التراجع عن قرار اغلاق القنصلية سليم، حتى السفارة في أبو ظبي كان يمكن الابقاء عليها    كيكل: حميدتي شارك في كل جرائم قواته، وغادر الخرطوم قبل أيام من سقوط جسر سوبا    بثلاثية الفيحاء.. الاتحاد يضع يدا على لقب الدوري السعودي    ((مبروك النجاح يانور))    التعادل.. آرسنال يخمد ثورة ليفربول في أنفيلد    إغلاق فرع جامعة السودان المفتوحة بالإمارات    صاحب أول حكم بإعدام رئيس مصري سابق.. وفاة قاضي محاكمات مبارك ومرسي    الهلال يضع اللمسات الأخيرة لمواجهة نواذيبو    من قال إن للهلال مشروعًا؟    توثيق ذاتي لمفقودي جرائم الدعم السريع بمخيم زمزم    البرهان يهنئ البابا ليو الرابع عشر بمناسبة انتخابه بابا للفاتيكان    غياب 3 أندية عن مجموعات التأهيلي    حاكم إقليم دارفور يهنئ القوات المسلحة والقوات المشتركة عقب معارك مدينتي الخوي وأم صميمة    تجهيزات الدفاع المدني في السودان تحتاج إلي مراجعة شاملة    السعودية: تدريبات جوية لمحاكاة ظروف الحرب الحديثة – صور    رونالدو يضع "شروطه" للبقاء مع النصر    شاهد بالفيديو.. بعد أن قدمت له الدعوة لحضور حفلها الجماهيري.. الفنانة هدى عربي تتفاعل مع أغنيات الفنان علي الشيخ بالرقص أعلى المسرح    بعد أن تصدرت "الترند" وأنهالت عليها الإشادات.. تعرف على الأسباب التي دفعت الفنانة فهيمة عبد الله لتقديم التهنئة والمباركة لزوجها بعد خطوبته ورغبته في الزواج مرة أخرى    "نسرين" عجاج تهاجم شقيقتها الفنانة "نانسي": (الوالد تبرأ منك عام 2000 وأنتي بالتحديد بنت الكيزان وكانوا بفتحوا ليك التلفزيون تغني فيه من غير "طرحة" دوناً عن غيرك وتتذكري حفلة راس السنة 2018 في بورتسودان؟)    ترامب: الهند وباكستان وافقتا على وقف النار بعد وساطة أميركية    الطاقة تبلِّغ جوبا بإغلاق وشيك لخط أنابيب النفط لهجمات الدعم السريع    محمد وداعة يكتب: التشويش الالكترونى .. فرضية العدوان البحرى    على خلفية التصريحات المثيرة لإبنته الفنانة نانسي.. أسرة الراحل بدر الدين عجاج تصدر بيان عاجل وقوي: (مابيهمنا ميولك السياسي والوالد ضفره بيك وبالعقالات المعاك ونطالب بحق والدنا من كل من تطاول عليه)    شاهد بالفيديو.. من عجائب "الدعامة".. قاموا باستجلاب سلم طائرة ووضعوه بأحد الشوارع بحي الأزهري بالخرطوم    إتحاد كرة القدم المصري يدرس دعوة فريق سوداني للدوري المصري في الموسم الجديد    بمشاركة زعماء العالم… عرض عسكري مهيب بمناسبة الذكرى ال80 للنصر على النازية    أصلا نانسي ما فنانة بقدر ماهي مجرد موديل ضل طريقه لمسارح الغناء    عادل الباز يكتب: النفط والكهرباء.. مقابل الاستسلام (1)    خدعة واتساب الجديدة لسرقة أموال المستخدمين    عبر تطبيق البلاغ الالكتروني مباحث شرطة ولاية الخرطوم تسترد سيارتين مدون بشانهما بلاغات وتوقيف 5 متهمين    شاهد بالفيديو.. بعد غياب دام أكثر من عامين.. الميناء البري بالخرطوم يستقبل عدد من الرحلات السفرية و"البصات" تتوالى    بيان توضيحي من مجلس إدارة بنك الخرطوم    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأمّل في معنى القصيد: الحلقة الثالثة والعشرون .. بقلم: د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
نشر في سودانيل يوم 07 - 02 - 2018


بسم الله الرحمن الرحيم

حارِمني من النوم خبارَكْ؟ ...... نضال حسن الحاج
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الحسن الذاتي والحسن الطارئ:
أَهُو دي البنيَّة الفجَّتكْ..
فتحت يقينْ الرَّيدةْ ضَوْ
مَرقَتْ تكفِّتْ لُجَّتكْ..
وادَّتْ صباحاتك طَعمْ شمسينْ..
وبالشُّوقْ حَجَّتكْ..
فَتَحَتْ دواخلكْ للفَرحْ..
بَكْمَا.. وحُرُوفَا اتهجَّتكْ..
وأهُو دي البنية الفجَّتكْ..
القصائد تنطبق عليها قيم الجمال كما تنطبق على الموجودات الأخرى، فمنها قصيد ذاتيُّ الحسن في أصله مبني ومعني، وقصيد يحتاج لفعل الزينة مثل الفتيات، وشعر نضال حسن الحاج أصيل ذائع الجمال، منتشر الضوء، ضائع العبير، رقيق الحواشي، ولطيف المعاني في مشاهده وصوره التي تعكس قدرة فائقة على التخييل.
والقصيدة تمثِّل قصة متكاملة الأركان فيها الأحداث التي تدور حولها الشخصيات وأيضاً بالأشخاص الذين تدور حولهم الأحداث فتبدأ بالحدث وذلك بإعلان واثق للغازية التي تعتزُّ بفتحها المبين وتُبيِّن وجودها المجيد في أرض المعشوق وهو قلبه، بل وتفتخر بما أدَّي إليه هذا الفتح الذي خلخل ظلمات حياته المقفرة من الحب وغرس فيها من يقين ضوء المحبَّة الواثق. واليقين قرين الثبات كما الضوء، والفجُّ قرين الزلزلة فانظر إلى هذه المفارقة العجيبة التي تبدأ بزلزلة لتفتح باب الثبات.
ونري توضيحاً متأخِّراً لكيفية هذا الفتح المبين: مرقت تكفِّتْ لُجَّتكْ، والمروق هو الخروج، فهذه الفارسة الواثقة خرجت كالسهم يعرف هدفه ولا يخطئه وهو شقَّ اللجَّة؛ والتي هي الماء الكثير الذي تصطخب أمواجُه، واللجة مرتبطة بالظلمة أو السواد: "‫أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ‬ ٌّ".‬
وهي خرجت مشرعة ذراعاً كالرمح رأسه الكف لتقوم بالتكفيت. وكفت في اللغة: تقلَّب ظهرًا لبطن وبطنًا لظهر. هذا المشهد جزء من وعي الديانات الإبراهيمية وهو شقَّ البحر بعصا موسى بقدرة الله، وهو ظهور بطن البحر بانقلاب ظهره كأنَّ العصا كفتت وجهه ذات اليمين وذات الشمال. والعمل المُعجز كانت فيه زلزلة عظيمة وكانت نتيجتها فتح طريق مُبين ثابت طرقه الضوء لأوَّل مرَّة وطرقه بنو إسرائيل لبدء حياة جديدة فيها نور الهداية والحرية والملك.
ولا أظنَّ أنَّ استخدام كلمة اليقين في سياق هذه القصيدة كان تلقائياً وإنَّما عن معرفة: فتحت يقينْ الرَّيدةْ ضَوْ
فسيدنا موسى تحدَّث لبني إسرائيل، الذين ظنَّوا أنَّهم مُدركون، بيقين المؤمن العارف بقدرة ربِّه:
"قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ"
وفي إجابة سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنه على سؤال قيصر الروم عن بقعة طلعت عليها الشمس مرَّة لم تطلع عليها قبلها ولا بعدها؟ قال: هو البحر حيث انفلق لبني إسرائيل.
ولهذا فلم يكن غريباً أن تُلحق نضال حسن الحاج مشهد الشمس فتقول: وادَّتْ صباحاتك طَعمْ شمسينْ..
ويجب ألا نغفل عن التهديد المُبطَّن بانطباق طودي البحر عليه في حالة مقاومة حبَّها كما انطبقا على فرعون، لعنه الله، لمقاومته الإيمان، فهي تفتح له طريقاً للحياة وتُخفي جانب الحياة الآخر وهو الموت والحصيف هو الذي يعرف قدرة الفاعل ويدرك أنَّ انبثاق الحياة وجه واحد لدورتها سرعان ما يبهت ويظهر الوجه الآخر.
فهي توافق مشهد انفلاق البحر في سياق المكان، كانفلاق الليل بالضوء وانبلاج الصباح ببزوغ الشمس، ولكنَّها تفارقه في سياق الزمان فتوضِّح أنَّ فعلها مُستمرٌّ وليس منقطعاً فطعم الشمسين لأكثر من صباح حتى أنَّنا لا نعرف عددها ونعرف أنَّها من كثرتها احتاجت لشمسين أو أنَّها من كرمها أعطته ضوء شمس الحياة ودفء شمس الشوق فأفحمته كما أفحم سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام النمرود بحجَّة الشمس.
ولا يهمّ إن كان هذا القلب الذي خضع للغزو واستسلم قُدَّ من صخر أو من ماء فهما متلازمان منذ الأبد فإن شققت الصخر ظهر الماء وإن شققت الماء ظهر الصخر:
" وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ "‬
وتواصل نضال حسن الحاج تفصيلها لما فعلته ونعرف منها أنَّ عملية الفجّ كانت بغرض الفتح وهذا الفتح كان بغرض إضاءة الداخل الصلد بشمسي الحبِّ الثابت لتزيل تعاسة عصيَّة عميقة الجذور وبكماء لا تعرف حروف السعادة، لتغرس بدلاً عنها فرحاً مُغرِّداً ومُغنيَّاً مُظهرة مفارقة أخرى شيِّقة وهي تلازم البكم مع القدرة على تهجِّي الحروف ويظهر بُعداً سحريَّاً لا يوجد في حياتنا.
وتهجِّي الحروف يعني المقدرة على القراءة والكتابة والشيخ الشعرواى رضي الله عنه يشرح هذا الفرق فيقول:
"الحروف لها أسماء ولها مسميات.. فالناس حين يتكلمون ينطقون بمسمى الحرف وليس باسمه.. فعندما تقول كتب تنطق بمسميات الحروف. فإذا أردت أن تنطق بأسمائها تقول كاف وتاء وباء.. ولا يمكن أن ينطق بأسماء الحروف إلا من تعلم ودرس، أما ذلك الذي لم يتعلم فقد ينطق بمسميات الحروف ولكنه لا ينطق بأسمائها".
والمفارقة المُعجزة في نبوَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي إثبات أمِّيته ولكن قراءته للقرآن الكريم بأسماء الحروف مثل: ألف لام ميم في أوَّل سورة البقرة وغيرها من السور، وفي القصيدة إثبات حالة البكم مع القدرة على تهجِّي الكلمات بأسماء الحروف. وهذه المفارقات لها تاريخ في الشعر العربي فهذا أبو العلاء المعرِّي يقول:
" إذا كان رُعبي يورثُ الأمنَ، فهو لي أسَرُّ من الأمنِ، الذي يورث الرّعبا".
وهذا شارل بودلير يقول في مشهد مماثل لمشهد الفجّ في قصيدة نضال حسن الحاج:
" سأمدُّ يدي القوية الهشَّة إلى قلبه
وأظافري الشبيهة ببراثن الجوارح
تستطيع أن تمهِّد الطريق إليه
وكالعصفور المرتعش سأقتلع هذا القلب المُدمَّي
وألقيه أرضاً باحتقار لأشبع في داخلي وحشي المفضل
لكنّ ملاكاً خفياً يبسط حمايته على الولد المحروم
فيسكر بالضياء"
فهو يستخدم المفارقات مثل "يدي القويَّة الهشَّة"، ولكن أفعاله عنيفة ودموية وانتقامية وإن كانت تنتهي بنفس النتيجة وهي بثَّ الضياء.
وينتهي المقطع الأوَّل في قصيدة نضال حسن الحاج بطريقة دائريَّة بتأكيد هُويَّة من قام بهذا العمل وهي على تصغيرها لنفسها "بنيَّة" فذات فعالية لا حدود لها مثل عصا سيدنا موسى عليه السلام لا يبدو من مظهرها أنَّها تأتي بالمعجزات.
وتحضرني قصيدة للشاعر جمال حسن سعيد:
"زولة تفتح الروح ضلفتين
تخشك وتمرقك
عادي ما بتقفل الباب بي وراها"
وعلى طرافتها وجديد مشاهدها فهي لا تصل إلى عُمق الصور الإبداعيَّة لقصيدة نضال حسن الحاج والتي تتوالد بصورة مُتجدِّدة، فتارة نري جبلاً أصمّ لا يُعرف له طريق ولا مدخل يقف عائقاً يصدُّ كلّ احتمالات اقتحامه أو اختراقه، ومرَّة أخرى نري لُجَّة عميقة مترامية الأطراف تضنُّ بكلامها لا تعرف الشموس لها سبيلاً فهي ظلمات في ظلمات ونجد وسط كلِّ هذا همَّة مصمِّمة للشاعرة لا تفتر تقتحم وتزلزل وتشقّ حاملة لواء المحبَّة، ودفء الشوق، وضحكات الفرح، وانطلاق البيان.
المحاسَّة Synesthesia:
المحاسَّة هي حالة عصبية حيث واحد أو أكثر من الطرائق الحسية؛ وهي السمع والبصر والشم والتذوق واللمس، تصبح مرتبطة. وقد استخدم المصطلح أيضا للإشارة إلى الأجهزة الفنية والشعرية التي تحاول التعبير عن وجود صلة بين الحواس.
فمثلاً بدلاً من أن يشمّ الشخص فإنه يري ألواناً أو يسمع شيئاً فيراه أشكالاً، أو يري شيئاً فتنشط عنده حاسة التذوُّق، وقد توصَّل إسحق نيوتن إلى أنَّ بعض النغمات الموسيقية لها نفس الذبذبات لبعض الألوان ممَّا يعني أنَّ الحواس مترابطة أكثر ممَّا يعرف الناس.
وحديثاً قد اكتشفوا في مجال الفيزياء الحيوي أنَّ حاسَّة الشمِّ تعمل مثل حاسَّة السمع تماماً إذ أنَّ الأعصاب في الأنف تنقل الذبذبات العصبية للرائحة المُحفِّزة مثلما تفعل الأذن وليس للتفاعل الكيميائي دور في حاسة الشم وهذا يوضح لماذا لم يذكر المولي عزَّ وجل حاسة الشم وذكر السمع والبصر.
والصور الحسيَّة في أي وصف يشمل واحداً من أدوات الحواس الخمسة والشاعرة المتمكِّنة يكون شعرها غنيَّاً بالمشاهد التي فيها تفاصيل حسيَّة تجعل الصور حيَّة في خيال القارئ. والشاعرة عندما تستخدم ألفاظاً فإنَّما تدلُّ على معني واقعي أو مجازي فهي عندما تقول:
أَهُو دي البنيَّة الفجَّتكْ..
فبداية القصيدة:
أَهُو دي البنيَّة، تشير إلى معني واقعي إذ أنَّها تتكلَّم عن نفسها، ولكن كلمة (الفجَّتك) فهو فعل مجازي وليس حقيقيَّاً فلا نري هذا المحبوب به فجٌّ في صدره ولكنَّنا قد نستنتج فجَّاً عاطفيَّاً أو روحيَّاً. والدلالة في المعني هو الإرشاد للمعني الخفي أو الإبانة ليتمَّ الفهم والإفهام، وهي كما يقول أهل المنطق: أن يكون الشيء بحالة يلزم من العلم بها العلم بشيء آخر.
والدلالة لفظيَّة أو صناعيَّة أو معنويَّة وأثبتها اللفظية وأقواها الصناعية وأضعفها المعنوية. فاللفظ هو لبنة الكلام والكلام منظوم أو منثور، والشاعرة تبني شعرها من الألفاظ أي تصنعه مثلما بُنِيت الأهرامات فلو نظرنا إليها لوجدناها لا تساوي أكثر من تجمُّعٍ للأحجار ولكن طريقة البناء هي ما تميزها عن غيرها من المباني وفي ذلك معجزة تكوينها الذي يوحي أنَّ الذي بناها أشادها لينقل لنا معني مُعيَّن وكلَّما درسناها وتأملنا فيها نجد أسراراً أكثر ومعاني خفيَّة. إذن فصناعة الشعر هي ما يفرِّق شاعر عن شاعر آخر ويدخل في ذلك اختيار ألفاظ بعينها وسبكها بطريقة خاصَّة بها من التشبيهات والاستعارات والصفات ما تنقل بها صور ذهنيَّة للشاعر لذهن القارئ أو المستمع تستخدم الحواس الخمسة.
وفي هذا يقول الدكتور محمد حسن جبل مُعرِّفاً المعني: هو الصورة الذهنية التي وُضع اللفظ بإزائها. والإمام الرازي رضي الله عنه يقول إنَّ أساس اللغة هو التواصل بين الناس، ولذلك كانت الألفاظ موضوعة إما للتعبير عن الصور الذهنية للأشياء الموجودة في العالم الخارجي، أو لغير ذلك من المقاصد التي يريد المتكلم أن يعبر عنها وليس لها صورة في العالم الخارجي مثل الجوع والعطش، وعالم اللغة السويسري فيردناند دي سوسير لم يزد كثيراً عن تعريف الإمام الرازي في تعريفه:
"الإشارة اللغوية (الألفاظ) تربط بين الفكرة (الصورة الذهنية) والصورة الصوتية (أي صور الأشياء المختزنة في الذهن) وليس بين الشيء (أي الماهيات الخارجية والتسمية).
والإنسان يستنتج من مبني القصيد معناه المكنون في اللفظ ويشمل التفسير والاستنباط والاستقراء وهو الغرض من كتابة هذه المقالات.
ومعظم الشعر يحتوي على صور حسيَّة ولكن الشعر الغني بالصور الحسيَّة والمتمركز حولها أكثر ثراء. والمتنبي مثلاً يقول:
"غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ
فسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الحَرّ عني وَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَاني
وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَانِ
لهَا ثَمَرٌ تُشِيرُ إلَيْكَ مِنْهُ بأشْرِبَةٍ وَقَفْنَ بِلا أوَانِ
وَأمْوَاهٌ تَصِلّ بهَا حَصَاهَا صَليلَ الحَلْيِ في أيدي الغَوَاني"
فمشهد هذه القصيدة ملئ بالصور الحسيَّة من بصرية وسمعية واللمسية وبالتشبيه والاستعارات وأيضاً الأفعال وتفاعل كل هذه الصفات تخلق هذا الشعر العظيم.
ولكن في زمان المتنبي لم تكن الحياة من التعقيد لتُعجز الشاعر عن التعبير باستخدام الحواس في سياقها المعهود فالشاعر مثلاً عندما يصف أو يتكلَّم عن مشهد بصري فهو يستخدم حاسة البصر فقط مثل قول المتنبي وهو يصف ضوء الشمس الذي يتخلَّل أغصان الأشجار ويقع على ثيابه بالدنانير الصفراء المتلاشية: وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَان.
ِ
ومع ظهور العصر الصناعي طغت الصور المركَّبة والمعقَّدة حتى حدث ما يُعرف بالحسِّ الزائد أو الطاغي بحيث لا تكفي الكلمات للوصف عند حالة الإحساس العميقة أو الطاغية وهو ما عناه الصوفي النِفَّري:
" كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" وقد عبَّر أمير الشعراء أحمد شوقي عن هذه اللحظة الشعوريَّة فقال:
‫وتعطَّلَتْ لغةُ الكلامِ وخاطبَتْ عَيْنَيَّ فِي لُغَة الهَوى عيناكِ‬‬
والطريف أنَّه نقل لنا هذا المشهد بصورته المُعبِّرة باستخدام لغة الكلام إذ لا مهرب من ذلك وفي ذلك مفارقة جدُّ لطيفة.
وآرثر رامبو له قصيدة تنقل موقفاً مشابهاً:
"يا لحلم الطفلة العفوية
تمتزجين به كما الثلج بالنار
فيخونك الكلام أمام الخيال الواسع"
وقد كان لهذا التعقيد أثره في الفنون التي ظهرت وتمرَّدت على الأنماط القديمة ومنها الشعر وظهر شارل بودلير وآرثر رامبو ولنسمع بعض شعر رامبو الذي يستخدم المحاسَّة:
"هناك حيث تخضب فجأة الزرقات، هذيانات
وإيقاعات وئيدة تحت نظارات النهار الساطعة
أقوي من الكحول، أشسع من قيثاراتنا
تخمر صهبات الحب المريرة"
فهنا مشهد بصري ينقل تجربة حسيَّة بصرية (هناك حيث تخضب فجأة الزرقات) ينقلب إلى مشهد سمعي ينقل تجربة سمعية (هذيانات وإيقاعات وئيدة) تنقلب مرَّة أخرى لتجربة بصريَّة (تحت نظارات النهار الساطعة) وشميَّة وتذوُّقيَّة (أقوي من الكحول) وبصريَّة وسمعيَّة في ذات الوقت (أشسع من قيثاراتنا).
وأمثلة استخدام المحاسَّة في شعر نضال حسن الحاج كثيرة وأوَّل مثال هو:
"وادَّتْ صباحاتك طَعمْ شمسينْ.."
فالشمس قد تعطي الضوء أو الدفء ولكنَّها لا تعطي طعماً ولكن حاسة الاستطعام في هذه الحالة أبلغ مثل استطعام البرتقالة وهو استخدام خدم الغرض في إظهار قوَّة تأثير الفعل أو الحدث ويلفت الانتباه. ونتيجة هذا الإحساس الطاغي تعطي نضال حسن الحاج طعم شمسين لا شمس واحدة.
وسنواصل إن أذن الله تعالي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.