ليست الديمقراطية مجرد انتخابات تجري. فمن الممكن اجراء الإنتخابات دون ان تكون هناك ديمقراطية حقيقية. الإنتخابات وسيلة من وسائل حكم الشعب لنفسه. ولكي يتحقق هذا الهدف، يجب أن تكون الإنتخابات حرة ونزيهة وعادلة. وهذه، يلزمها في المقام الأول إستقلال القضاء، وسيادة حكم القانون، وفوق ذلك حماية الحقوق والحريات الأساسية. التزوير يحول دون حكم الشعب نظام الهوس الديني العسكري الحاكم في السودان الآن، يفتقر الي الديمقراطية بحكم تكوينه الفكري و طبيعته السلطوية. ولا يمكن لنظام حكم فاسد كهذا ان يجري إنتخابات حرة ونزيهة، لأن قادته لا يؤمنون أصلاً بالديمقراطية. اكثر من ذلك فأن افراد الجماعة الحاكمة في السودان الآن، بينهم من يتجنب الحديث عن الديمقراطية، ومنهم من لايزال يعتقد حتي اليوم، بأن (الديمقراطية كفر)!! حزب (المؤتمر الوطني) الحالي، أو (الجبهة الإسلامية) فيما مضي،جاء الى السلطة عن طريق إنقلاب عسكري، اطاح بنظام حكم ديمقراطي عام1989 وهمش الشعب السوداني بأسره. وإذا كانت الإنتخابات وسيلة لحكم الشعب، فأن تزوير الإنتخابات الموبق بواسطة هذا النظام، يضاعف من تهميش المواطنيين، و يحول دون حكم الشعب لنفسه، و اختيار المواطنين لممثليهم الحقيقيين، كما يمنع مشاركة المواطن الفعالة في العملية السياسية. وعندما يقيد القانون الجنائي (الإنقاذي) حرية التعبير والتنظيم في ولايات السودان المختلفة، تصبح الإنتخابات الديمقراطية حلماً بعيد المنال. وعندما يستخدم حزب المؤتمر الوطني أغلبيته الميكانيكية في البرلمان، غير المنتخب، لتمرير قوانين، مثل (قانون الأمن الوطني) الذي يبيح لجهاز الأمن والمخابرات انتهاك الحقوق الدستورية للمواطنين، و إعتقالهم لعدة اشهر بدون امر قضائي، مع منح افراد الأمن والمخابرات حصانة، تمنع عنهم المحاسبة والمساءلة القانونية، يغدو الحديث عن الإنتخابات الحرة والنزيهة، ضرباً من ضروب الوهم والخيال الضال. وعندما تصدر محكمة في السودان، تسمي نفسها المحكمة الدستورية،حكما تقر به الرقابة القبلية علي الصحف بواسطة أجهزة الأمن والمخابرات، و ترسي بذلك سابقة قضائية عجيبة، تنتحب الديمقراطية، وكأنها تجيب علي قائل يقول: مررت بالديمقراطية وهي تبكي فقلت علام تنتحب الفتاة ؟ الديمقراطية أساسها الحريات المحمية بالقانون الدستوري، كحرية الفكر والتعبير والتنظيم، ثم المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون. وغياب إستقلال القضاء وإنتهاك سيادة حكم القانون، من قبل المسؤولين في الدولة، يعني إستحالة تحقيق العدالة والنزاهة في الإنتخابات. مؤسسات الدولة .. فروع الحزب الحاكم منذ إنقلابها العسكري علي النظام الديمقراطي في عام 1989 سعت جماعة حزب المؤتمر الوطني، لتكريس الدكتاتورية، من خلال السيطرة المطلقة على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، واخضاع جميع أجهزة الخدمة العامة، للسيطرة الديكتاتورية العقائدية. ومن العبث بعقول الناس، الحديث الآن عن منح المرشحين، غير الموالين للحزب الحاكم فرصة صغيرة، للظهور خلال اليومين القادمين، في أجهزة الإعلام الرسمية، كالإذاعة والتلفزيون، أثناء الحملة الإنتخابية، بينما ظلت هذه الأجهزة الرسمية، مسخرة تسخيراً تاماً لخدمة جماعة المؤتمر الوطني الحاكمة، لمدة تزيد عن العشرين عاماً!! والحق ان جميع مؤسسات الدولة أضحت، فروعاً لحزب المؤتمر الوطني، بما في ذلك الأجهزة الأمنية و الجيش و الشرطة، منذ أن فصل انقلابيو ( الإنقاذ) الآف العاملين من الخدمة العامة، وشردوا الكفاءات والشرفاء في مختلف اجهزة الدولة، وأحلوا محلهم كوادر جماعتهم الفاسدة. وإنعدام الحياد و النزاهة في الخدمة العامة، هو في حد ذاته نوع من (التزوير غير المباشر) للإنتخابات المزمع اجراؤها. اما الغش و(التزوير المباشر) في هذه الإنتخابات فقد بدأ بتزوير نتائج التعداد السكاني، وما تبعه من تقسيم غير صحيح، وغير عادل للدوائر الإنتخابية، وما أعقب ذلك من عبث وتلاعب كبير، في السجل الإنتخابي، الذي تم حشوه بأسماء مزورة، يقدر عددها بأكثر من 10 ملايين. و إذا لم تتم إعادة النظر في نتائج التعداد، ولم يتم تصحيح التزوير الكبير في السجل الإنتخابي، ستكون نتائج الإنتخابات، قد حسمت منذ مرحلة التسجيل. و سيبقي السؤال الحائر: ما هي جدوي المراقبة الدولية لهذه الإنتخابات في مرحلة الإقتراع؟ سناريوهات الإنتخابات ولعبة الأرقام ان الجماعة التي انقلبت عسكرياً علي النظام الديمقراطي، لن تعجز عن تزوير الإنتخابات. ففي آخر إنتخابات أجريت عام 2000 حصل عمر البشير علي اكثر من 7 ملايين من الأصوات بنسبة86 % من جملة المصوتين، كما حصل جعفر نميري علي حوالي %9 من مجموع الأصوات، ومالك حسين علي % 2، وقد إحتج الإثنان علي (تزوير الإنتخابات) بعد إعلان النتيجة، وحصل محمود جحا علي حوالي %1 من جملة الأصوات، كما حصل آخرون علي نفس النسبة. ومن طرائف تلك الإنتخابات ان احد ضباط المراكز الإنتخابية، عندما لم يحضر احد للإدلاء بصوته، تولي بنفسه التصويت نيابة عن كل سكان المنطقة، لمصلحة مرشح الحزب الحاكم، قبل ان يقوم بإغلاق ابواب المركز. بيد ان بعض (المراقبين) الأجانب، وصفوا تلك (الإنتخابات) في تقاريرهم، بانها كانت حرة ونزيهة! وبالنسبة، الي الإنتخابات المزمع إجراؤها في ابريل2010 ، ستقوم الجماعة بإخراج سناريوهاتها المعدة سلفاً، لتزوير هذه الإنتخابات. وبدخول عامل (المحكمة الجنائية الدولية) التي تلاحق مرشح المؤتمر الوطني في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أو ما يمكن تسميته بعامل ( اوكامبو) في المعادلة الإنتخابية، ستزعم الجماعة الحاكمة، ان نسبة الذي صوتوا وصلت الي % 80 او حتي %90 من العدد الإجمالي للمسجلين، وستدعي بذلك التفوق، علي كل الديمقراطيات الراسخة في عالمنا المعاصر. وبطبيعة الحال ستثير نتائج هذا السناريوهات، الكثير من الشكوك واللغط والإشكاليات والمتاعب، وستكون محرجة للغاية بالنسبة لمعظم الأحزاب والأشخاص، الذي ارتضوا خوض هذه الإنتخابات، خاصة المنافسين في إنتخابات رئيس الجمهورية. وبنظرة واقعية لأحد السناريوهات المحتملة،وبأخذ عامل( اوكامبو) في الإعتبار، سيصل العدد الإجمالي للمقترعين الي حوالي 12.8 مليون او يزيد، فإذا حدث ذلك يمكن التكهن منذ الآن بنتيجة الخدعة الإنتخابية، اذا ما اجريت الإنتخابات بالفعل. ومع مراعاة هامش الخطأ البسيط، ستقترب نتيجة التصويت في انتخابات رئيس الجمهورية، من الأرقام الأتية: 1- عمر حسن البشير، مرشح حزب المؤتمر الوطني الحاكم، نحو 6.694 مليون صوت، حوالي % 52.3 من جملة الأصوات. 2- ياسر سعيد عرمان، مرشح الحركة الشعبية، نحو 4.122 مليون صوت، حوالي %32.2 من جملة الأصوات، معظمهما من الجنوب. 3- الصادق المهدي،إمام الأنصار، ومرشح حزب الأمة القومي، نحو 806 الف صوت، حوالي % 6.3 من جملة الأصوات. 4- حاتم السر،مرشح الإتحادي الديمقراطي-الأصل، نحو 384 الف صوت، حوالي %3 من جملة الأصوات. 5- منير شيخ الدين، الحزب القومي الديمقراطي الجديد، نحو 166الف صوت، حوالي 1.3% من جملة الأصوات. 6- فاطمة عبد المحمود، الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي، نحو 154الف صوت، حوالي%1.2 من جملة الأصوات. 7- عبد الله دينق نيال، المؤتمر الشعبي، نحو 128الف صوت، حوالي % 1من جملة الأصوات. 8- مبارك الفاضل المهدي، حزب الأمة الإصلاح والتجديد، نحو 115الف صوت، حوالي%0.9 من جملة الأصوات. 9- محمد ابراهيم نقد، الحزب الشيوعي السوداني، نحو 76 الف صوت، حوالي %0.6 من جملة الأصوات. 10 - عبد العزيز خالد، التحالفالسوداني نحو 64 الف صوت، حوالي %0.5 من جملة الأصوات. 11 - كامل ادريس، مستقل، نحو51 الف صوت، حوالي % 0.4 من جملة الأصوات. 12 -محمود أحمد جحا، مستقل، نحو 51 الف صوت، حوالي%0.4 من جملة الأصوات. و بقليل من التصرف، يمكن تعميم النسب اعلاه علي مستويات الترشيح المختلفة. وقد حاولت جماعة المؤتمر الوطني، مساومة الحركة الشعبية، و إقناعها بسحب مرشحها لصالح البشير، ليس لأن الجماعة الحاكمة لا تضمن فوز مرشحها للرئاسة في هذه الإنتخابات، التي يتفق جميع العقلاء علي تزويرها منذ البداية. و لكن لأسباب اخري من بينها عامل( اوكامبو) من جهة،و لأن الطبخة الإنتخابية (الإنقاذية) ستصبح عسيرة الهضم، بالنسبة لمعظم المشاركين، من جهة اخري. و حتي لو كانت هناك جولة ثانية، فلن تتغير النتيجة النهائية المعدة سلفاً، وهي فوزمرشح المؤتمر الوطني. السلام يتحقق بالديمقراطية الحقيقية الذين إرتضوا لأنفسهم الجلوس في مكان(طيور الزينة) و أختاروا لعب أدوار الكمبارس، في هذه الدراما الإنتخابية السخيفة، برغم إدانتهم للتزوير الكبير، الذي شاب و يشوب العملية الإنتخابية برمتها، يبدو ان المصالح والأجندة الحزبية والشخصية الخاصة، طغت لديهم في هذا الوقت العصيب، و غير المناسب،للمناورات السياسية. والا فأن هذه الإنتخابات الكلبتوقراطية، لاطائل من ورائها. هي إنتخابات مغشوشة، ترمي في هذا المنعطف الخطير، من تاريخ السودان، الي تكريس دكتاتورية حزب المؤتمر الوطني، المتسربلة بثياب الدين،برغم فسادها الذي أزكم الأنوف. هل يعقل ان تحقق الديكتاتورية الغاشمة (السلام الشامل) في السودان؟ الواقع ان خطر هذه الديكتاتورية، اخذ ينذر كل صباح جديد، بإلإنحدار نحو قاع الدولة الفاشلة. فلقد أعقب التوقيع علي إتفاقيات (لسلام الشامل) إندلاع الحرب في إقليم دارفور، ثم عاد الجنوب من جديد، الي الصراعات القبلية والإثنية المسلحة، والمدعومة من قبل ديكتاتورية (المؤتمر الوطني) بصورة تشبه ما حدث في دارفور، و بكل ما تعنيه هذه الصراعات، من زعزعة للسلم والإستقرار، على المستويين المحلي والإقليمي، و من تهديد للسلم والأمن الدوليين. خلاصة القول إذن: لن يتحقق السلام الحقيقي في السودان، الا بزوال هذه الديكتاتورية التي وطنت الجهل والفقر والإنقسام في السودان. اما السلام الحقيقي في هذا البلد، فيتحقق في مبتداه ومنتهاه، عن طريق الديمقراطية الحقيقية، التي تكرس لحكم الشعب وتحقق من ثم مصلحة اهل السودان أجمعين. عرمان محمد احمد 10/02/2010