مدير الإدارة العامة للمرور يوجه باستمرار تفويج البصات السفرية يومياً للحد من الحوادث المرورية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رَدُّ التَحيَّة بأَحْسَن منْهَا! .... بقلم: كمال الجزولي
نشر في سودانيل يوم 02 - 02 - 2010

تحت عنوان "بالألوان الطبيعيَّة بين كمال الجزولي والشَّيخ القرضاوي" عقب الأستاذ خالد موسى دفع الله (الأحداث، 26/1/10) على ما كنت كتبت في الرُّزنامة قبل الماضية (الأخبار، 11/1/10)، ردَّاً على مقالته الأولى التي كان نشرها بعنوان "الجلاد والضحية في تاريخ أحمد سليمان المحامي" (الأحداث، 23/11/09). وقد دارت مقالته الأولى تلك، وردّي عليها، كلاهما، حول حقيقة (مقصدي) من المبحث الذي كنت افترعته، أصلاً، لمحاولة الوقوف على حقيقة وحدود الدور الذي لعبه المرحوم الأستاذ أحمد سليمان في انقلاب يونيو 1989م. فبينما لم يجد الأستاذ خالد تفسيراً لهذا (المقصد) سوى أنه "ليس نابعاً من إحساس عميق بالتوثيق التاريخي"، وإنما يصبُّ، فقط، في دائرة "تكريس الصورة النمطيَّة التي (صنعها!) اليسار للرَّاحل المقيم بأنه انقلابي وانتهازي"، مستنتجاً من ذلك رغبتي، فحسب، في "تصفية حسابات مع الموتى!"، رددت عليه، في تلك الرُّزنامة، بأن "تأويل (المقاصد) تقدير ذاتي في (السّياسة) يخصُّ صاحبه وحده، ولا رغبة لي في مجادلته حوله، ففي الناس من الفطانة ما يكفي .. ويزيد! أما اتهامه لي بأنني لم أكتب ما كتبت إلا (بعد) رحيل السَّيّد أحمد، عليه رحمة الله، من باب (تصفية الحساب مع ميّت!)، فذاك طعن خشن في (الأخلاق!) يدحضه ما كنت كتبت في رزنامة 21/9/1999م، بجريدة الصحافة، أي قبل أكثر من عشر سنوات، والمرحوم، وقتها، حي يرزق، وفي أتمّ صحَّته وعافيته"؛ ومن ثمَّ اكتفيت بإيراد نصّ تلك الرُّزنامة القديمة، لا لشئ إلا لكي أغسل عني، ابتداءً، وقبل أيّ شئ آخر، تلك السُّبة (الأخلاقيَّة) اللبيكة التي حاولت مقالة الأستاذ خالد الأولى إلصاقها بي.
بعبارة أخرى، وبما أن الصّراع الفكري، واختلاف المناهج، وزوايا التحليل، ووجهات النظر، كلها أمور ملحوقة، ومقدور عليها في أيّ وقت، إن قضت الضرورة بذلك، فإن أهمَّ ما أهمَّني، في مقالة الأستاذ خالد الأولى، هو اتهامه (الأخلاقي!) لمحاولتي تحقيق دور المرحوم في الانقلاب بأنه محض سعي ل "تصفية حساب مع ميّت!"، وهو اتهام، لو علم الكاتب، عظيم! بل لو كان صحَّ لكنت استحققت عليه لعنة الأوّلين والآخرين! ولأن ذلك كذلك كان من الطبيعي أن أسارع إلى البحث عمَّا يفحم، دحضاً لذلك الاتهام، حتى عثرت عليه في تلك الرُّزنامة القديمة، رغم أن البحث كبَّدني جهداً ووقتاً عزيزين في أضابير دار الوثائق القوميَّة، فالحمد والشكر لها، من بعد الله، وللقائمين على محفوظاتها، تصنيفاً، وترتيباً، وتنظيماً، إذ بدون ذلك لكان الأمر شقَّ عليَّ، بل لربَّما تعسَّرت مهمَّتي تماماً!
(2)
لهذا كله، وبرغم الإطراء المهذب الذي أسبغه الأستاذ خالد، مشكوراً، على كتاباتي بوجه عام، في تعقيبه على ردّي، فقد حيَّرني احتجاجه على ما أسماه (انتقائي!) ل (بعض) ما ساقه من أنني ما كتبت الذي كتبت إلا بعد وفاة المرحوم، مثلما أدهشتني نبرة (التهوين) من شأن ذلك (الاتهام الخشن)، فلكأنه، في شرعته، أمر يسير ما كان يستحق مني مثقال ذرة من الجهد، أو قلامة ظفر من العناء، حيث وصف (اتهامه) لي بأنني لم أهدف إلا ل (تصفية الحساب مع ميّت!) بأنها محض عبارة (مجازيَّة عابرة!) ما كان لي أن أحمّلها (ظلال المعاني!)، أو (أبتسر!) بها الجدل القائم، دون أن ينتبه إلى أنه يناقض نفسه بنفسه حين يقول عن نفس العبارة، في موضع آخر من تعقيبه، وبالحرف الواحد: "صككتها لتقرير حال المقال بأنه تصفية حسابات مع الموتي" .. فتأمَّل!
والأكثر إدهاشاً أنه، بعد كلّ ذلك، يعزو تركيز اهتمامي على هذه (التهمة)، في ردّي عليه، إلى ما يعتبره (ملكة محاماة وبراعة قانونيَّة!) يراها متوفرة لديَّ (!) وتلك، للأسف، ذريعة أضحى يكثر اللواذ بها عند بعض مثقفينا من غير القانونيين، لدى أوَّل بادرة تهرُّؤ في قماشة منطقهم، في سياق أيّ حجاج مع طرف من القانونيين، كتابة أو شفاهة، ولو حول (قصيدة النثر!)؛ والمعنى التبريري لوهن الحُجَّة واضح، بطبيعة الحال، في هذه الذريعة، غالب عليها. فالمسألة ليست قائمة، أصلاً، على (منطق القوانين)، بل على (قوانين المنطق)! ولو أنها كانت قائمة على الأولى لما جاز أن تذكر لنا فيها (ملكة)، أو يُشهد لنا فيها ب (براعة)، مقارنة بالمرحوم الأستاذ أحمد سليمان، سبطها الذي لا يُبارى، وفارسها الذي لا يُجارى، لولا أن من يقال له: سمين، يقول: آمين!
لكن الأستاذ خالد عمد، من بعد ذلك، إلى ما أسماه (تحرير الخلاف) بيننا، قائلاً، تارة، إنه ليس حول (مقاصدي) و(نواياي) ل (تصفية الحساب مع ميّت!)، وإنما حول (دور الفرد) في التغيير، قبل أن يعود، تارة أخرى، ليقرّر أن مناط (الخلاف)، في حقيقته، هو (غرضي) و(نزوعي) الرَّاميين إلى (تجريم) المرحوم سياسيَّاً .. فتأمَّل هذه أيضاً، إذ لو لم تكن دلالة (المقصد) و(النيَّة) هي ذات دلالة (الغرض) و(النزوع)، فما تكون إذن؟!
(3)
(تحرير الخلاف) مقتضى يُقتضى بعد وقوع (الخلاف) نفسه، لا قبله. و(الخلاف) لا يقع، ابتداءً، بقول أحد من الناس، وإنما لا بُدَّ من أن يردَّ طرف آخر بشئ، فإما يوافق أو يخالف القول الأوَّل، فإذا وافقه ما دخل الدار شرٌّ؛ أما إذا خالفه فيلزم، عندئذ، (تحرير) هذا (الخلاف) في حدود ما وقع منه، فقط!
والأستاذ خالد رماني، ابتداءً، بالإعلاء من شأن (دور الفرد) في التاريخ. ولو أنه وقف عند حدّ بيان هذا الإعلاء، وحيثيَّات تمظهراته ضمن ما كتبت، ومحاكمته فكريَّاً كما ينبغي، وبيان خلله وخطله، لاستوجب التعاطي معه، منذ البداية، من منطلق الرَّغبة والجدّيّة اللازمتين. لكنه، بدلاً من ذلك، حاول، للأسف، أن يقدّم تفسيراً (جنائيَّاً) لما عساه يكون دافعي لهذا الموقف، في حالة المرحوم، فلم يبلغ أبعد من محاكمة (النوايا)، كأعتى ما تكون (محكمة تفتيش)، و(اتهامي) ب (الغرض)، و(المقصد)، و(النزوع) إلى (تجريم) المرحوم سياسيَّاً، رغبة مني في (تكريس) الصورة النمطيَّة التي (صنعها!) اليسار للرَّاحل المقيم بأنه انقلابي وانتهازي، مستخلصاً من ذلك، في النهاية، ما أسماه (رغبتي) في (تصفية الحساب مع ميّت)! ويقيناً لو كنت اتبعت ذات منهجه ومنطقه في مثل هذا النموذج من (المحاكمات) القروسطيَّة، لكنت قلت، لا ألوي على شئ، في ردّي عليه، إنه وضع هذه الاستنتاج، مسبقاً، ثمَّ عكف على (اصطناع) مقدّمة (فكريَّة!) له!
سوى أنني، والحمد لله، كبحت جماح النفس، ونأيت بها عن ذلك. لكنني لم أجد فيها، على قدر ما التمست، وقتها، دافعاً، البتة، للخوض في مناقشة ما أثاره حول (دور الفرد) في التاريخ، لسببين مترابطين، أوَّلهما أن كلمته وشت، بما لا يخفى على أعجل نظر، بمسألتها الأساسيَّة، وهي بالفعل، وحسب ما أقرَّ بنفسه في تعقيبه لاحقاً، المسألة المتعلقة ب (مقصدي)، كما يراه هو (جنائيَّاً)، من تحقيق دور المرحوم في الانقلاب، الأمر الذي سدَّ النفس تماماً، وأوصد كلَّ باب محتمل لمواصلة النقاش؛ أما السَّبب الآخر فهو يقيني، وهذا ما قلته حرفيَّاً في ردّي، ووافقني عليه هو في تعقيبه، بأن "تأويل (المقاصد) تقدير ذاتي في (السّياسة) يخصُّ صاحبه وحده، ولا رغبة لي في مجادلته حوله، ففي الناس من الفطانة ما يكفي .. ويزيد"!
هكذا اكتفيت، وكفى الله المؤمنين القتال، بدحض الجانب من حديثه المحتوي على (اتهامي)، أخلاقيَّاً، بأنني ما كتبت الذي كتبت إلا بعد وفاة المرحوم، رغبة في (تصفية الحساب مع ميّت!) .. وما أبشعه وأغلظه وأخشنه من اتهام، رغم تهوينه له!
وإذن، وبما أن ردّي، لا ما كتب الأستاذ خالد ابتداءً، هو القمين بتحديد موضع (الخلاف) بيننا، إن وُجد، ومن ثمَّ وجهة (تحريره)، فإن ما أفصح عنه ذلك الردُّ من خلاف محتمل قد انصبَّ، في الواقع، فحسب، على (الاتهام الأخلاقي) المشار إليه، إقامة من جانب الأستاذ خالد، ودحضاً من جانبي.
لكن الأستاذ خالد، بعدما تبيَّن له أنني لم أتناول مواقف المرحوم، لأوَّل مرَّة، بعد رحيله، كما كان اتهمني، ما لبث أن رجع، في تعقيبه المذكور، رجوعاً محموداً، إلى الحقّ، قائلاً: "لا يمكن أن أغمط الأستاذ كمال الجزولي شكيمته الأدبيَّة، والسّياسيَّة، في نقده وحجاجه للرجل وهو علي قيد الحياة".
الحمد لله، ها قد جاءت براءتي، لا ممَّا أوردت من الأرشيف وحده، وإنما من هذا الاعتذار المستقيم أيضاً.
أما قبل ذلك التعقيب فقد كنت عزمت على عدم مواصلة النقاش الذي لم تعد فيه، بالنسبة لي، وبحسب ردّي المحدود نفسه، مسألة (خلافيَّة) تستلزم هذه المواصلة. وبالحقّ، هل يترك لك من يطعن في أفكارك من زاوية (أخلاقيَّة) سبيلاً لمحاورته من زاوية (موضوعيَّة)؟! وأيُّ طعن؟! إن (تصفية الحساب مع ميّت!) تهمة وقائعيَّة لا يمكن أن يكتمل تفنيدها أو دحضها بمجرَّد الحجاج النظري، وإنما لا بُدَّ من إيراد واقعة محدَّدة تثبت مواجهتك للمرحوم، أوان حياته، وفي حال تمام قدرته على الرَّدّ عليك! وللقارئ أن يتصوَّر، لإدراك مدى فداحة ذلك، كيف كان من الممكن أن يكون الحال في ما لو كنت عجزت عن العثور على تلك الرزنامة القديمة، ولم يعُد أمامي سوى الاعتماد على الذواكر الخربة وحدها!
لقد طعن الأستاذ خالد، بالفعل، (أخلاقيَّاً)، في (مقاصد) تناولي لدور المرحوم في انقلاب الإنقاذ. وهو طعن لا يخفف تهوين الأستاذ خالد شيئاً من أثره وخطره على من كان كاتباً مداوماً، كحالي، لا يملك أغلى من صدقيَّته في نظر قرَّائه. وبعد أن وفقني الله في الرَّد المفحم عليه، ولا ريب، من واقع الأرشيف، وليس ممَّا هو أقلُّ من ذلك، بما يدحض، دحضاً تامَّاً، وجهة طعنه الشَّائن ذاك، اعتبرت الأمر منتهياً، عند هذا الحدّ، أو هكذا يُفترض، فلا (تحرير خلاف)، ولا يحزنون! وتلك، على أيَّة حال، هي طبيعة الأشياء كما أراها!
(4)
غير أنني أفارق الحقيقة، فراق الطريفي لجمله، إن اكتفيت بعلامة التعجُّب في نهاية السَّطر السابق، ولم أسارع إلى القول بأن الأمر، هذه المرَّة، لم يعُد، بالنسبة لي، كذلك، لكون الأستاذ خالد قد نحى، في تعقيبه المذكور، منحى مختلفاً إلى حدّ كبير، وأماط عن طريق (موضوعيَّة) هذا النقاش أذى اتهامه (الأخلاقي) ذاك، مضمّناً تعقيبه هذا الاعتذار المقبول بدرجة تسمح بمواصلة النقاش، بل وتطويره، إن حدث وقدّر له أن يستقرَّ على هذه المحجَّة الموضوعيَّة، ولو بالحدّ الأدنى من الاستقرار. وتلك، لعمري، تحيَّة يجدر ردُّها بمثلها، أو بأحسن منها!
صحيح أن الأستاذ خالد استخدم، حتى في تعقيبه المذكور، عبارات قاسية، من شاكلة (نزعة التجريم السياسي!)، وما إليها في قاموس (محاكم التفتيش) التي ما تنفكُّ تنصبها صحافة الإسلامويين لمخالفيهم في الرأي والمنهج! غير أنها، مع ذلك، تندرج، أجمعها، ضمن المقدور على تفنيده بسهولة، ودحضه في يسر. ومهما يكن من أمر فأعتقد أنني رددت، أعلاه، بالفعل، على ما ساق من سنخ هذا في تعقيبه، و"عدنا خالصين"، على قول صديقي الشاعر محمد المكي إبراهيم، ذكره الله بالخير.
هكذا أصبح من الممكن، الآن، أن ننتقل، مباشرة، لمناقشة الكاتب المحترم في ما كنا أحجمنا، من قبل، عن مناقشته فيه، وهو المنهج الذي عالج به مسألة (دور الفرد في التاريخ).
(5)
من مجمل ما ساق الأستاذ خالد، حتى الآن، في معرض احتجاجه على مسعانا لتحقيق دور المرحوم أحمد سليمان في انقلاب الإنقاذ، يمكننا تلخيص طرحه في حُجَّتين أساسيَّتين: نظريَّة ووقائعيَّة. فأما حُجَّته النظريَّة فمؤسَّسة على النفي (القاطع البات) ل (أيَّة قيمة) ل (دور الفرد) في التغيير، حيث أن هذا، من زاوية نظره، "منهج بائس في البحث التاريخي، لأنه يركز علي دور الأفراد في صنع التغيير (لأغراض التجريم السياسي!)، متناسيا الظروف التي أنتجت هذا التغيير .. (و) ليس من الحصافة في حفريَّات المنهج التاريخي البحث عن أدوار الأفراد في الأحداث الكبيرة (بافتراضات تجريمية!)، فالمنهج الموضوعي يتوخى البحث عن ظروف الصَّراع السّياسي، والاجتماعي، والطبقي، والمؤثرات الخارجيَّة، وتقديرات القوي المتصارعة لمسيرة ومآلات الأحداث"، أو كما قال.
وسط هذه التبسيطات الميكانيكيَّة لم يحفل الأستاذ خالد، إطلاقاً، رغم محاولته المحمودة لاستخدام المنهج الدياليكتيكي، بمنحى (التدقيق) الذي اتبعته في طرحي للمسألة منذ البداية، حيث أكدت، بل وأقر هو، بعظمة لسانه، بأنني أكدت علي أن اهتمامي بتحقيق دور المرحوم في الانقلاب "ليس من باب (المبالغة) في تقدير دور الفرد، ولكن من باب (عدم الإهدار المطلق) لهذا الدَّور"!
والواقع أن تقدير التمايز بين (دور الفرد) و(دور الجماهير) هو من صميم المسائل الأساسيَّة التي تقوم عليها نظريَّة العمليَّة التاريخيَّة. لكن، وبما أن لهذه النظريَّة نفسها تأسيسان متضادَّان: ماركسي وبرجوازي، فإن حلَّ مسائلهما الأساسيَّة يرد، بالتبعيَّة، من زاويتين متقابلتين. فعلى حين ترهن النظريَّة البرجوازيَّة، بشكل مطلق، مجمل حركة التاريخ ب (الدَّور) الذي يلعبه (الأفراد) من القادة والزعماء ومفكري ومثقفي الطبقات الاجتماعيَّة المختلفة، تفسّر الماركسيَّة هذه الحركة، مستخدمة قوانين الدياليكتيك وتطبيقاتها في حقل التاريخ، ب (الدَّور) الحاسم لنشاط الجماهير في مختلف مجالات الحياة الاقتصاديَّة السّياسيَّة، والاجتماعيَّة الثقافيَّة، وما إلى ذلك. فالجماهير، لا الزعامات، هي صانعة التاريخ، وإن كان ذلك في ظروف معيَّنة، وبأشراط محدَّدة.
ما من شكّ في أن الأستاذ خالد أبدى ميلاً واضحاً نحو استخدام هذا المنهج الماركسي السديد في تحديد الطاقة الحاسمة لتحريك التاريخ، وصنع التغيير، لولا أن دوغمائيَّة الفهم، وميكانيكيَّة المعالجة والتطبيق، أفسدتا عليه حسن الاستخدام. فالماركسيَّة، في الحقيقة، لا تنفي، نفياً عدميَّاً، (أيَّ دور) تأثيري، بالمطلق، ل (الأفراد)، من زعماء وقادة ومفكرين ومثقفين وغيرهم، في العمليَّة التاريخيَّة. إنها، فقط، تعقد لواء (الحسم) النهائي، فيها، والتأثير (الأكثر) فعاليَّة، بحراكات الجماهير الشعبيَّة. ولعلَّ أبرز ما تكون هذه المعادلة المعقدة ظهوراً في إطار الصّراع الطبقي المعاصر، حيث تستتبع حراكات الطبقات الكادحة، والعمَّاليَّة على وجه الخصوص، (أدواراً) محدَّدة لزعمائها وقادتها الحزبيين، ولمفكريها ومثقفيها الذين ينقلون إليها (الوعي الثوري) بمصالحها، وبالمهمَّات التاريخيَّة الشاخصة في أفق نضالاتها، وبأهميَّة أن تكتسب هذه النضالات عنصر الوعي بضرورة التنظيم، فلا تعود محض عمليَّات عفويَّة الطابع، في مقابل (الوعي الزائف) الذي ما ينفكُّ ينشره بين الجماهير زعماء وقادة ومفكرو ومثقفو الطبقات الاستغلاليَّة. وهنا، بالتحديد، تكمن أهمّيَّة التقدير والوزن الدَّقيقين للفرق المائز بين (دور الجماهير الحاسم)، وبين (دور الأفراد المؤثر)، في العمليَّة التاريخيَّة، وفي صنع التغيير، دون مغالاة أو إهدار.
واستطراداً، فإن مفهوم (الفرد) لا يمكن إدراكه، وفق هذا المنهج، بمعزل عن مفهوم (الشَّخصيَّة) الذي يدلُّ، فلسفيَّاً، على (الفرد) كذات للنشاط الاجتماعي، تتحدَّد بالظروف التاريخيَّة الملموسة لمجتمع ما، وخصائصه المائزة، ونمط حياته في إطار تشكيلة اقتصاديَّة اجتماعيَّة معيَّنة. هذا الارتباط الاجتماعي بين مفهومي (الفرد) و(الشَّخصيَّة) ظلَّ دائماً محلَّ إنكار الفلسفة المثاليَّة التي درجت على تصوير (الشخصيَّة) كمحض تمظهر لوعي الذات المجرَّد. أما المادّيَّة الميتافيزيقيَّة فتصوّرها كحصيلة سلبيَّة لمؤثرات خارجيَّة. لكن المادّيَّة التاريخيَّة وحدها هي التي تجاوزت هذا التناقض والتعارض في إدراك كنه الشَّخصيَّة بين (المادّي الموضوعي الاجتماعي)، من جهة، وبين (المثالي الذاتي الفردي) من جهة أخرى.
هكذا مكنت دراسة العلاقة بين (المجتمع) وبين (الفرد/الشَّخصيَّة) من إدراك (صيرورة) تشكل (الفرد) باعتبارها عمليَّة تاريخيَّة شديدة التعقيد، ووثيقة الارتباط بتقسيم العمل الاجتماعي، مثلما مكنت من إدراك تباين الأنماط المختلفة لمفهوم (الشَّخصيّة) الذي يتولد عن تباين التشكيلات الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة المختلفة، تبعاً لتباين منظومات (البواعث)، و(الدوافع)، و(القيم)، وغيرها. ولذا فإن ثمَّة ارتباط بين مكانة (الشخصيَّة) في المجتمع، وبين نشاطها الاجتماعي، وإن كان هذا الارتباط يمرُّ، دائماً، عبر أشكال مختلفة من وعي الذات.
(6)
أما أهمُّ حُجج الأستاذ خالد الوقائعيَّة فهي ثلاث، نوجزها ونردُّ عليها في ما يلي:
(1) يقول: إنه ما من مبرّر ل (الخوض) في علاقة المرحوم بانقلاب الإنقاذ، أو (انتقاء) الرّوايات لإثبات (تحريضه) عليه، إلا كون سيرة الرَّجل ملغومة بحساسيَّات تاريخيَّة، وشحنات عاطفيَّة، تولدت عنها نزعة (تجريميَّة!) تحمّله جزءاً من المسئوليَّة عن التصفيات التي حدثت لقيادة الحزب الشّيوعي عام 1971م.
وأقول: أنا لم أقل رأيي، بعد، ولم أنتق روايات، وإنما أوردت، وما زلت أبحث لأورد، إفادات شهود مختلفين بغرض مضاهاتها وفحصها، على أن تنطبق على مصادرها شروط الشّهادة في هذا المقام، من حيث مدى قربها من الحدث، وهذا هو معنى (التحقيق). لكن ليس ل (تحقيقنا) الرَّاهن في (دور) المرحوم في انقلاب يونيو 1989م أيَّة علاقة بأيّ (دور) له في تصفية القادة الشّيوعيين إبان أحداث 1971م، رغم تراكم شواهد وإفادات عديدة حول ذلك، فتانك مسألتان منفصلتان. وإن كانت ثمَّة فرضيَّة بأن الصّلة قائمة في كون المرحوم قد بدأ زحفه، منذ أحداث 1971م، نحو صفوف حركة الإسلام السياسي في بلادنا، باعتبارها العدوَّ التقليديَّ اللدود للشّيوعيين، فإن إثبات هكذا فرضيَّة، أو نفيها، يحتاج إلى مبحث آخر قائم بذاته.
(2) يقول: إن انقلاب الثلاثين من يونيو حدث تعترف به النخبة التي صنعته علي رؤوس الأشهاد، وبالتالي فإن البحث في دور الأستاذ أحمد فيه يعتبر نوعا من (التعسُّف) البحثي!
وأقول: إن كان الأستاذ خالد يرى أن اعتراف (النخبة الحاكمة) بمسئوليَّتها عن الانقلاب يغلق الباب، نهائيَّاً، أمام أيَّة محاولة أخرى لتحقيق أيّ (دور) أو (أدوار) أخرى، لأيَّة جهة أو جهات أخرى فيه، فلا نخالنا محتاجين إلى كثير إطناب لتوضيح خطأ هذا الاعتقاد، إذ يكفي، فقط، أن يعيد الأستاذ خالد النظر فيه، كرَّة أخرى، ليقرَّ، من تلقاء نفسه، بخطئه، دون جدال!
(3) يقول: إن الأستاذ المحبوب عبد السلام يؤكد، ضمن كتابه الصادر في بداية هذا العام، على أن المرحوم لم يكن من المجموعة التي أسند إليها تنفيذ الانقلاب، وأن فكرة الانقلاب نفسها لم تكن وليدة الفترة الديمقراطيَّة، ولكنها مستبطنة منذ أواخر العهد المايوي، أي قبل أن ينضم الرَّاحل إلي صفوف الإسلاميين.
وأقول: إن الأستاذ خالد هو الذي (ينتقي) الرّوايات، لا أنا! فإفادة الأستاذ المحبوب عبد السَّلام مقبولة، دون شكّ، من حيث كونها صادرة عن شخصيَّة لا شكَّ في اطلاعها على الوقائع. غير أن تلك هي أقصى قيمة لها في الوقت الراهن، إذ ينبغي أن تخضع للفحص والمضاهاة أيضاً، أي أن تخضع، هي الأخرى، ل (تحقيق) وزنها. كما وأن الشّهادة بأن المرحوم ليس من المجموعة التي أسند إليها تنفيذ الانقلاب لا تنفي، بالضرورة، أيَّ (دور) له فيه بالمرَّة!
(7)
نختم، في هذا المقام، بتصحيح وتدقيق أمرين مهمَّين، ما كان أزهدني في تصحيحهما أو تدقيقهما، من قبل، سوى انسداد النفس عن المضي في طريق النقاش بحالته السابقة:
الأمر الأوَّل: هو استشهاد الأستاذ خالد بقول (نسبه) إليَّ خطأ، على صحَّته، ومفاده أن المرحوم "ورَّط الحزب الشيوعي في انقلاب 1969م". لقد أوردت هذا القول، في سياق هذا (التحقيق)، على وجه التحديد، في عدة مناسبات، آخرها رزنامة 16/11/2009م، نقلاً عن رواية السيّد الصادق المهدي لي، بمنزلي بحي الهجرة، بالخرطوم بحري، عام 1992م، حول زيارة الأستاذ أحمد سليمان له بمنزله بحي الملازمين بأم درمان، خلال مارس 1989م، وعرضه فكرة الانقلاب عليه باعتبارها، كما أوعز له وقتها، محض خاطرة من بنات أفكاره، حيث قال السيّد الصادق إنه لم يخطر بباله، قط، وهو يستمع إلى حديث المرحوم، سوى أن "ذلكم هو ذات الرَّجل الذي سبق أن (ورَّط الشيوعيين في انقلاب مايو 1969م)، وها هو تراوده نفسه بمغامرة أخرى، وتوسوس له بأن يُسوِّقها للجبهة الإسلاميَّة وحزب الأمَّة معاً"!
الأمر الثاني: هو ما نسبه إليَّ الأستاذ خالد من أنني أفصحت، في كلمتي المشار إليها آنفاً، عن أنني "أضمر اهتماماً خاصَّاً بحادثة (التحريض) علي الانقلاب"! الصحيح أنني قلت إن "ثمَّة نقطة شدَّت انتباهي، بوجه خاص، في حديث د. علي الحاج لصحيفة سودانايل الإليكترونيَّة في 11/11/2009م، وتتعلق بالدَّور الذي لعبه المرحوم أحمد سليمان في هذا الانقلاب". وربَّما كان الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ خالد، والله أعلم، هو من إسقاطات (العقل الباطن!)، أو لعله قرأ هذا الكلام في مكان آخر، فارتجَّ عليه، واختلط، فنسبه إليَّ! فلو كنت قلت ذلك، بالفعل، لكان حقَّ له أن يقبض عليَّ بالجرم (المنهجي) المشهود، إذ كيف أدَّعي أنني (أحقق)، ما أزال، (دور) المرحوم في الانقلاب، بينما أنا قد بلغت النتيجة، عمليَّا، بتقرير (تحريضه) عليه؟!
(إنتهى)
***
Kamal Elgizouli [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.