تكرر الحديث، كثيرا، حول استقلالية الحزب الشيوعي السوداني وهويته السودانية، ومقال السر الأخير هو أحد نماذج تلك الاطروحات. والسر هو من أكثر المدافعين عن تلك الأطروحة، ويدخلها في مقالاته بمناسبة وبدون مناسبة. وأؤمن أن أخطر المحاولات التي تتم لتحوير التاريخ هي تلك التي تتم لأسباب أيديولوجية أو حزبية أو وطنية. لذلك أدعو وأرى ان نتعامل مع التاريخ بأمانة، بكل حسناته وسيئاته. وان نتعلم من دروسه، تحت الشعار الذي أقدره كثيرا، " فلننظر للخلف لتشكيل المستقبل". لذلك علينا التحلي بالشجاعة والموضوعية للنظر في تجاربنا ومواقفنا السابقة، والتعلم منها. أصبحت علاقة الحزب الشيوعي السوداني بالحزب الشيوعي والدولة السوفيتية جزء من تاريخ المؤسستين، ويجب التعامل الموضوعي معها على هذا الأساس. ولكي يكون موقفي واضحا، لا لبس فيه، ومنذ البداية، هو انني لا أؤمن بان الحزب الشيوعي السوداني كان عميلا للحزب السوفيتي، كما تقول بعض الأصوات المعادية والنشاز. وأنه كان يتلقى من الحزب السوفيتي الأوامر والنواهي. وأنه لا تهمه القضية الوطنية السودانية، بل يهتم بالدولة السوفيتية ومخططاتها. وأرى ان تلك الاتهامات تشوه تاريخ مؤسسة وطنية عريقة. كما يسئ لعشرات الشهداء الذين ضحوا بحياتهم من اجل هذا الوطن. والالاف من الذين ضحوا، بكل شيء، وصمدوا في أصعب الظروف. علينا توضيح العلاقة بين الحزب الشيوعي السوداني والحزب السوفيتي ودولته، وان يتم ذلك بصدق وشفافية. فالدولة السوفيتية هي اول دولة اشتراكية في العالم، ولهذا تشكل النموذج الرائد، الذي سعت معظم الأحزاب الشيوعية لتقفي منهجه، بل سعى بعضها في محاولة محاكاته. كما ان الإنجازات الضخمة للدولة السوفيتية، في كافة جوانب الحياة، بما فيها الحرب الأهلية والعالمية الثانية، اعطتها بريقا خلابا للشعوب التي كانت تحت نير الاستعمار والتخلف. انطلاقا من تلك الإنجازات تبنى الحزب الشيوعي السوداني الماركسية اللينينية. وهذا يؤكد تمسكه باللينينية، واضافاتها النظرية في حقول تنظيم الحزب، والدولة، والسياسات العامة، والموقف من الامبريالية الخ. والتمسك باللينينية يعني التمسك بكامل التجربة السوفيتية. ومن الطبيعي جدا، وفي ظل الاستقطاب الحاد للحرب الباردة، ان يكون الحزب السوداني في الخندق السوفيتي، لزمالة الفكر الواحد، ووحدة النضال ضد الامبريالية والرأسمالية. كان الحزب الشيوعي السوفيتي يؤمن بانه قائد معسكر الاشتراكية في العالم. وأخذ هذه القيادية وضعا مؤسسا من خلال تأسيس الأممية الشيوعية (الكومنتيرن). والتي أصبحت القيادة الموحدة للحركة الشيوعية العالمية ، تحدد لها أساليب عملها ، وتكتيكاتها وتحالفاتها ، بل وبرامجها. وعلى رأس تلك المنظومة يقف الحزب السوفيتي. بل وأملت الأممية شروطا لاي حزب يود الانضمام لها، من أهمها ان يسمي نفسه الحزب الشيوعي. توقف ذلك الزخم عند حل الكومنتيرن في، بسبب تحالف ستالين مع الحلفاء في الحرب ضد النازية في 1943. وبعد الحرب تم انشاء الكومنفورم، من بعض الأحزاب الاوربية الكبيرة، وأعطي الكمومنفورم بعض الاستقلالية للأحزاب، ثم حل ليحل محله الاجتماعات الدورية للأحزاب. ما يهمنا هنا ان في كل تلك الفترات والمنظمات، لعب الحزب السوفيتي دور القائد أو الأخ الأكبر، الذي يملك الحق في توجيه بقية الأحزاب، بل ويصحح اخطائها، حسب تقديراته. ذكر الصديق السر مواقف الحزب الشيوعي السوداني المخالفة للسوفييت حول القضية الفلسطينية، والثورة الاثيوبية. وهو محق في ذلك تماما واتفق معه في ذلك. ويحمد ذلك للحزب الشيوعي السوداني في تقديراته السليمة. ولكنني من الجانب الآخر اخالف السر في طرحه بان الحزب كان مستقلا من السيطرة السوفيتية على طول الخط. وأؤمن بان مواقف الحزب الشيوعي السوداني الكلية كانت تسير في الركاب السوفيتي. فمواقف الحزب من تيتو، ومن نظام عبد الناصر في أيامه الاولي، وثورة المجر في 1956، وانتفاضات بولندا المتعددة، والانحياز للسوفييت في الخلاف الصيني-السوفيتي، وربيع براغ في 1968، وفي الموقف من الشيوعية الاوربية، وفي التدخل السوفيتي في أفغانستان (اليس من الغريب ان تسمي جريدة الميدان المعارضة الأفغانية بقطاع الطرق الأفغان، وهي لغة نوفوستي السوفيتية). ويمكن ان افصل في أي من كل تلك الاحداث، ولكن المساحة لا تسع. أما موقف السوفييت من مؤتمر الجريف (الذي ذكره السر فسأفرد له مقال خاص). أما حديث صديقي السر عن موقف السوفييت من الحزب الشيوعي وتقييمه لنظام مايو، فلدي عليه وقفة. أنا مهموم بتلك الفترة لما لها من أثر على تطور الحزب اللاحق، وما حدث له. وقد تعمدت نشر وثائق الجناحين المتصارعين في تلك الفترة في كتابي (وثائق تحكي تاريخ الحزب الشيوعي السوداني)، ليعلم القارئ طبيعة الصراع، والقضايا التي طرحت فيه. ولكن رغم بحثي المستمر، وجدت ان هناك ضبابية حول دور السوفييت. واغلب ما يدور هو معلومات سماعية وروايات شفهية. وأتمنى من الصديق السر، لما له من إمكانية الوصول السهل والمتاح دوما لأرشيف الحزب بالداخل، ان يفيدنا بوثائق حول ذلك. ومن جانبي سأواصل البحث، لأهمية الوصول للحقيقة الكاملة. خلال بحثي في وثائق الحزب الشيوعي البريطاني، المحفوظة بمتحف تاريخ الشعوب بمدينة مانشستر. وجدت في وثائق مكتب العلاقات الخارجية للحزب البريطاني فايل خاص بالسودان. وما يهمنا في هذا المقال هو العلاقات بين الحزبين السوفيتي والسوداني، خلال الصراع مع نظام مايو. ووسط الوثائق وجدت هذه الرسالة من الحزب الشيوعي السوفيتي. وهي CP/CENT/INT/59/08، وأتمنى من القارئ ان يتمعن فيها في إطار ما قاله السر عن علاقة الحزب بالسوفييت: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.