الذي كنت أعيش هو بدوره أعانني على ذلك النجاح فقد بدات اشعر بالتنافس بيني وبين اترابي من حولي. كانت بري الدرايسة في ذلك الوقت في قمة النظام من ناحية النظافة العامة اما العمران فكان اغلبه تقليدياً والبيوت معظمها مبنية من الطين الا انها كانت منظمة والنَّاس متساوية في كل شي تقريباً ورقم قلة المدارس في ذلك الوقت مع كثرة التلاميذ الا ان ذلك لم يكن مشكلة إطلاقاً.. المدرسة الوسطى الوحيدة كانت مدرسة بري الأميرية الوسطى بحي كوريا وكانت تستوعب عدد محدود من الطلاب ولاتوجد مدرسة ثانوية إطلاقاً وأقرب مدرسة ثانوية هي مدرسة الخرطوم الثانوية القديمة وهي الاخرى تستوعب عدد محدود من المتفوقين من أنحاء العاصمة المثلثة..اما الذين لم يحالفهم الحظ فليس أمامهم طريق غير الإعادة وظروف اهلهم المادية تسمح فهناك المدارس الخاصة أو الأهلية وقد بدأت تنتشر في الخرطوم وأشهرها على الإطلاق مدرسة الخرطوم الأهلية الوسطى والتي اشتهرت بالاستاذين محمد احمد عبد القادر ومحمد حمزه وكلاهما من جزيرة توتي.. صباي في بري كان عادياً جداً رغم أني لم اسلم من شقاوة قريبي طه علي ومكاواة ابن خاله مبارك الصافي الذي فهم قلة تحملي وكذلك طه فكنت اتعكنن من تلك المكاواة رغم انهما في مقام الأخوين ولكنها الشقاوه.. مبارك لم يواصل دراسته لكنه التحق بالجيش ثم هاجر بعدها وفعل الشي نفسه طه والأخير تخصص فني برادة .مبارك في نظري من احرف محاوري كرة القدم في صباه ولو واصل في كرة القدم لكان له شان اخر اما طه صديقي طه فهو رياضي كذلك لكنه لم يكن بمستوى ابن خاله مبارك الذي كان يلقب ب (أبارو) وهو لقب اكيد يستحقه وبجداره.. الحياة في بري كانت في غاية البساطة ولم يكن هناك الكثير ما يشغل الناس مما سهل حبل التواصل بينهم وحيث ان يظهر امتداد البراري (امتداد ناصر لاحقاً) لم يظهر للوجود وقتها كل الأسر تتقاسم الحيشان شاهدت ذلك في بري فان كانت هناك مناسبة فالمدعو وغير المدعو تجده حاضراً خاصة عند سماع الميكرفون وهو يدوي بصوت احد المغنين .، كانت ايّام زاهية كما عشناها ونضر الله وجه اهل بري وزادهم بسطة في الرزق.. ونواصل مع حبي عثمان يوسف خليل المملكة المتحدة