الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبونا آدم .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 30 - 03 - 2018

في نهاية الستينيات وطوال سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كنا رهط صغير من شباب متجانس سناً وطباعاً وفهماً لا يفرقنا شيء غير أن هذا أحمد وذاك حاج أحمد.. نقوم ونقعد ونسير مع بعض، خواطرنا كانت هي نفسها، هواياتنا هي ذاتها، آراؤنا كانت متطابقة، لا نختلف إلا يوم مباراة الهلال والمريخ لسويعات ثم نعود أقوى صلة.
كنا أربعة محمد على آدم (آدم) ومحمد فتح الله صابرين (أوشى) وأحمد عبده خيري وشخصي الضعيف. وقد كنت بالأحرى تابعاً لهم لا سلطان لي ولا اقتصاد فثلاثتهم ضاقوا الميري في سن مبكرة لكنى ضقت أكثر منهم، ومنهم أنفسهم، فقد كنت الطفل المدلل بينهم مستجاب الطلبات وبالمقابل مارسوا فيني الأبوة و سلطات ولى الأمر وأنا الذي كنت نديدهم لكنى كنت لم أزل بعد تلميذاً "كلبود".
كل من اربعتنا له أصدقاء ومعارف وزملاء آخرون لكنهم خارج هذه المنظومة الرباعية لا يقربونها وتلك دائرة أخرى محكمة الإغلاق ولا تتداخل. فقد كان لها بروتوكولاً خاصاً ممارساً وقيادة. كان آدم هو محور الحركة والسكون وصاحب المشورة وأهل الحل والربط وممثل الجمع وحمال الأذية بل كان هو الأب الروحي لهذا الرهط الأليف.. إنه أبونا آدم.
في البدايات آدم وأحمد سكنا في غرفة سوياً في منزل أختهم وزوجها ابن عمهم المحامي أحمد سليمان جابر الذي استأجره في امتداد الدرجة التالتة، ومحمد فتح الله سكن مع ابن عمته المرحوم شريف محمد عثمان، طيب الله ثراه، في حي الزهور وهذه كانت هي العادة، وشخصي في داخلية بحر العرب.
ورغم البعد المكاني هذا كنا لا نفترق إلا للعمل أو النوم في أنصاص الليالي. وعندما اشتد عودهم استقلوا وسكن ثلاثتهم مع بعض في بيت يقع فى محطة سبعة بامتداد الدرجة التالتة. كان ميزهم من أميز ميزات العزابة في الخرطوم.. والعزابة الذين كانوا يزورونهم، من سكان البيت الأبيض التاريخي المعروف في لفة الخرطوم 3، كانوا يندهشون لمستوى النظام والنظافة والطعام. للذين لا يعلمون كان لكل ميز عزابة فى الخرطوم إدارة تتشكل من رئيس و وزير مالية. كان آدم هو الرئيس و وزير مالية هذا الميز ومن يقف وراء هذا المستوى السكنى الفاخر لعُزاب.
و لذلك كنت أزحف إليهم يومياً بعد الدراسة من داخلية بحر العرب، جزء كداري وجزء في بصات أبورجيلة الصفراء، لأصلهم في المغارب لأجد ثلاثتهم جاهزون للخروج تحت إمرة أبونا آدم فهو الذي كان يخطط وهو الذي كان يقود. كان اللقاء المسائى اليومي على العشاء حول الطاولة الرباعية في مطعم مرحباً الذى كان يديره عمنا المرحوم حشاش في سوق العمارات. أسماؤنا الأربعة كانت مسجلة عندهم فى قائمة ابن عمتي "محمد آشه" ملاحظ صحة العمارات وحي كوريا آنذاك. وكان محمد هذا مشهوراً بل علم فى رأسه نار فى تلك المنطقة وما جاورها وكان يُعامل معاملة خاصة فى المطاعم والمحلات التجارية بحكم السلطات الصحية التنفيذية المخولة له.. ونحن في جاه الملوك نلوك.
كان أبونا آدم هو قائدنا وعاقلنا حتى في مناحي شقاوة الصبا آنذاك، فقد كان مثل عادته يفكر بتروي ويحذق المخارج قبل الدخول في أتون الشباك فسلمنا وسلمت الجرة فى كل مرة.. لا نفكر نحن عندما يكون معنا ولا نكسب معه أي جولة فقد كان يأسرنا ويبهرنا بأمثال وأشعار وأقوالٍ مأثورة تعلمها من كبار وحكماء القوم الذين أشرفوا على تربيته في "حوّى".. أكبر الحكماء المرحوم محمد صالح تيلكاق والمربى والعالم الجليل المرحوم الشيخ جمال محمد صالح وشقيقه المرحوم دسوقي وعمنا المرحوم السني ووالده المرحوم الحاج على محمد آدم وعمه المرحوم حسن نظام طيب الله ثراهم جميعاً.
كانت حبوبتي المرحومة الحاجة سكينة سليمان تصف الشخص الحًرِك الذي لا يبقى في مواعينه "آقلو". ورغم أنها هى كلمة تستعمل للوصف فى اللغة النوبية إلا أنه في اعتقادي هى تصريف من كلمة "عاقل".. وهذا هو أبونا آدم.. يحمل عقلاً دائم التفكير وفيه ثورة مشتعلة للتغيير... لا يرضى بما هو فيه الآن ولا فيما سيكون عليه غداً.. إنه حقاً آقلو.
لا شأن لنا في السينما والسياسة والديسكوهات بقدر ما أسَرَتنا كرة القدم – الهلال والمريخ.. أبونا آدم وشخصي هلالاب على السكين ومحمد مريخابي على السكين، أما أحمد الرجل المسالم فقد كان مع الغالب. إذا غلب الهلال فذلك يوم فرح أبونا آدم وسعده.. تجده في مقدمة جماهير الهلال محمولاً على الأكتاف يهتف للنصر وإذا انهزم الهلال تجده أيضاً وسط الجماهير محمولاً على الأعناق يهتف ساخطاً على اللاعبين والمدربين والإداريين وحتى على المشجعين.. ففي كل الأحوال لا يهدأ له بال ويعود منهكاً وفاقداً صوته وقواه عقب كل مباراة.
أبونا آدم كان سابقاً لنا ولأقرانه مسافات وكان سابقاً لعصره فرسخاً تلو فرسخ..فهو دائماً الأول في كل شيء دون منازع ولم يكن الثانى فى يوم من الأيام. فهو أول من دخن فينا سيجارة وهو أول من اشترى فينا علبة الروثمان كاملة مع الزناد وحملهما في جيبه دون خوف أو حرج.. وهو أول من التحق فينا بعمل ذي مرتب و بالتالى أول من حمل فينا دفتر شيكات بنكى و هو أول من لبس فينا كرفتة في التأمينات العامة حينما كان ذلك محصوراً بروتوكولياً في فئة المديرين، وهو الذي لبسها من أول يوم عمل لثقته بنفسه وهو أول من لبس فينا نظارة شمسية وكانت تعتبر "قندفة" آنذاك.. وهو أول من امتلك فينا سيارة ملاكي وعندما حطمتها كلياً في حادث حركة أصابنى، كسرت فيه ترقوتي، اشترى على التو سيارة أخرى ..وهو أول من طبق النظرية الإقتصادية الإنجليزية فقد إمتلك منزلاً ليعيش فيه في الخرطوم ثم بنى آخراً ليعش منه في الخرطوم.. وهو أول من كوّن نفسه فينا وتزوج وفارق حياة العزوبية.. وهو أول من مارس العمل الخاص فينا ونجح فيه.. ثم هو أول من كبر فينا وتقاعد في المعاش الاختياري ليعيش هادئاً مرتاح البال. وهكذا لا ينتهى مسلسل الأول مع أبونا آدم.
كبرنا وتزوجنا وتوالدنا وتفرقت بنا سبل الحياة وضنك المعيشة في السودان وسافرنا إلى بلاد جديدة وبعيدة وتشتتنا أيدي سبأ ولم يبق ثابتاً في مقره إلا أبونا آدم.. فقد ظل مناضلاً جسوراً وصامداً يكافح ويواجه صعوبات الحياة بل آثر أن يبقى في السودان رغم الفرص ليخفف أحزان اليتامى وقضاء حاجات المحتاجين وتخفيف آلام العليلين.. ولذلك تفرغ للعمل العام وترك حياة العاصمة وذهب ليعيش في قريته في "دبيرة " ليحسّن معيشة أهلها ويزيل أمراضها وينقى مياهها ويبنى مدارسها ويحسّن من أداء مستشفياتها لكن لم يطل به المقام هناك فقفل راجعاً إلى بيته في الخرطوم وفي قلبه حسرة وحماس تبدل إلى سكون، فقد ملّ جعجعة القوم والمؤامرات السياسية والعنتريات التي ما قتلت ذبابة ليكتفي بالعمل العام عن بُعد ومن داخل أروقة النادي النوبي في الخرطوم فقد كان من المداومين فيه يومياً..
هذا الرهط الصغير كان من جيل لاحق لجيل العمالقة. وجيل العمالقة هذا، للذين لا يعلمون، هو جيل رحمة أنزل على الناس مثل رسالة ربانية بُعثت من السماء ليسدوا حاجات البشر المادية والمعنوية..منهم العالم فى مجاله ومنهم الجاهل ومنهم المعلم ومنهم المزارع ومنهم العامل ومنهم من لا يفك الخط إلا أنها كانت منظومة متجانسة وعقد فريد رغم التباين فى الشخصيات والمهن والمراكز. أحبوا بعضهم بلا حدود واندفعت قلوبهم المفعمة بالود والإيثار في تناغم فريد للبذل والتضحية من أجل الآخرين عبر أدوارٍ موزعة تلقائياً، فمنهم من يدل ومنهم من ينصح ومنهم من يبادر ومنهم من يرافق ومنهم من يسد وهكذا.. فضربوا أمثالاً رائعة من القيم التى لم تعرفها البشرية لا من قبل ولا من بعد.. ما كانوا متزمتين ولا كانوا كثيري صلاة ولا كثيري صيام بل أدركوا أن الدين المعاملة وتعاملوا مع بعضهم ومع البشر بما جاء به الدين فاعترف بفضلهم شيوخنا الأجلاء قبل الآخرين وهم ما طلبوا جزاءً ولا شكورا من أحد.. لقد كانوا كياناً واحداً لكنهم بمزيج من الصفات والخصال والشخصيات التي أخرجت لحناً واحداً للحياة أطرب و أسعد الكثيرين من ذوي الحاجة وغيرهم. أتوا مع بعضهم كجيل وأدوا رسالتهم ورحل أكثرهم مترافقين.. مهما أطلت في وصف هذا الجيل فسوف لن أستطيع أن أجسد للأجيال اللاحقة والحاضرة دورهم المباشر وغير المباشر في حياة الناس أياً كانوا.. وهم طيب الله ذكرهم وثراهم ، بدون ترتيب : فتحي عواض (فتحي جنجينة)، حسن محمد حسن(د.حسون)، أبوبكر أبوالريش(مولانا)، عبد لفتاح صيام(المدير) (أمدّ الله في عمره)، حجازي محمد حسن(الزعيم)، حسن داوود خليل(العمدة)، قاسم محمد حسن (قاسم شراب)، نوري فاوي، محمد داوود الصايغ (الأستاذ)، محى الدين محمد صالح(دنقي)، صادق أبوسبيب، حسن تبد، محمد عبده قتة، عم أحمد(حشاش)، نجم الدين محمد صالح، حسن عبد السلام، حسن بحر، محمد سليمان ترسى(ترزى) وجمال أحمد عيسى (كم فلوس). كل واحد من هؤلاء العمالقة يحتاج إلى كتب ومجلدات لإبراز أهمية دوره فى مجاله كفرد ثم دوره فى المجتمع الذى عاش فيه وله من خلال تلك المنظومة كحبة جوهرة فى ذلك العقد المتلألىء الفريد. وبإختصا فكل منهم تاريخ.
أبونا آدم كان من يومه قاب قوسين أو أدنى من جيل العمالقة شأناً وحركةً وتطلعاً...كان أكثر عقلاً وتأهيلاً واستطاعةً من ثلاثتنا وفيه كثير من خصالهم.. فهو الذي كان يفهم لغتهم المسموعة والصامتة أحياناً فقد كانت أدوارهم موزعة تلقائياً ومقاماتهم محفوظة.. والأهم من كل ذلك شجاعته وجُرْأتِه فهو تماماً مثل أكثرهم كان يركب الصعاب ولا يبالي بالمخاطرة والمجازفة. ولذلك كان أبونا آدم أقربنا لجيل العمالقة ونجح في أن يكون بحق رجل المهمات الصعبة وجسر المحبة الذي ربط بين الجيلين على مدى سنوات.
يا أبونا آدم لقد ذهبت أيامنا الجميلة مع جمال الشباب ورونق الخرطوم وبهجة أمدرمان. ومع تقدم السن وتعقيدات الحياة أصبحت لقاءاتنا محصورة في إجازات وزيارات قصيرة لدرجة لا نكمل فيها إجترار أحداث ذكرى واحدة من ذكرياتنا الجميلة التي كانت تسبق حتى التحية.. وكنت تحاول فى عجالة أن تختصر لي رواية أحداث عام كامل بكل انفعالاتك النابضة ليتأجل اللقاء فى كل مرة لعام قادم وشهيتنا للحديث كما هي لم تنقطع. وما دريت في آخر لقاء لنا في منزلك فى الصيف الماضى أنه كان اللقاء الأخير وأنى سوف لن أجدك في عام أو قبل عام لتكمل لي ما انقطع من حديث.
أحمد كان قد عاد من بلاد الغربة وبدأ نشاطاً تجارياً و عقارياً خاصاً وسرعان ما مرض وسافر إلى أسرته في القاهرة التي توفي فيها إلى رحمة مولاه في أوئل تسعينيات القرن الماضي. كان أثر فقده وهو في ريعان شبابه بالغاً فينا وحزن أبونا آدم عليه حزناً شديداً. وقد كان هذا الحدث أشبه بإتكاءه على حد السكين أو وقفة حافٍ فوق شوك منثور ليتلمس خطاه.. ومنذ تلك االسنة أدرك أبونا آدم ان الحياة قصيرة فسعى سعياً حثيثاً لجمع الشمل مرة أخرى لنسير سوياً في مرحلة الكهولة كما أكملناها سوياً في دائرتنا المغلقة في مرحلة الشباب. فبدأ بدعوة محمد فتح الله للعودة منذ سنوات طويلة ولم ييأس كعادته من الاستجابة لدعوته حتى عاد محمد، أطال الله في عمره، من بلاد الغربة طوعاً العام الماضي وبديا المسيرة للمرحلة الثانية. لكن توقفت المسيرة من أولها لوعكة مفاجئة ألمت بأبينا آدم في ذات ليل مظلم لم يفق منها بل رحل بسببها في لمح البصر إلى الفانية قبل أن ينبلج فجر ذاك الليل البهيم.
يا إلهي سمع الناس بل أقرب الأقربون بموتك قبل أن يسمعوا بمرضك يا آدم فهرعوا إلى منزلك بين مصدق ومكذب ولم يجدوك ثم إلى مسجد الحى الذي كنت تصلى وتتعبد فيه.. فمنذ رأيتك وأنت فى أوج الشباب لم تفرط يوماً في حق الله ولم تقصر في عبادته ولا يهدأ لك بال قبل أن تصلى في المسجد إذا رفع الآذان حتى عندما صرت لا تقوى على المشي فقد كنت منذ سنوات تسير بخطىً متثاقلة متوكئاً على عصاتك.. وقد زكيت لصلاحك ونشاطك رئيساً للجنة المسجد وكذلك رئيساً للجنة الحي. وحتى قبيل رحيلك المر أديت صلواتك كلها جالساً فوق كرسي المستشفى وأنت لا تقوى على القيام بعد أن طلبت حجراً من صديقك محمد فتح الله، الذي لم يفارقك ليلتها، وتيممت صعيداً طاهراً.
ما أسعدك يا آدم وأنت تلقى وجه ربك خالصاً في فجر يوم الجمعة أفضل الأيام.. واليوم روحك تسمو في عالم آخر وجسدك الطاهر مسجى في صحن المسجد والحزن يكسو الوجوه ولا تسمع غير نحيب الرجال وعويل النساء والبنات الذين اكتظت بهم باحة المسجد و ساحة الميدان.. حتى إمام المسجد الذي أمّ صلاة الجنازة ذرف دموعه مدراراً في الصلاة عليك فقد كان يرى أنك مثل عادتك تقف في الصفوف الأولى تُصلّي خلفه مأموماً لكنك اليوم ترقد مسجياً أمامه يُصلَّى عليك.
مشوار طويل مشيناه معاً بحلوه ومره.. ذكريات مفرحة و ذكريات محزنة وأخرى مؤلمة لكن ما كان في الخيال أنه سيأتي اليوم الذي ننعى فيه بعضنا ولكن هذه هي سنة الحياة وكما قال المصطفي صلى الله عليه وسلم " أحبب من شئت فإنك مفارقه" وها قد أتى وقت الفراق المر.. وسبحان من له الدوام. كانتا فاجعتان متلازمتان .. فقد هالني رحيل الأخ محمد سليمان خطيب(محمد عيد) قبل أشهر معدودات ومن بعده رحيل أبونا آدم فهناك كثير من القواسم المشتركة تجمعهما وتعيد ماضي الذكريات. فهما غير صلة القربى أتراب في العمر وجيران في الحى وأبناء دفعة واحدة في مدرسة بورتسودان الثانوية كانا يسافران سوياً فى قطار الشرق ثم رحلا سوياً للعمل في الخرطوم..كما كانت تجمعهما بعض الهوايات والاهتمامات الفنية بحكم البيئة الواحدة التي ترعرعا فيها في "حوى" وسوق الخميس...إنها المصائب لا تأتى فرادى.
يا أبونا آدم إذا كانت الأرواح تسمع فأسمعني يا من أخلصتَ العُشرة ويا من أحسنتَ الوفاء ويا من حافظتَ على المودة. كيف سيكون طعمُ الحياة من بعدك وأنت الذي أعطيتها المذاق الحلو وللحياة طعم أخر مر كالعلقم.
ستفتقدك ساحات القرى والمدينة التي أظلمت من بعدك ..
ستفتقدك شريكة حياتك في المسيرة الطويلة وأولادك وتراب منزلك ذرة ذرة..
سيفتقدك الأهل والإخوة والأصدقاء والجيران..
سيفتقدك رواد المسجد عند كل صلاة..
سيفتقدك رجالات التأمين في السودان..
سيفتقدك النادي النوبي الذي كنت أحد أركانه وصوته المسموع..
ستفتقدك المحافل وجمعيات العمل الخيري وجماعات البر والإحسان....
سيفتقدك اليتامى والمساكين والمحتاجون لمن يكفكف دمعتهم..
سيفتقدك كل من احتاج أمره لحمامة سلام..
ستفتقدك تلك الوجوه الجديدة التي لم نراها إلا فى تشيعك..
وستفتقدك تلك الجماهير الغفيرة التي حملتك و شيعتك إلى مثواك الأخير.
ويا صديقي الباقي محمد فتح الله لا شك أنك تعلم أن الحياة مهما طالت فهي قصيرة وكلنا مسافرون، وعددنا في يومنا هذا أقل من أمسنا وفي غدنا أقل من يومنا فأدعوا الله أن يتبع عسرنا بيسر ويبدل كسرنا بجبر ويجعل لنا في كل أمر خير.
وخير ما أختم به قولي اللهم أغفر لأبينا وأخينا آدم عدد خلقك وأغفر له مداد كلماتك وأغفر له زنة عرشك وأغفر له رضا نفسك برحمتك يا أرحم الراحمين وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
شوقى محى الدين أبوالريش
12 مارس 2018
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.