ومن مأثورات عُمَّال "ميكانيكا السيارات" قولهم : (مساعد الياي هو المساعد الوحيد الذي لا يترقَّى أبداً !!).. وقد أخذ آخرون هذا الأثر ، فأضافوا إليه مساعدين آخرين ، ليس هنا مجال ذكرهم .. أما ما يجدُرُ ذِكرُهُ هنا ، فهو قول الشاعر : قواصدُ كافورٍ توارِكُ غيرِهِ و من قصد البحر استقَلَّ السواقيا إذ إن المتنبي هنا ، لم يكُن إلاَّ من أتباع مذهب الميكانيكية ، مع قليل من التصرُّف ، فالمتنبي لم يكن يعرف شيئاً عن "الياي" و "مساعد الياي" ، ولكنه كان يعرف الملوك والبحار ، من ناحية ، ويعرف عوامَّ الكُرماء و"الجداوِل" من ناحية أُخرى ، وهو يرى أن "السواقي – يعني الجداول" جديرة بالإحتقار ، مقارنة بالبحر أو النهر !! و كِلا الحَكَمين – الميكانيكية والمتنبي – ليسا بِدعاً من البشر ، في ترتيبهم المتعجِّل للأشياء وللناس ، ذلك الترتيب الذي ينبني على خصائص شكليّة ، ولا يختبر قيم الأشياء اختباراً علمياً وموضوعياً .. فالمجتمعات الإنسانية ، كلها تقريباً ، تتفق على ترتيب الناس – من حيث الأهمية – على أُسُس شكليّة أو مصلحيّة عاجلة ، مرتبطة إمّا بمراتب إقتصادية (الأغنياء أهم من الفقراء ، وأجدر بالإحترام) .. أو مراتب إجتماعية – سلطويّة ، أو مهنيّة : (الوزير أهم من الخفير ، والطبيب أهم من مساعده ، وضابط الشرطة أهم ممن هم أدنى منه رتبة .. إلخ) .. أو مراتب علمية : (حامل درجة الدكتوراة أهم من حامل درجة الماجستير ، والذي يحمل أية شهادة علمية ، أهم ممن لا يحمل ذات الشهادة أو أكبر منها ، إلخ) .. بل ينبني الترتيب أحياناً على مراتب ظرفية ، زمانية أو مكانية : ( السابق أهم من اللاحق ، والأقرب أهم من الأبعد ، إلخ )..... و بالإستناد إلى هذه المنهجية التقويمية وحدها ، قرر "الميكانيكية " أن الياي أهم من مساعده ، وأكد المتنبي أن البحر أو النهر أهم من السواقي "يعني بها الجداول التي تسقي الزرع" !!! وأخطر ما في هذا النهج التقويمي من فساد ، هو أنهُ – مع التواتُر والشيوع الذي يُحظى به – يُصيب الجداول و مساعدي الياي وأشباههما من الناس ، بفقدان الثقة بالنفس ، والإحساس بالدونيّة والتهميش ، وبالتالي الوقوع في إحدى الوعكتين النفس- سلوكيتين التاليتين : التزلُّف والتملُّق والنفاق ، طمعاً في نيل نظرة حنان من الرتب الأعلى ، أو الإنكفاء على الذات والحقد على المجتمع ونبذه ، انتقاماً من اضطهاده .. وكلتا الحالين تؤديان (في عُرف المادِّيِّين) إلى تدنِّي مستوى الإنتاج ، (وفي عُرف المثاليين) إلى بؤس قطاع عريض من المجتمع ، وانهيار القيم الأخلاقيّة !!(وفي عُرف رجال الأديان) إلى "الفساد في الأرض"!!! خُبراءُ النفس يحاولون إصلاح الأمر بطرح سؤال بسيط ، من قبيل : - هب أنّ مصانع قطع غيار السيارات كفَّت عن انتاج (مساعدات الياي) ، هل يستطيع السيد المبجّل ، الياي ، القيام بمهمّة مساعده؟؟ والجواب – بداهة - : لا.. - و ماذا سوف يفعل "الياي" إذاً ؟؟ - سوف يتمنّى لو أنهُ يستطيع أن يُصبِح مساعداً ، ولن يستطيع !! - والنتيجة !! سوف يُصبحُ السيد الياي بلا عمل ، وسوف تنهار صناعة السيارات !! - ولو أنهم كفُّوا عن حفر الجداول ، هل يستطيع السيد النهر أن يسقي الزرع "بمعرفته"؟؟ - سوف يحاول ، ولكنهُ بدلاً عن ري الزرع ، سوف يُغرِقُهُ ويُدمِّرُه !! وهذا – بالضبط – هو ما حدث لصديقنا المتنبي ، الذي كان يأتيه رزقه رغداً ، من (السواقيا) حتّى (استقلها) وقصد البحر ، ففعل به البحر ما لن ينساهُ إلى يوم القيامة ، وجعلهُ يفِرُّ تحت ستار الظلام ، خائفاً يترقب ، ثم جعلهُ يهجو ذلك البحر ، هجاءً ظل – على مرارته وبلاغته – وصمة تاريخية في جبين سلطان الشعر العربي ، ودليلاً على هشاشة موقفه ، وتناقضه ، بل ونفاقه حيال كافور ، ذلك البحر الذي استقل من أجله واحتقر (السواقيا) .. فأدركتهُ "لعنة السواقي" هامش : لعناية القارئ الكريم : "والغافل من ظن الأشياءَ هي الأشياءْ"!!!! ali yasien [[email protected]]