روى الإمام أحمد في مسنده عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوى (1) لي منها ، واُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض (2) وإني سألت ربي لأمتي ألاّ يهلكها بسنة عامة (3) وألاّ يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم (4) فيستبيح بيضتهم.. وإن ربي قال لي : يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرد .. إني أعطيتك لأمتك ألاّ أهلكهم بسنة عامة ، وألاّ أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ، ولواجتمع عليهم مَنْ بأقطارها أو مَنْ بين أقطارها حتى يكون بعضُهم يهلك بعضاً ويسبي بعضُهم بعضاً " ( 5 ) إن هذا النص الكريم دال بنفسه على أن قوى الشر والطغيان لو تألبت كلها ضدنا ما نالت منا شيئاً إذا توحدت كلمتنا، وتجمع شملنا وتماسك صفنا .. كما أنه دال كذلك على أن مصائبنا من أنفسنا قبل أن تكون من غيرنا.. وأن اللوم ينبغي أن يُوجه لذات المسلمين ولضميرهم الجمعي قبل أن يُوجه لأعدائهم الخارجيين المتربصين بهم وبدينهم منذ ظهوره على المسرح العالمي في مطلع القرن السابع الميلادي ، ومنذ شاءت الأقدار العليا أن ُتختتم به رسالات السماء . غربة الوحدة الإسلامية في الواقع المعاصر إنه لحريّ بالمسلمين جميعاً اليوم وبقادة الفكر منهم خاصة ، وبالقائمين منهم على شؤون الدعوة والبلاغ والتغيير والإصلاح بصفة أكثر خصوصية ، أن يبذلوا ما يمكن بذله من الوسع والجهد لإعادة تفعيل الفكر الإسلامي إزاء الوحدة الإسلامية ، بل وإعادة تفسير النصوص والمأثورات والمعتقدات الإسلامية المختلفة بما يخدم ويعضّد عناصرالقوة لديهم ، ولا شكّ أن أخوتَهم و وَحدَتهم وتلاحمَهم .. إنما تمثل السياج المنيع لحفظ وجودهم واستمرار رسالتهم في ظل معطيات ومتغيرات عالمية جديدة ، أخذت بوادرها الأولى تتجسد على الأرض مع بدايةالألفية الميلادية الثالثة والقرن الحادي والعشرين، الذي نعيش الآن عقده الأول. ولقد بات من المسلمات خاصة في سياق ما فرضته ودفعت إليه المعطيات العالمية الجديدة التي ألمحنا إليها " أنه لا تقوم لقوم قائمة إلاّ إذا كان لهم جامعة تضمُّهم ، و وحدة تجمعهم وتربط بعضهم ببعض ، فيكون بذلك أمة حية كأنها جسد واحد ، كما ورد في حديث ( مَثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ( 6 ) وحديث ( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضُه بعضاً )( 7).. فإذا كانت الجامعة الموحِّدة للأمة هي مصدر حياتها ، سواء أكانت مؤمنة أم كافرة ، فلا شكّ أن المؤمنين أولى بالوحدة من غيرهم لأنهم يعتقدون أن لهم إلهاً واحداً يرجعون في جميع شؤونهم إلى حكمه الذي يعلو جميع الأهواء ، ويحول حقاً دون التفريق والخلاف .. " (8) ومع أن هذه الحقيقة ماثلة في ذهن المسلم المعاصر ، على المستوى النظري أو الوجداني العاطفي على أقل تقدير .. فإنها مع ذلك لا تكاد تُذكر إلاّ لماماً أو على استحياء ظاهر في أدبيات الخطاب الإسلامي المعاصر ، مما حدا بأحد أكبر فقهاء المسلمين ومجتهديهم في هذا العصر هو الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله إلى القول في صيغة استنكارية موغلة في التأسي المشوب بقدر من الإحباط : " .. فأيّ غربة للإسلام أشدّ من أنَّ مَنْ يدعو إلى الوحدة الإسلامية تكون دعوته غريبة وصوته منكراً كأنه يهاجم الإسلام " (9) والأنكى من ذلك أن مجرد بسط الحديث في هذا الموضوع الخطير لدى البعض يُعدّ ضرباً من ضروب الخيال الشاطح في سمادير الوهم ، أو المحلق في آفاق يوتوبيا المدينة الفاضلة... وإن كان لا بد من طْرقه أحياناً بفعل بعض المقتضيات أو الظروف التاريخية ، أو المناسبات العامة، فإن هناك من يدعو إلى صيغ غريبة من الوحدة كأن تُقسَّم الأمة الإسلامية الكبرى مثلاً إلى قسمين : مسلمين أعاجم يلتحقون بأقوامهم ويواجهون مستقبلهم السياسي والاجتماعي وحدهم ! .. ومسلمين عرباً ينضوون تحت لواء قوميتهم الخاصة ، ويشقّون طريقهم في الحياة مع إخوانهم من اليهود والنصارى العرب ! .. (10 ) الوحدة الإسلامية.. والتكتلات الأخرى إن الدعوة لوحدة الأمة بمدلولها العميق الشامل واجب ديني يتعبّد المسلم الله تعالى به ، وهي مسؤولية متعلقة بذمة كلِّ منتسب لهذا الدين في إطار اجتهاده وحراكه الاجتماعي و واجباته العامة.. بل هو أمر يُفترض فيه التسليم والبداهة ، ذلك أنه نابع من صميم روح العقيدة الإسلامية نفسها ، هذه العقيدة التي أساسها توحيد المعبود و وحدة العابدين ، أوهي عقيدة ترتكز على كلمة التوحيد و توحيد الكلمة ، قال الله تعالى : " إن هذه أمتكُم أمةً واحدةً و أنا ربكم فأعبدون " (11) فالأمة الإسلامية واحدة بمنطق الدين والتاريخ والجغرافيا ، ومنطق الواقع والعصر، ومنطق الأعداء أيضاً.. لذلك ينبغي أن تتوحد وتتكافل وتتضامن ، خاصة في هذا العصرالذي نشهد فيه قيام التجمعات الكبرى والتكتلات الاقتصادية والعسكرية الهائلة المسنودة بعوامل ثقافية ودينية وتاريخية وإيديولوجية ، وما نموذج الاتحاد الأوروبي عنا ببعيد ، هذا الاتحاد الذي انبثق عن معاهدة ماستريخت ، والذي شهد خلال شهر مايو2004م المنصرم ، توسعاً كبيراً ، كاد يستغرق كافة دول هذه القارة.. وقد أصبح لهذا الاتحاد العجيب ناطق واحد يمثل السياسة الخارجية للإتحاد والنية منعقدة بالفعل كي يكون خلال الأشهر القادمة دستور واحد أيضاً لهذا الاتحاد بعد النجاح في التعامل بعملة النقد الموحد ( اليورو ) .. حتى اليهود الذين ظلوا عبر التاريخ أشتاتاً وأوزاعاً لا تنتظمهم سوى حاراتهم المنتشرة في كل قارات المعمورة يعملون الآن بدأب وإصرار على تكوين وحدة تجمع شملهم رغم ما يوجد بينهم من فوارق مذهبية وخلافات تاريخية ، إذ هناك يهود الغرب ، وهناك يهود الشرق ، وهناك يهود الفلاشا ويهود الدونمة ... الخ .. ونراهم يضحون في سبيل هذا الهدف ، ويستغلون نفوذهم في السياسات العالمية ومراكزهم المعروفة في التوجيه والتأثير من أجل أن يكون لهم كيان حضاري موحد يجسد استقلاليتهم ويبرز خصوصياتهم بين أمم المعمورة ، كما أنهم يعتبرون أن ( دولة إسرائيل ) هي دولتهم حتى لو كانت لهم جنسيات مختلفة وقد ذهل عدد من المراقبين بداية صيف (2004م) للإستجابة الفورية والسريعة من قبل أعداد غفيرة من يهود فرنسا، والتحاقهم بدولة ( إسرائيل ).. وذلك مباشرة بعد توجيه " آرئيل شارون " الدعوة لهم ومناشدته لهم بمؤازرة ودعم وحدة " شعب الله المختار " ... وقد كادت هذه الدعوة تتسبب في أزمة سياسية بين هذا الكيان الغاصب من جهة وبين الحكومة الفرنسية من جهة أخرى . أما المسلمون عرباً كانوا أم أعاجم فهم سادرون غافلون ، كأن مصيرهم لا يعنيهم ، وقد بات واقعهم يثير اللوعة ويبعث في قلوب الغيورين الفزع ، ويدعوهم للتفكير العملي الجاد والفاعل لاستنقاذ الوجود الإسلامي من براثن الإحتوائية الغربيةالجديدة التي يحملها مشروع العولمة في أبعاده الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها ... يا عجباً بأي المقاييس تفكر الأمة الإسلامية الآن في هذا المنعطف التاريخي الخطير؟ . إنها إنْ حوكمت إلى نواميس الدنيا دانتها، وإنْ حوكمت إلى نواميس الدين أخزتها . وقد نبّه القرآن الكريم هذه الأمة وهي ما تزال في طور التأسيس إلى خطورة التفرّق والتفكّك وتمزّق الآصرة.. بل إنه وصف الفرقة والتشتت بالكفر لفداحة ما يترتب عنه في واقع المسلمين ، وَرَدَ هذا الوصف الملفت في قوله تعالى : " وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم آياتُ الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم "( 12).. وقد أكد السياق الذي أعقب هذه الآية الكريمة على واجب وحدة صف المسلمين والأهمية العقدية والحياتية لدعم ومناصرة إخوة العقيدة لأن النعمة العظمى التي أنعم الله تعالى بها على المسلمين يوم اصطفى النبي الخاتم من بين ظهرانيهم لم تكتمل ولم تظهر آثارها إلاّ بعد أن توحدت كلمة وآمال المؤمنين بهذه الرسالة فأصبحوا أُمة ماثلة بخصوصياتها وسماتها . قال الله تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعاًَ ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً " ( 13) لقد نجح الجيل القرآني الأول في الاعتصام بحبل الله فتتحققت له النعمة الكبرى ، ومكّن الله له في الأرض ، لكن ها هو الزمان قد دار دورته، حسب ما اقتضته المشيئة العليا في دورات الزمن ، ثم ها هي ظروف وأوضاع محلية وعالمية تتسبب مرة أخرى في تشتت المسلمين وتفرّق كلمتهم ، حتى سرى في أوصالهم الوهن ، و باتت ديارهم وثرواتهم وعقائدهم ومناهجهم التربوية وخصوصياتهم الفكرية محل مزايدات وصراعات عالمية ، فهل ينبغي التسليم بالأمر الواقع والاستكانة لما تمّ فرضه في مسار هذه الأمة و واقعها ؟ وما موقف الخطاب الإسلامي المعاصر من هذه المعضلة ؟ بل هل ثمة وعي إسلامي صحيح إزاء مفهوم الأمة المسلمة الواحدة والدورالمرتقب للإسلام في ظل المشروع المستقبلي للعولمة الغربية ؟ الخطاب الإسلامي.. والوحدة الإسلامية لا شكّ أن التساؤلات السابقة تقتضي إجابات واجتهادات واسعة وعميقة ، ليس موضعها هذا المقال ، الذي يستهدف فحسب إثارة هذا الموضوع الحساس، الذي يبدو أن الخطاب الإسلامي المعاصر أو على الأقل بعض تيارات هذا الخطاب لا يوليه الأهمية التي يستحقها ، أو ربما لا يجعله في طليعة أولوياته ، لذلك نأمل أن نعود لتناول الموضوع من جوانب عديدة والإجابة بصورة أكثر عمقاً على هذه التساؤلات في مقال مسهب أو دراسة مستفيضة. لكن من الإنصاف الآن الإشارة إلى أن قضية الوحدة الإسلامية بمعناها الإيديولوجي الشامل كانت الهاجس الأول لدى رموز الإصلاح وقادة الفكر في العالم الإسلامي ممن عاصروا الفترة الأخيرة من الخلافة العثمانية أي في مرحلة ضعفها وتراجعها أو ممن عاصروا سقوطها الفعلي (سياسياً وحضارياً)، إذْ اتجهت همّة الكثير من المفكرين والمصلحين إلى ضرورة أن يكون للمسلمين جامعة توحّد كلمتهم وتحقق التكامل فيما بينهم، على كافة الصُّعد ، سواء في المجال الثقافي أو السياسي أوالاقتصادي أو الأمني والعسكري.. الخ . أما في راهننا حالياً ، فإن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية كما يُستفاد من حديث علماء الإسلام ومجتهديه ترقى إلى أعلى درجات الوجوب ، وذلك لكون عزة المسلمين ونهضتهم واستعادة مكانتهم و دورهم الطلائعي الفاعل في هذا العالم إنما هي رهن هذه الوحدة ، حتى أن الكثير من كتابات المستشرقين الأكثر عداوة وتعصباً ضد أمتنا ، تطفح بروح التخوّف من عودة هذه الوحدة. إننا مثلاً نجد المستشرق الانجليزي ( ه. ا. ر. جب : h.a.r.gibb ) يطرح هذه السلسلة من التساؤلات التي يظهر أنها تؤرقه كما تؤرق جميع الدوائر الغربية المعادية لمصالح أمتنا : " هل روابط الوحدة من القوة ، أو يمكن جعلُها من القوة ، بحيث تستطيع أن تحتفظ بتضامن العالم الإسلامي ؟ وهل تبقى الروابط القديمة التي كوّنت هذه الوحدة دون أي تطوّر ؟ فقد يصبح مفهوم هذه الوحدة مغايراً لمفهومها في العصور الوسطى ؟ لكن السؤال الأهم هو هل ستكون هناك ميول جديدة مشتركة بين الشعوب الإسلامية ؟ وهل سيقوم إحساس بوحدة العمل و وحدة الهدف ؟ أم أن الآراء الجديدة وحاجات الحياة الجديدة ستنجح آخر الأمر في تشتيت المجتمع ( أي الأمة الإسلامية ) وتحطيم وحدته ؟ " ( 14 ) وفي كتاب ( whither islam ( [ أين يتجه الإسلام ] وهو من تأليف جماعة من أكابر المستشرقين ، نجد أيضاً المستشرق الألماني ( كامفماير ) يتساءل ، متخوفاً ومتوجساً كما هو شأن المستشرق جب من احتمال استرجاع العالم الإسلامي وحدته ، قائلاً : " هل يستطيع الإسلام أن يستعيد وحدته الداخلية في ظل التجزئة السياسية القائمة وتحت تأثير الآراء العصرية والعلوم الغربية ؟.. وهل سيكون الإسلام عند ذاك عدواً ( أي في حال استرجاع وحدته ) أم أنه سيكون صديقاً وحليفاً ؟ أم أن الإسلام في سبيله إلى التفتت إلى وحدات قومية تعكس كُلٌّ منها التأثيرات الأوروبية على طريقتها الخاصة وبأسلوبها المستقل ؟ " ( 15 ) وهكذا كلما أتيح لهذا الضغن أن يتنفس ، إلاّ وأسفر عن حقيقة المكائد والمؤامرات التي مارستها القوى المعادية لهذه الأمة ، وأولها الحيلولة دون تحقيق الوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي .. وهو ما يعني في مقابل هذه الصورة ضرورة وفرضية أن تحتشد الجهود الخيرة المخلصة لتغيير الأوضاع القائمة ، وإعادة بناء أمتنا على قواعدها الأولى ، وحسن استثمار جميع عناصر القوة في الإسلام وحضارته ، حتى نزيل غربة ديننا في الميدان الدولي ، ويستعيد المسلمون مكانتهم كأمة واحدة موحدة ، تتمتع بهيبتها و وقارها بين أمم وحضارات هذه المعمورة . الهوامش 1- جُمع 2- معادن الأرض وثرواتها 3- قحط شامل أو هلاك مدمر 4- أي عدواً خارجياً أو أجنبياً 5- مسند الامام أحمد بن حنبل ، ج5 ، ص 278 6- رواه أحمد ومسلم من حديث النعمان بن بشير 7- رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي موسى الأشعري 8- محمد رشيد رضا ، تفسير المنار ، دار المعرفة ، بيروت ، د.ت ، ج4، ص 26 9- محمد أبو زهرة ، الوحدة الإسلامية ، دار الرائد العربي ، بيروت ، د.ت ، ص 6 10- محمد الغزالي ، حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي ، دار الروضة ، القاهرة ، ( د. ت ) ، ص 11 11- الأنبياء 92 12- آل عمران 101 13- آل عمران 103 14 انظر : محمد محمد حسين ، الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ، ج2 ، ط 7 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1987 م ، ص215 15 المرجع السابق نفسه ، ص 214 brahim norei [[email protected]]
