عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. بالعودة مرة أخرى لقضية "نورا حسين" التي أدانتها محكمة سودانية في ابريل 2018 بجريمة بقتل زوجها عمداً. و قد قامت اسرتها بتزويجها دون رضاها و هي في عمر 16 عاماً. أثارت القضية بقوة مسائل زواج القاصرات، و الأغتصاب الزوجي، العنف المنزلي ..الى غير ذلك من موضوعات. مثلما كمنت قد شرحت في ورقة سابقة، أن أحد أهم أسباب زواج القاصرات في السودان هو الفقر، الذي يلعب دور المحرك الرئيسي للاسباب الأخرى المتفرعة، مثل الجهل و التخلف و الاستغلال. باستصحاب ظروف زواج القاصرات في السودان، من السهل إدراج عدد كبير من تلك الزيجات تحت صور الاستغلال و الاستعباد الجنسي. يشكل زواج القاصرات إنتهاك جسيم على حقوق الانسان كما تعرفها القوانين الدولية. تتأسس العلاقة في هذا النوع من الزيجات بين ارادتين غير متكافئتين، ارادة مهيمنة و هي ارادة الرجل، و ارادة خاضعة و مستسلمة و هي ارادة الزوجة القاصر. في سياق تلك العلاقة الملتبسة، يتم استغلال القاصر بكافة انواع الاستغلال، لا سيما حينما يكون المجتمع و الثقافة المحلية و الدينية السائدة، و القوانين تدعم و تؤيد مثل تلك العلاقة. من المعروف أن عَلِية القوم والأثرياء والوجهاء والأقوياء نفوذاً وسلطة، هم من يطلبون ويسعون للزواج من البنات القاصرات، و كنتيجة لتداعيات الفقر و الجهل و التخلف، يقوم الآباء بتسليم بناتهم، تحت ستار الزوجية، و بموجب إختلال في مستوى الإرادة القانونية و الاهلية لدى كل طرف. و في هذا السياق يمكن تصنيف تلك العلاقة بانها "عنف مجتمعي" يتجاوز تطلعات الفرد و رغباته، الي تكريس نظام ثقافي و إجتماعي متكامل. ويعرف قانون روما للمحكمة الجنائية الدولية "العبودية الجنسية" بأنها تعني ممارسة أي أو جميع السلطات المتعلقة «بحقوق الملكية» على شخص ما، ويشمل ذلك الانتهاك الجنسي المتكرر أو إجبار الضحية على تقديم الخدمات الجنسية، ويشمل أيضاً الاغتصاب من قبل المالك. ويضم التعريف أيضاً الحالات التي يجبر فيها الشخص على مزاولة الأعمال المنزلية أو الزواج أو إجباره على ممارسة أعمال السخرة الأخرى مثل ممارسة الأنشطة الجنسية. و قد يقصد بالعنف الذي يمارسه المجتمع كشخص معنوي كل انواع العادات و التقاليد و الثقافة المجتمعية، و الذي يتضمن الثقافات الدينية المحلية، و هذا النمط من العنف ضد المرأة هو عنف منظم و مستمر و متنامي، و هنا لا نقصد بالعنف فقط اشكال الاعتداءات الجنسية و المعنوية المباشرة على أية إمرأة، بل يقصد به اشكال السلوك الفردي و الاجتماعي التي تنال من المرأة و تحط من قدرها و تكرس تبعيتها و تزيد إنسحاقها و تحرمها من ممارسة أيا من حقوقها المقررة لها شرعاً و قانوناً، بل يقصد به ايضاً السلوك الغير مباشر ضد المرأة ككائن إجتماعي. إن كافة تلك السلوكيات الفردية و الاجتماعية قائمة و مؤسسة على نظرة مجتمعية للمرأة باعتبارها كائن خاضع و تابع للرجل، بالصورة التي قد تتخذ في بعض حالتها صورة الملكية، و هذه التبعية للرجل مبنية على افتراض انها كائن أضعف و أقل منه، و هي افتراضات ثابتة و راسخة و متوارثة بقصد الابقاء على الحال كما هو عليه بحكم ان المستفيدين من تلك الوضعية لا يرغبون في تغييرها. ظلت المجتمعات النامية - و ضمن حالة الكمون التي تعيشها - تحافظ، او فلنقل تتوارث، تلك الفرضية القائمة على الهيمنة و السيطرة و التحكم، و استخدام القوة لتأكيد تلك السيطرة، بعد ان تم تسييج تلك الفرضيات و تدعيمها بالعديد من القوانين و الثقافات المحلية و الدينية، فاصبحت نظام اجتماعي متكامل، يلعب كل افراد المجتمع فيه دور بما في ذلك النساء. و بالتالي هي ليست عبودية سرية، وانما تتم ممارستها في وضح النهار، برعاية المجتمع و مؤسساته. ومن سخرية الاقدار أن الشرطة و المؤسسات العدلية، التي قد تلجأ اليها الفتاة بغرض الحماية، تقوم باعادة تسليمها الي "سيدها" زوجها، او اخيها. و في ظل تلك التشوهات المعيقة، تكون لفئات المجتمع المختلفة ادوار متباينة لتأكيد سيادة تلك الثقافة التمييزية ضد المرأة، فالرجل في تلك المجتمعات، و بوصفه أحد عناصر المنظومة الاجتماعية، و لا يصيبه النظام الاجتماعي السائد بضرر مباشر، او يرى من منظار الجهل و التخلف، بان لديه مصلحة في بقاء الحال على ما هو عليه، بسبب ما يلقاه من فوائد و مصالح مباشرة على حساب المرأة. لكن الملفت للنظر، بالقدر الذي كانت فيه المنظومة الاجتماعية و مؤسساتها، و قوانينها و ثقافتها، متماسكة و صعبة الاختراق في البلدان النامية، نجد أن المرأة - و برغم إنها الضحية المباشرة لتلك المنظومة – هي أيضاً جزء من عناصر تفعيل و تحريك تلك المنظومة بما يعزز نظام الانتهاكات و العنف ضد المراة، فتجدها تقبل تلك التفرقة و تتعايش معها بل و كثيراً ما تدافع عنها و تستهجن اي تمرد عليها أو او رفض لها ، باعتبار أن تلك التفرقة هي من اساسيات تقسيم الادوار الاجتماعية، و جزء من الثقافة و المعتقدات الواجبة الاحترام و الاتباع، و التي تأسس عليها الوجود البشري منذ نشأته. و بالتالي نجد أن كل اشخاص المجتمع – الطبيعية و المعنوية – تخضع لتلك المنظومة بوصفها ميراث لا يجوز الخروج عليه، و بل أن الخروج قد يستلزم العقاب. و تجارب المرأة مع الزواج القسري، في مجتمعاتنا، لا سيما في الارياف، و المجتمعات القبلية المغلقة، قاسية جداً، و مضرة بالمجتمع ككل. إذ لا شك ان الزواج القسري، يتضمن صورا غير محصورة من العنف، و التي من بينها الاغتصاب و الاستعباد و الحمل القسري و الاجهاض القسري و كافة صور العنف الجنسي و ما يصاحب ذلك من معاملة لا انسانية تمثل اكثر انواع الاهانة قسوة و حطاً بالكرامة و ليس فقط في مواجهة الضحية و لكن ايضا في مواجهة أهلها و ذويها. نصت المادة 16 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان بان (لا يعقد الزواج الا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملا لا إكراه فيه). و هذه المادة تنصيص لما وصل اليه ضمير العالم في العصر الحالي، و تتضمن المادة مبدأ المساواة بين الذكر و الانثى فيما يتعلق بشئون الزواج بما يعني و يؤكد عدم جواز الزواج من المرأة بغير رضاها، او بعنف او من خلال الاجبار. و في نفس الاتجاه ذهبت المادة الثالثة ، و كذلك نصت المادة الثامنة من العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية، و التي تؤكد على تحريم الرق و الاستعباد و الذي يقع معظمه على النساء. أن القضاء على إستغلال الاطفال في أي نوع من انواع الاستغلال الجنسي سيتيسر باعتماد نهج جامع، يتصدى للعوامل المساهمة في ذلك والتي تشمل التخلف والفقر والتفاوت في مستويات الدخل والهياكل الاجتماعية الاقتصادية الجائرة وتعطل الدور الذي تؤديه الأسر والافتقار إلى التربية والهجرة من الأرياف إلى المدن والتمييز المبني على نوع الجنس والسلوك الجنسي اللامسؤول من جانب الكبار والممارسات التقليدية الضارة والنزاعات المسلحة والاتجار بالأطفال. إضافة إلى ذلك لابد من رفع الوعي والتوعية بالأضرار المبنية على زواج الطفلات والذي يحرم الطفلة كافة الحقوق مثل النمو والتعليم، مع الأخذ في الاعتبار ما ذهبت إليه بعض الدول الإسلامية في منع زواج القصر. لا يوجد في التشريع السوداني نص صريح يمنع زواج القُاصرات، و وجود نص صريح وواضح بشأن منع زواج القاصرات مهم لكونه تترتب عليه العديد من الترتيبات الجزائية و التاديبية. خير مثال للمنع المرتبط بعقوبات و تدابير تأديبية ما جاء في قانون الأحوال الشخصية المصري للمسلمين، فقد نصت المادة: (31) من القانون رقم (143) لسنة 1994 بشأن الأحوال المدنية والمضافة عام 2008 على الآتي: لا يجوز توثيق عقد زواج لمن لم يبلغ من الجنسين ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة.. ويعاقب تأديبيًا كل من وثق زواجًا بالمخالفة لأحكام هذه المادة . بموجب قانون الطفل السوداني، الصادر في العام 2010 م حدد تعريف الطفل بانه كل شخص لم يبلغ سن 18، و لكن قانون لطفل ليس هو المرجع النهائي للنزاعات المتصلة بالاطفال في السودان، حيث أن النزاعات المتصلة بالزواج يتم الفصل فيها بموجب قانون الأحوال الشخصية، و الذي يعترف بزواج القاصرات و لا يحرمه، و هو بالتالي يحتاج الي تعديلات جوهرية في هذا الصدد لتواكب مع ما وصل اليه قانون الطفل من تطور. و من الواضح ان المؤسسات العدلية و موسسات صياغة القوانين، تستند على رؤية موحدة في هذا الشأن، لا سيما حينما نلحظ إصرار السودان و تحفظه على المادة التى تمنع زواج الطفلات في الميثاق الإفريقي لحقوق ورفاهية الطفل 1990. و قد كانت المادة 21 من الميثاق الافريقي لحقوق الطفل قد اوصت بعدد من التدابير لضمان مستوى عالي من الحماية للاطفال، من بينها حظر زواج الاطفال و خطبة الفتيات و الاولاد، و اتخاذ الاجراءات الفعالة - بما في ذلك – التشريعات لتحديد الحد الادنى لسن الزواج ليكون 18 سنة، و القيام بتسجيل كافة الزيجات في سجل رسمي إجباري. و بحسب مسوحات أجرتها اليونسيف في عام 2013 بالتعاون مع مجلس رعاية الطفولة، تأكد إنه برغم التطور الكبير في القانون على المستوى الدولي في شأن محاربة زواج القاصرات، أكدت نتيجة المسح ارتفاعا شديدا جداً في نسبة زواج القاصرات في بعض ولايات السودان.