بإنفصال جنوب السودان و إعلان قيام دولته بعد الاستفتاء الذي سيلي غمار الانتخابات الحالية، يكون مشروع الهامش و ثورته المفترضة قد عادت إلى منطلقاتها المحكومة جغرافيا ضمن أكبر كيان للمكون الاجتماعي ( العرقي) للهامش. و بتفسير أو مراجعة فلسفة السودان الجديد – كما طرحتها الحركة- سيتضح حجم الإنزياح الذي أصاب خطاب الحركة الشعبية كممثل لصوت المهمشين في تجرده - بحسب منفستو الحركة- من الإدعاءات الايدولوجية و التاريخية و السياسية إلى محاولة تطبيق مشروع دولة ناهضة على أسس جيوبوليتكية و مصالح تستدعي تخطيطا براغماتيا بالقدر الذي تتطلبه معايير بناء الدولة State Building و إدارة نظمها في بحر من فوضى السياسات التي حكمت الجنوب في الفترة الانتقالية. فالنتيجة سيفضي التاريخ النضالي المثقل بالتضحيات إلى الدفع بدولة وليدة ناقصة التخلق Premature إلى حيز الوجود القاري الأفريقي المتخم بالأزمات. تخلي أو تراجعها الحركة الشعبية عن مشروعها القومي الذي زعمته على مدى ثلاث عقود كمدافع أوحد عن جماعات المهمشين ضد الظلم التأريخي الممارس من قبل الشمال، يضع الحركة الشعبية في محنة الاختبار السياسي كالذي تعرض له من قبل مع التجمع الوطني الديمقراطي و هي تخطو نحو نيفاشا كشريك أصيل في الحكم. و لكن المعايير السياسية لابد لها من قاعدة أخلاقية و عقدية، لا تسمح أو على الأقل تبرر المسلك السياسي مع المحافظة على حقوق من زعمت الدفاع عنهم. ولكن الا يبدو أن الحركة قد وجدت أن المطالبة بحقوق المهمشين في السودان و هم كثر ( الأغلبية المهمشة) يفوق قدرتها العملية؟ فوجدت من الأوفق المحافظة على الشعار و الأرض التي تعبرعن أشواقها لإقامة دولة شرعية الحدود بالاستفتاء و مرعية دوليا بنص الاتفاقية. هذا التآكل البريِّ الذي سيطال حدود الدولة السودانية جنوباً، سوف لن يؤثر على مركز الهيمنة التاريخية لسلطة الحكم و مصدرها السرمدي ( وسط السودان) المتفرد و المتحكم الأوحد بالتاريخ و الواقع. فالسودان بحكم حيزه الطبوغرافيا الهائل الذي ربما حصّن ساسته ضدَّ رهاب الأماكن الضيقة claustrophobia و بالتي قلل من الإحساس بالمسؤولية الجيوبوليتيكية عن تناقص أجزائه ليس بفعل عوامل البيئة ، و لكن بحكم تراكم سياسي لتاريخ من الأخطاء المجترة. فالوسط يمثل على خلاف مصادر الحكم أنظمة الحكم، المستودع الشعبي الذي يمنح شرعية التمثيل و إضفاء شروط القبول الاجتماعي وفق الثقافة المنتجة و المستهلكة لقاطنيه، إي مصدر للسلطات بالتعبير التشريعي. فالوسط هو أقل الأجزاء إنفعالا بما حدث و يحدث في أقصاع السودان المهمشة، فهو محيط لا ترتبط تصوراته و نظمه للسودان بالمحيط الجغرافي و تشكلاته الاجتماعية المكون من عناصر لا يأبه لها إلا أن تكون جماعات مهمشة قبل المواطنة ! إذ هو محيط لا يكتفي بمنع الآخرين الحق في اختيار أن يكونوا ما يشاؤون؛ بل يتنزع حق التمثيل اللغوي و القومي و إعادة تعريف الروابط التأريخية و الدينية وفق المعايير المتوترة لإثبات ما غاب في الحاضر بإدعاء آواصر بالتاريخ. الحركة الشعبية انطلقت كتنظيم سياسي يسنده محيط بشري يقع ضمن خارطة الهامش، و بالتالي يخضع لتصورات المركز شأنها شأن الجماعات المهمشة الأخرى. فعلى المدى الذي تعقدت فيه الحرب، حكمت العلاقات بين الحركة الشعبية و المهمشين تناقاضات بدت واقعية إلى حد ما كإفراز من افرازات الحرب بين دولة تسنفد مواردها في حرب أهلية بما فيها الهامش، و حركة تقاتل المركز و الهامش معا و تطمح في الوقت نفسه في كسب الهامش. فبعد اتفاقية نيفاشا 2005م انتقلت الحركة عمليا إلى تخطى مفهوم التهميش إلى مصفوفة المشاركة في السلطة و الثروة،. واكتفت من حين إلى آخر بالتذكير بمعالجة أوضاع المهمشين الذين يقعون ضمن دائرة المناطق التي شاركت الجنوب كمناطق مغلقة بقانون 1927 في النيل الازرق وجبال النوبة تشارك الجنوب خصائصه الثقافية و التاريخية و الاثنية. الجماعات المهمشة في السودان لا تقع ضمن التعريف المقتصر على البعد الاقتصادي أو الاجتماعي الجنوسوي أو الفئوي، بل رؤية كلية تتصورها جماعات و تطبقها ( بحكم الوجود السلطوي) على كامل من ينتمون إلى مناطق يعرفها وجودها الجهوي حيث يفترض أن تنتفي روابطها بالمركز و تكون صلتها بالمركز في حالة إنكار دائم، أو تبقي في أفضل الأحوال وسط جغرافي بيولوجي مفرغاً من أهميته السكانية إلا في حدود التصوّر المسبق وفق محدَّدات صيغة المركز الهامش. هذه العلاقة الشائهة المحكومة بقانون تطور الممارسة السياسية و الاجتماعية هي الانعكاس على أرض السياسات الحاكمة للعلاقات بين هياكل الدولة و مواطنيها في درجة اقترابهم من التهميش أو المركز. أي أن يبقى المواطنون ضمن نطاق الحواكير القبلية بعد أكثر من مضي نصف قرن من الحكم الوطني. تشير المؤشرات الحالية في حال انفصال الجنوب – المؤكد- لخارطة السودان القديم و انسحاب مشروع الحركة الشعبية في سودان جديد آخر ، فإن الأوضاع القائمة في حدود التكوينات التقليدية في الشمال للدولة و المجتمع ستظل على ما هي عليه. علي الرغم من أن التحولات التي احدثتها النزاعات المسلحة في مواطن الهامش في الشرق و الغرب في صدامها للمركز صعدت من وتيرة الصرِّاع مما جعل الدولة مستعدة للتفاوض حول و ربما التنازل استجابة لضغط المجتمع الدولي،و تسكيناً مؤقتا لحدة تفجرات غير مرغوب فيها. فأيً تكن التحولات السياسية و ما ستفرز عنه نتائج الانتخابات الحالية؛ لا تحافظ على الصيغة الفيدرالية و الأطر الدستورية العامة الحاكمة لعلاقات الحكم المحلي بين الولايات و المركز . هذا إلى جانب ما آلت إليه الوضعية السيادية هذه المناطق داخل اراضي الدولة السودانية من إنشار كثيف للقوات الأممية بتفويض دولي لحماية المواطنين من عنف التفلتات الأمنية، الأمر الذي استدعى وضعاً ( هجينا) لتقاسم المهام الأمنية تطبيقا لإتفاقيات السلام مع تعقيدات المواجهات مع المجتمع الدولي على أكثر من صعيد سياسي و قانوني. الدولة (المركز) لن تسمح للمجموعات المهمشة أن تتناسل طبيعياً للوصول إلى نموذج فطري للدولة، و في الوقت نفسه لا تستوعب الوسائل السياسية بتحقيق قدرا من الاستقلالية أو المشاركة في السلطة تخطياً لدورة التعاقب الرئاسي الأنثني، مصدر توتر العلاقة بين الهامش و المركز. من جانب آخر سيسعى المركز شمالا إلى إقامة إطار محكم متجانس إثنياً – إن لم يتوافر بحكم الطبيعة الديمغرافية – أو إقليمي في الشمال الإثني ككيان في حدود الدولة العضوية Organic State الخالصة من شوائب الهامش. و إذا كان الفراغ السياسي سترك للقوة الفاعلة ( عسكريا) الحركات المسلحة فسيكون مصيرها ( الولايات المهمشة) رهينا بالوظائف و سياسة التوازنات القبلية التي يتبعها المركز في السيطرة، و الحفاظ على تراتبية العلاقة بين الهامش و المركز. لقد تناقصت مشروعات التنمية و البنى الاقتصادية في تلك المناطق التي لم تعرف معنى للتنمية إلا في آخر سلم أولويات الدولة، فإستحقت أن تنال توصيف حصريا كمناطق مهمشة في موجهات و أدبيات التنمية و السياسة السودانية. فبعد عقود من موجات العوامل البيئية التي زادت من حدة الصراعات المتأثرة بيئا فيما يعرف بال Ecological Conflict و عوامل النزوح و نتائجه الاجتماعية و الاقتصادية ،و تمزيق لنسيج اجتماعي قابلا للتفتت. كل هذه النتائج ستعوق محاولات التنمية البشرية أو إعمار ما دمرته الحروب لسنوات طويلة. فالحجم المنفذ من برامج اقتصادية أو مشروعات قائمة إزدهرت مؤخرا في المركز داخل المثلث المعروف في ادبيات التهميش المثلث الذهبي. وبهذا سيزداد إقصاء المهمشين عن دائرة التنمية و التعليم و الترقي الاجتماعي؛ و ستضعهم هذه الأوضاع داخل حظائر الأيدي العاملة الرخيصة في قاع المهن التي شكلت منسربا متخلفاً أحال المهمشين إلى شخصيات معتلة اجتماعياً sociopathic personality . يستحيل دمجها ضمن منظومة رعايا الدولة. بينما تكون موارد مناطقهم نهباً لإقتصاد الدولة الريعي. لقد أدرك الحركة الشعبية مؤخرا، بأن الالتزام بتطبيق نصوص اتفاقية السلام سيقود إلى إعادة نموذج السودان القديم الذي قاتلت طويلا لإزالته؛ أو أدعت ذلك. فصعبت استجابة ترجمة نصوصها على الواقع. فبقراءة المشهد الانتخابي الحالي، خاصة على مستوى رئاسة الجمهورية، و اكتفاء الحركة بترشيح قائدها على الجنوب. و بالإضافة إلى اقتصار المشرحين للرئاسة بما فيهم المرشحة للرئاسة- للمرة الأولى في تاريخ السودان- و المرشح الجنوبي في سياق شمالي ( المؤتمر الشعبي) ، يتضح أن السودان بملامحه القديم و تركيبته المهيمنة لا زالت على ثبات. فأي تكن نتائج الانتخابات القادمة من حيث الشفافية ونزاهة نتائجها أو تزوريها، لا تغير – باستثناء الجنوب- من واقع النظم التي رسمت و صاغت مواطنين يتحركون وفق قوانين الفيزياء اشد و جذب بين المركز و الهامش. فقد يأمل المهشمون أن تتغير صيغتهم في دورة المشاركة، سوى الالتفاف حول دوائر جغرافية ولائية خاضعة لأسس الصراع القبلي حول مناصب محدودة المجال و التأثير. المستقبل المشئوم الذي بدأت نذره في الأفق بذهاب السودان مزقا بتهديد وحدته في قارة ليست قابلة ببنيتها السياسية و الاجتماعية الهشة إلى مزيد من التفتت. ولكن باستمرار أو المحافظة على الأوضاع القائمة التي قادت إلى واقع لا يرضى عنه من يخضعون لشروطه المجحفة، يحكم على محاولات التغيير العنيفة التي تكبدت خسائر فادحة بالتوقف أو الرجوع إلى مرحلة ما قبل البداية0 Nassir Al Sayeid [[email protected]]