قد نفرت من قراءة الكتاب الأسود لأسباب منها: أنه كان يوزع علينا بالقطاعي وبخفاء شديد مثل البنقو، والسبب الثاني أنه اختصر جغرافية الغرب في مدينتي الجنينه والفاشر، وأخيراً يبدو لي أن مَن قاموا بتسطيره قد كانوا أنفسهم صورة مقلوبة من مشكلنا، فلقد عُمِيَّ فيما مضى على كثيرين أنهم قريش العجم ثم طلعت الشمس وبان هنالك كل شئ. نعم! ليس هنالك أضر على مشكل الهامش من مثقفيه فليطالب الهامش ساساته بالاعتذار مما أقترفوا في حقهم قبل الآخرين وإلا فأجيبونا: مَن قتل بولاد؟ حقاً قد كتبت بعض الكتب التي ناقشت جراحنا وقدرنا بحق، ولكن ما قرأت شبه كتاب مثلما قرأت: الكتاب الأبيض واختلال التنمية في السودان، للدكتور محمد سيد محمد أحمد، والتسآءل المشروع الذي قد يطرأ: لماذا عرض الكتاب الآن وقد مضى عليه سنوات؟ الجواب سهل وهو أنه قد يكون عرضه غيري ولي رأي آخر وهو أننا ما زلنا في مربع الآوان وليس هنالك شئ قد تغير أو فات، طالما زالت أوهام اليقظة تسيطر وتعكر صفونا. الكتاب موضوع المقال مؤلف من (46) صفحة من الحجم المتوسط، وطبع بمطبعة نيو ستار للطباعة، في الصفحة الثالثة أهدى الدكتور محمد سيد جهد كتابه إلى زمرة، سمى منهم ثلاثة أولهم ليته سكت عن ذكره، تنطبق عليه مقدمة المقال - أعلاه- وهو الدكتور رياك مشار، وكان يبدو عليه أنه في المحطة الوسطى قبل الرحيل، وإلا لو قدّر للدكتور أن يعيد طباعة الكتاب الآن لما تجرأ ذكر اسمه والسبب معروف! وأعجب ما سطّر في الاهداء أن كتب: إلى كل من ساهم في اصدار هذا الكتاب، كم هي عدد صفحات الكتاب؟ حتى تضفى إليه فخامة التعبير وكأنه مشروع وحدوي جلس منظروه السنين، وتزداد الغرابة أخي القارئ في استعراضك لفهرست محتويات الكتاب حيث إن المحتوى ليس بذاك، وعليه يسهل عليَّ أن أنقل لك كامل فهرسته كالآتي: الفصل الأول: ملخص ما جاء بالكتاب الأسود. الفصل الثاني: مقدمة وملاحظات عامة عن الكتاب الأسود. الفصل الثالث: رد على ما جاء في اختلال تقسيم السلطة. الفصل الرابع: رد على ما جاء في اختلال ميزان تقسيم الثروة. الفصل الخامس: اختلال التنمية في السودان. الفصل السادس: خاتمة. الفصول المذكورة تبين لك حقيقة فحوى الكتاب وهو: الرد على ما جاء بالكتاب الأسود، فهو بمثابة دعاية إعلامية تسد الطريق عليه من أن يأخذ محله من الرواج، ونسي الدكتور حقيقة إعلامية يعرفها المبتدئون في الدراسات الإعلامية مفادها أن طبيعة الأخبار غير المألوفة Bizarreness سرعان ما تنتشر ويتلهفها الكل؛ هذا ولطالما كنا في معرض تقيم الكتاب، فلنعرف أن الدكتور محمد في ثنايا ردوده امتاز بالشجاعة أحياناً في نقده لواقعنا الاجتماعي وادارة مؤسساته، وفي ذلك شمل رده حتى الحديث عن نتائج امتحانات الشهادة السودانية ومما ذكر: اطلعت على نتائج امتحانات الشهادة السودانية لعام 1999 -2000م ومن المؤسف حقا أن اتعرض الى النتيجة العامة والتي تعكس نوع التعليم في البلاد. أيضاً مما يحمد على سرده قوله: وعليه نحن نحتاج دولة وشعب أن نقف ولو لحظات ونسأل انفسنا إلى أين نحن سائرون نحن نحتاج الى وقفه مع النفس ننكر فيها ذاتنا ونحي فيها الحس الوطني والولاء لهذا التراب ونقوي فيها العاطفة للعمل من أجل هذا الوطن أولا. بالإضافة إلى ما ذكر من حسي وطني، يلحظ على فحوى الرد أنه لم يبلغ به الغرض الأقصى، والمثال على ذلك ما أورده في صفحة 45 : كتب الخليفة عبدالله إلى توفيق خديوي مصر وإلى الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا وإلى سلطان المسلمين في تركيا كيف يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر حب العلو في الدنيا بعد العلم بقول الله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين. أنا لا أدري مَن هم الذين لا يريدون علواً في الأرض في واقع السودان الآن؟! حشر الدكتور محمد مفهوم الإيمان بما يجري من تكويش ولملمة لا يلامس أرض الواقع لأن الأجندة المعروضة معظمها تنأ عن ما ورد من القول السامي، وعليه فلم العجلة في ذكر قول الخليفة عبدالله الذي لا يتناسب مقتضاه وحالتنا العويصة؛ فايراد الحديث على عواهنه بجمل مبهمة لا تستوفي الجواب المفيد هو مما يصدم القارئ، ومن ذلك أيضاً جملة ( نحن في السودان) ويتبعها بدل الشرح والتفصيل ببكاء يجعل القارئ يستفهم نفسه عن ماهية الرد؟ وللتوضيح يذكر: نحن في السودان نتحدث كثيرا عن التقسيم العادل للسلطة ولا نعرف أي سلطة نعني؟ .. ومما خلص إليه من جواب على استفهامه الكبير بأن وصف التقسيم العادل للسلطة ( بالكيلة الكبيرة) فكتب: خلال تجاربنا بعد الاستقلال اقتنع الشعب بان الحكم الفدرالي هو الأمثل لحكم البلاد، كما اقتنع الشعب اخيرا واتفق الجميع حكومة ومعارضة بحق تقرير المصير للجنوب وبهذا ازيلت أهم العقبات أمام السلام بالبلاد. ولكن ما لم يتعرض له الدكتور محمد بالحديث الشافي الذي يحسن السكوت عليه نكوص حكومة الإنقاذ ولعقدين من الزمان في ابقاء الأمر على ما كان، فقد كان على الدكتور في الأساس أن يعطى موضوع ما اتفق عليه الجمهور المساحة العريضة من الرد والنقاش بدل الطرق على عجل، لأن تفصيل معرفة أس الخلاف والأسباب التي لم تجعل من اتفاق الحكومة والشعب محلاً للتنفيذ وبالتالي الالتقاء ودرء الفتن مطلب الجميع، خاصة أن الكتاب الأبيض غرضه نقد ما جاء بالأسود من مزاعم مثل: وعندما استقر أمر الانقاذ وتوطدت لها أركان الدولة وبدات في تكوين وزاراتها لم تجد ما يدفعها للخروج عن نهج السابقين. ويكفيني من الاقتباس جملة ( نهج السابقين ) والتي فسرها أصحاب الأسود بما وصفوه بهيمنة مشروع الشمألة، ولكن موافقة لسياق الموضوع يبدو بأن (نهج السابقين) قد يعني عدم تبني الفيدرالية، وإلا كيف سنفسر مماطلة حكومة الأنقاذ من تنزيل ما اتفق عليه الجمهور واقعاً. بل كيف نتصور الأجيال التي نشأت تحت مظلة الهيمنة ستعفى مماطلة الإنقاذ من تبعة محاكمة التاريخ لها؟ أيضاً كيف نتخيل حقيقة التجربة نفسها. نعم! اقتنع الشعب وليست الحكومات خاصة الأنقاذ التي تناقص فيها مفهوم تقسيم الكيلة حتى صار احتلالاً بدلاً من اختلال. أيضاً أعقب الدكتور محمد حديث السلطة بتوأمه الثروة، وهنا تبدو احدى اشكالية الكتاب مرة أخرى في حديثه عن القضايا الراهنة التي تتعلق باختلال تقسيم الثروة بذكر أحداث الماضي بما لا يصلح حلاً ولا يجدي ومن ذلك: ذكر المشاريع التنموية في عهد الفريق عبود والحديث عن ترعتي الرهد وكنانة! حيث إن المطلوب الآن الفصل بين العهود والترحم على ما مضى، وعليه ذكر ما هو قائم على أساس مفهوم المفازَة بعد المسافة هو المحمود ذكره، أما التباكي فلا يجدي، وهو ما يلحظ على مجمل رد الكتاب، هذا ومما تفكرته في مفهوم الكيلة المذكورة بأنه يحسن ذكرها هنا وجعلها معيارا يُقاس عليها الحديث عن تقسيم الثروة بدلاً من التنصل والتكرار وتفكر فيما نصه: نحن في السودان نتحدث كثيرا عن التقسيم العادل للثروة ولا نعرف! أي ثروة نقتسمها. بعد نفي عدم المعرفة العامة غاص الدكتور في ذكر ما مضى فكتب: فمشروع الجزيرة والذي يعتبر احد أعظم منجزات الانسان في القرن العشرين، ومنذ الاستقلال ظللنا نقتسم موارده بالعدل..إلخ. المشكلة الكبرى في مشروع الجزيرة وما شاكله يا دكتور أن قسمة الكيلة أصبح أمرها مثل ادارة حكومة هايتي لآزماتها الاقتصادية والسياسية التي جعلت المواطن هنالك مكبل ولا يستطيع أن يجرأ بكلمة، وقد قال القائلون: من لا يملك قوته لا يملك قراره. هذا ولما كان الأمر بهذه المعضلة لم يجد الدكتور محمد بداً من ذكر سلبيات السياسات الزراعية والاقتصادية ولكن كالعادة لم يتطرق لدور سياسات حكومة الأمر الواقع من ذالك، فواصل حديثه فذكر: أين مشروع الجزيرة الآن خربناه بايدينا. وقوله: نحن نقطع الغابات ونحرق الأخشاب لانتاج الفحم. وقوله: نحن نبيع مصنع الكناف للقطاع الخاص ليزرع بالزره ونشتري احتياجات عام واحد من الخيش بمبلغ 15 مليون دولار قرض من اليابان هل هذا من قلة الامكانات لا والله من سوء الادارة وسوء التخطيط. و قوله: وادي نيالا يفيض في موسم الخريف وهو ليس أقل اندفاعا من النيل الأزرق يجري شرقا ثم جنوبا حتى يصب في بحر العرب ومدينة نيالا وما جاورها تعيش العطش باقي أيام السنة. أين النوبة؟! في ص 18 تحدث الدكتور محمد سيد عن كتاب (هجرة النوبيين) لحسن دفع الله.. وأثار طرقه لاسم "كجبار" فيَّ أحزان، وأنا هنا استميح القارئ بمداخلة قد لا تتصل بحقيقة عرضي للكتاب الأبيض بصورة مباشرة، تطرقت إليها بالتفصيل في موضوعي بسودانايل (مسح البوت) تعليقاً على مقال سابق بجريدة الوفاق لعبدالمحمود الكرنكي بعنوان: النوبة مَن همشهم ولماذا؟ لفت انتقاد الدكتور محمد للسياسات الادارية والزراعية نظري إلى نكبة النوبة بالجبال، ودخولهم الحراك السياسي من باب نائب الفاعل وبالتالي تسآءلت: أين النوبة؟ السؤال ملح ولم يترآى لي جوابه إلا في مسمى الجندي المجهول! قاتلوا وقتلوا لأي شئ ؟ أحتى تقوم دولة الجنوب؟ ما لنا والجنوب. وزاد الطين بلة النصيحة البلهاء التي قد جاءت على لسان اتحاد عام جبال النوبة: إذا صوّت الجنوبيون، وبالتالي القضية النوبية مرهونة بغير!. ويأسف المتابع لمجري الأحداث من أبناء النوبة أن يرى مثل هذا الترهل السياسي في بني جنسه، لأن بمثل هذه الرؤى القاصرة تقاسم المؤتمر الوطني والمتآمرون من الحركة الشعبية إرث مَن لم يمت صاحبه بعد، ومن الأدلة على ذلك: يبارك للحركة! رابطة جبال النوبة العالمية وبأمريكيا تعين القائد فلان أو ترشيح الكادر النوباوي في منطقة جبال النوبة! والله لو انضم النوبة كأفراد للحركة مثل ياسر عرمان أو ما شاكله، لما كتبنا نقطة على حرف، ولكن دخل النوبة الحركة بالكيله التي ذكرها الدكتور، وبموجبه تمددت الحركة من الغابة إلى الخرطوم وماذا كانت النتيجة، صارت القضية النوبية فضلة ومرهونة وفي جيب الآخرين، وهو سبب مباشر لما نراه من ترهل القضية وتقاسمها بين ألد خصميها، يا ليت قادة النوبة عن الحركة كانوا مثل قادة الفور في التسامي، أخذوا نصيبهم في الشمال ثم استداروا فلفت قضيتهم الكرة الأرضية بل صارت مؤسسات النظام الدولي نفسها مرهونة في مصداقيتها بقضية دارفور! أما ما يسمى بقادة النوبة عن الحركة فلا يهمهم إلا التبريك والجرى إلى جوبا لشكوى فلان أو تنصيب علان. اللهم لا شماتة. الالتفات إلى ذكر هذه الخواطر النوبية المحزنة هي ما استفدته من قراءتي لما يسمى بالكتاب الأبيض، وإن كنت بالتأكيد ادري مرة أخرى أن اقحامها هنا لا يناسب موضوع المقال، ولكن أردت أن أشد من أزر من كتب من ابناء النوبة الأحرار في هذه الصفحة المقدرة عن المأساة وما آلت إليه القضية النوبية. adof gadam [[email protected]]