بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيدلوجيا الدين (20 - 20): المعرفة ما بين فِقْه الإستِتَابة ومُفارقة منطِق التبرير .. بقلم: د. عثمان عابدين عثمان
نشر في سودانيل يوم 29 - 11 - 2018

تعرضنا في مقالنا السابق، "طريق المعرفة بين العلمانية والإلحاد"، لتناول بعض المشاركين في ندوة الحوار الفكري التي نظمتها أمانة الفكر بالمؤتمر الوطني لمفهومي معرفة العلم والوحي. في نفس الندوة، تساءل بعض المشاركين عن أسباب أنتشار ظاهرة الإلحاد بين الشباب علي الرغم من رسوخ نظام دولة الإسلام ومشروع فكرها الحضاري. ألقي البعض اللوم علي نظام التربية والتنشئة الأُسَري، والبعض علي مناهج التربية والتعليم في المدارس والجامعات. أما البعض القليل، الأخر، فذهب أبعد من ذلك ليتهم العقل الجمعي بالقصور في تَلقي معرفة الدين الصحيحة. فإذا غضينا النظر عن حقيقة أن نظام الدولة والمجتمع مازال تحت سيطرة مشروع الإسلام السياسي ولما يزيد عن ربع قرن من الزمان، إلا أن إعتراف بعض المشاركين بتحمل بعض مسؤولية الفشل يعيد طرح المشكلة في إطارها المجتمعي العام. ففي الوقت الذي أرجع فيه دكتور العتباني أسباب تفشي ظاهرة العلمانية والإلحاد لأسباب تتعلق بعملية التفكير وقصور معرفة الدين، اتهم دكتور محمد حسين الفكر الشيوعي واليساري بالوقوف من وراء ذلك بغرض التخلص من الإسلام وأثره علي المجتمع.
دكتور صلاح الدين العتباني، القيادي والمفكر الإسلامي المعروف، سبق في طرح تساؤل أسباب إنتشار ظاهرة الإلحاد في عهد دولته الإسلامية حينما قال: "الشُبَّان الأن أكثر إلحاداَ من قبل". وأضاف " هنالك حالة من العقلنة، جزء منها اتخذ طريقاً إلحادياً وجزء منها يطرح بضراوة وبشدة الأسئلة ألتي لم يكن يجب على الإسلاميين أن يجيبوا عليها. فعلي الرغم من معرفة العَلمانِي للطريق الذي يقود إلي معرفة وجود الخالق، فهو في حالة إنكار لمعرفة ذلك الطريق، ولذلك يكون لا طائل في الجدال معه في "بديهيات أصول معرفة الحقيقة". فبعد كل هذه القناعة ب-‘سالفة(5)' سلامة طريق العقل والتفكير، أنكر دكتور العتباني إدراك العلماني لطريق الله ووصفه بالجاهل. فالعلماني الّذي ضلَّ طريقه في مَساربِ ودروبِ الحياة، المضني والشاق، لم يرتقي، في نظر دكتور العتباني، لدرجة الملحد بعد؛ في حين أنه، إما أن يكون ملحد رًضْوي أو ملحد سلبي، في تقدير دكتور محمد حسين.
بيد أن مثل هذه التقارير المتناقضة في معطيات فرضياتها لا تصلح أن تكون حاملا لإستنتاج سليم يقود إلي معرفة حقيقية. فمعرفة الخالق عن طريق العقل تفترض سلوك طريقاً مُعَبَّداً بحُجْج تدعمها فرضيات متماسكة وسليمة تقود، في النهاية، إلي إستنتاج مقنع وصحيح؛ فكيف لمن وصل إلي نهاية الطريق أن ينكر مشارف بداياته ووعثاء سفره الطويل؟
فبالإضافة إلي أن المعرفة المستمدة من الوحي تفترض سلامة دين وعقيدة من يسعى للحصول عليها، فأن طرح التساؤل حول معرفة الطريق لوجود الله يفترض أن هناك من لا يؤمن، في الأصل، بوجود ذلك الطريق. فطبيعة التساؤل، هنا، تقع في عالم معرفة اللامحسوس الذي فيه تصعب إخضاع الإجابات لمعايير الحقيقة الموضوعية. ففي عالم الماورائيات، اللامتناهي، تُقيمُ وتسكن معضلة تبرير الفرضيات التي عادة ما تكون شرطية في طبيعتها وتفتقر للدليل المادي. هذا القصور الذاتي المزمن في الإثبات يتطلب فرضيات إثبات أُخري، متتالية، تنتهي كل منها إلي نفس النتيجة. وهكذا تفقد الحُجة تماسك تدفقها المنطقي وتسقط في فراغ مغالطة الإستدلال الدائري. فمن الجهل، أيضاً، أن نعود أعقابنا من شاطئ البحر الجميل بسبب رداءة الجو لمجرد إفتراضنا السالف والفطير بان كل أيام الأربعاء عادة ما تكون مشمسة ودفيئة.
بهذاك مقاربة ومنطق، يكون مقدار المعرفة هو من يحدد مسافة الطريق بين معرفة المُلْحِد والعلماني بوجود الخالق-العارف. ولكن، المعرفة التي يقصدها دكتور العتباني، ودكتور حسين، في هذا الصدد، هي المعرفة، المُسْبقة، المستمدة من الدين والعقيدة والتي تكون إمكانية إكتسابها حصرية علي المسلم، المؤمن، فقط. فإذا قبلنا جدلاً بتعريف المُلْحِد علي أنه الشخص الذي يُشَكّك في وجود الخالق، فلن يكون هناك فرق بين درجات الملحد غير المسلم أو المرتد عن دين الإسلام. وإذا إخترنا منطلق مقاربة العلم والإحصاء، المعزولة عن تحيز العقيدة والدين، تبقي حقيقة وجود ظاهرة الإلحاد في غير محل شك، ليس في المجتمعات الإسلامية وحسب، ولاكن في كل مجتمعات الإنسانية، وبكل أنظمتها العقائدية التي تؤمن في وجود خالق قادر علي كل شيء. فمن بين عدد 7.6 مليار نسمة وأكثر من أربعة آلاف دين ومعتقد يوجد حوالي 1.2 مليار شخص ممن يعتبرون أنفسهم علمانيين، لاأدريين، ملحدين، أو غير منتسبين' - نسبة تقارب 16 % من سكان العالم وتفوق علي عدد المنتمين لليهودية، أقدم الديانات الإبراهيمية، بأكثر من ثمانين مرة (1). فلا صدمة أو غرابة أن ينشأ الملحد ويَتَرعْرع علي صدي تراتيل الخًلاويّ وفي جنبات بيوت أهل الورع والتقوي، ناهيك في مجتمع تسد أفقه أسئلة البقاء والوجود الصعب، وتُلبِّد سماء رحمته سحائب البؤس والتشاؤم.
من بين 1,200 حالة إلحاد رصدها مركز الإستشراق الدولي، بإحدى عشر جامعة، بعاصمة السودان، الخرطوم، تمت إستتابة 928 حالة وبقي 272 شاب وطالب علي حالهم من الإلحاد. فإذا كان الحوار يتم بمفهوم د. عصام البشير لتصحيح خطأ "الفكر الإسلامي المعاصر" بالإهتمام بالمجتمع من قبل بالدولة؛ وإذا كان الحوارُ - حواراً جاداً يحاول التحرر من سلطة الدين والدولة، كنا نتوقع أن يتبادر إلي ذهن المتحاورين التساؤل المنطقي، المحير والنذير، عن حال ومآل الذين رفضوا الإستتابة وفضًّلو البقاء علي قناعتهم بعدم جدوي الدين في إفادة حياتهم الروحية والمعرفية، في نظام مجتمع ودولة لا يعترف بحرية الضمير والإعتقاد ويُحرِّم ويُجِّرم كل من يتخذ طريقا غير دين الجاه والسلطان. عدم التطرق لمفهوم الحرية وتبعات غيابها علي عملية المعرفة والتفكير، في ندوة عنوانها "مفهوم الحرية والإنحراف الفكري"، يُدًلل ويشير، وبما لا يدع مجالاً للتظاهر بقبول الحوار والرأي الأخر، إلي التوجه الأحادي والشمولي لدولة الإسلام في السودان وسيادة رجال الدين علي منابر فكرها ومقامات حوارها.
إختلف فقهاء الإسلام في تعريف وتبربر مفهومي الردة والإستتابة. فمنهم من رأي إستتابة الملحد - المُرتَد والحكم بإزهاق روحه إذا رفض الإستجابة لرأي النصيحة والعدول عن رأيهِ المخالف. ومنهم من يقول بغير ذلك ويقر بحرية الإعتقاد والتعبد في مجتمع الإسلام. ولكن، في كل هذا، لا يشير النص القرآني، لا من قريب أو بعيد، لمفهوم الإستتابة أو الردة أو ما يترتب عن ذلك من عقاب وأحكام. وفي كل حال، بقي مفهوم الإستتابة والردة محل جدل وحوار ومدعاة لإعمال العقل والتفكير. فإذا كان غياب النص الصريح، عند المسلم، يستدعي العقل لفعل الرأي والتفكير، فبالأحرى أن يكون حضور العقل عند الملحد أكثر أصالة وضرورة. وبنفس المنطق الذي يقول، ضمناً أو صراحةً، بسيادة العقل علي غياب وغموض النص، يكون حضور الدين أو غيابه في حياة الإنسان جزء أصيل من حرية الضمير والإعتقاد. أما إذا حكمنا علي الموقف الفكري للملحد المرتد بمعيار معرفة المفاهيم(6) المؤسسة علي تجربة الحواس، فمن الممكن، أيضاً، تبرير منطق عدم جدوي إستتابة المرتد بحكم خبرته المعرفية التي وفرت له خيارات الإحكام وسانحة إستعمال عقله وحرة إرادته. ذلك بخلاف الملحد، في الأصل، والغير مسلم، الذي تنقصه معرفة عقيدة بعينها ولم تُواتِيه الفرصة لممارسة خيار مفاضلة فوائد التسليم بحقيقة يَجْهل حتمية صلاحها وصوابها.
الإستتابة بمعناها ‘اللاهوتي - المفاهيمي' هي ‘القَسْر علي الرجوع عن فكرة إنكار حقيقة الوجود وطبيعة الخلق التي وردت في النص الديني'. ففي الظاهر يبدو ما يسمي بحوار التوبة كعملية تبادل لرأي الإقناع والإقتناع، ولكن، في طبعه وجوهره فهو ليس أكثر من حوار زائف لا يكون فيه للمرتد عن الدين غير خيار التظاهر بالاقتناع والعدول عن رأي تخليه عن دين الجماعة أو الرضوخ لعقوبة الإعدام ثمنا لصواب فعله تفكيره. صدقاً؛ كما فكر وفعل وإختار، بشجاعة وبسالة وكبرياء، شهيد الفكر والرأي، الأستاذ محمود محمد طه، رائد ومؤسس الفكر الجمهوري. ولا تسريب علي من يستجيب لغريزة البقاء ويختار أن يَحيى لمجرد التظاهر بالرجوع عن قناعة أوصلته لتخومْ العزلة والعدم.
غني عن منطق القول أن الإستنتاج الذي يقر بإمكانية رجوع المرتد لحظيرة الإسلام يفترض التجانس الشامل بين الناس في معرفتهم للأشياء. وبمثل هذا الإفتراض الشامل، يكون الإستنتاج قد تضمن توسيع مبدأ التعميم أكثر مما يحتمل وحوله لقالب نَمَطي فضفاض تتماثل فيه وتمتزج معرفة كل أفرد المجتمع، وعلي حد سواء. مثل هذا المغالطة المنطقية، التي تُعَوِّلْ علي مشاعر الخوف من تهديد بالعقاب المُبين و تذكيرٍ بسوء المآل المشين، أيضا، تتجاهل، وبعمد، تفاوت درجات الإيمان والاختلاف في وحدات المعرفة المكونة لذلك العقل الجمعي الشامل (2).
نتفق مع د. برير سعد الدين في إتهامه للخطاب الدَعَوي بالبقاء أسيرا لفكر المودودي الخارج من إطار عصر حرية المعلومة وواقع عالمية و‘مدنية قرية وسائل التواصل الإجتماعي'، ولكننا، نختلف معه في إتهامه لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة بالتسبب في "التنافر العلمي"، وذلك لنكرانها لمعرفة الوحي وإعتبار العقل المصدر الوحيد والحصري لكل مصادر المعرفة. فمن جانب، يُلْزِمُنا، في هذا المقال، وفي كل مقال أخر - قادم، التذكير والتأكيد علي العلاقة العضوية بين المعرفة وحرية الرأي التي يكفلها النظام السياسي الديمقراطي – الليبرالي، والدور الذي تقوم به في تنشئة عقل مستقل وقادر علي خلق معرفة جريئة - مختلفة. أما من الناحية الأخرى، فإن إختيار اليونيسكو للعقل ليكون المصدر الوحيد والحصري لكل أنواع المعرفة، فقد أتي، وللمفارقة، بنفس دوافع الخوف عند د. سعد الدين من خلق "التنافر العلمي" بدلا عن توافقه وإنسجامه المحمود. فمعرفة الوحي تكتسب شرعيتها وتفردها من حالة الإقصاء المتبادل التي تتقمصها في وجه كل المعارف التي تدعي إمتلاك مطلق الحقيقة، وإلا، فسوف تًخْسر حجة تبرير عقيدتها وتققد مكان سُموها وتعاليها. فمن غير المنطقي، أو العَملي، إتباع سياسة تعليمية تُعَرُّفها منطلقات الدين والعقيدة ويعتبرها البعض معرفة لا تقود لحقيقية ‘يؤمنون بها'. ففي كل حال؛ وعلي الرغم من حصر مصادر المعرفة علي العقل تمثل مقاربة تتماهي وتتداخل مع نظرية "المعرفة العقلانية" التي لا تعترف بمصادر معرفة الإدراك الحسي، فعلي الأقل، أن العقل، بصفته الحيوية والمفاهيمية المجردة، يحقق لمنظمة ‘الثقافة والعلوم العالمية' صفة الحياد والشمول في مقاربتها لأهم معايير شُمولية وتنوع المعرفة والعلم والثقافة.
حريٌ أن نقول أن معرفة الوحي تقف علي النقيض الصارخ من معرفة العلم بمفهومه التجريبي، الحديث. فمعرفة الوحي توجد علي عرش مُلك السموات والأرض: في اللوح المحفوظ وفي جوهر وصفات الواجد الأوحد-الخلاق ومنذ إنبلاج فجر التاريخ. ولكن، فهي أيضاً، تقع داخل إطار عالم الغيبيات الذي يكتنفه الإبهام والغموض وفيه تتفاوت معرفة الإنسان بتفاوت قيمة وَرَعِهِ وإيمانه. أما معرفة العلم، فهي كذلك موجودة، ولكن بين تلافيف الواقع المعاش الذي فيه تتستر خلف عِلَّة الأحداث وظواهر الأشياء ووجب علينا، نحن، أن نفكر ونجتهد لإكتشاف مكان أصلها وطبيعة فِعْلِها وأثرها. ففي الوقت الذي تستقر فيه معرفة الدين في الوجدان وتصبح يقيناً قائماً - مستديماً، فإن معرفة العلم، وبمجرد التحقق منها بتجربة الحواس، وقياسها بمعيار معرفة المفاهيم المُجًرًّبة، تُصْبحُ شكَّاً مَعرَفياً- قًلِقاً ينادي العقل بالمزيد من التساؤل والبحث.
وبعد كل هذا، فإذا كانت هوية الأخر، طرف الحوار الغائب، أمرها محسوم، فهوية الذات الحاضرة التي توغل في الحوار مع نفسها، فأمرها مؤسسٌ- مُعقَّد، مُرًكًّبٌ - معروف. فهي ذات المعرفة التي تشمل، فيما تشمل: أﻣﺎﻧﺔ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻭﺍﻟﻔﻜﺮ، أﻣﺎﻧﺔ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ، ﺃﻣﺎﻧﺔ ﺍﻟﻤﻨﻈﻤﺎﺕ ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﻄﻮﻋﻲ، ﺍلأﻣﺎﻧﺔ ﺍلإﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وأﻣﺎﻧﺔ ﺍﻟﺘزﻛﻴﺔ. أما الغرض من كل ذلك التنوع المعرفي فهو إدرة "ﺣﻮﺍﺭ ﻃﻮﻳﻞ ﻭﺟﻠﺴﺎﺕ ﻋًﺼﻒْ ﺫﻫﻨﻲ" تهتم ب- "ﺍﻟﺘﻨﻮﻉ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ، ﻭﺍﻻﺛﻨﻲ، ﻭﻛﻴﻔﻴﺔ إنتاج ﻔﻜﺮي ﻭﺜﻘﺎفي موحد يعزز ﺛﻘﺎﻓﺔ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ ﺍﻟﺠﺎمعة ﻭﻗﺒﻮﻝ ﺍلآﺧﺮ" و"بناء مجتمع ﻣﺘﻤﺎﺳكا يستطيع محاربة ضِعافْ ﺍﻟﻨﻔﻮﺱْ" و"يحقق الوعي وينشر معاني الفضيلة والوًسًطيًّة بين الناس" و"يجعل "المجتمع سلطة تحكم الاخلاق". أما ‘أﻣﺎﻧﺔ ﺍﻟﺘزﻛﻴﺔ' ب‘قطاع ﺍﻟﻔﻜﺮ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ'، الجهة المنظمة لمؤتمرﺍﻟﺤﻮﺍﺭ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ، الذي نعنيه، فهدفها الأول هو ﺘﺰﻛﻴﺔ عضويتها، ﺑﺸﻜﻞ ﺧﺎﺹ، وﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ، ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎﻡ، وذلك عن طريق "ﺍﻟﺪاعية الجَّوال" الذي يحث العامة علي ﺗﺰﻛﻴﺔ ﺍﻟﻨﻔﺲ، بالإضافة اللإهتمام باﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ والتذكير ب‘مراعاة ﺣﺮﻣﺔ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﺍﻟﻌﺎﻡ'. الإقتباسات أعلاها من حوار صحيفة الرأي العام مع رئيسة قطاع قطاع ﺍﻟﻔﻜﺮ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ، بحزب ﺍﻟﻤﺆﺗﻤﺮ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ الحاكم، دكتورة انتصار ابوناجمة، والذي تم إجراؤه في الثامن من ديسمبر،2015. (8).
وهكذا، وبشهادة سيد الإدلة، الإعتراف - الصريح والممنهج، ينتفي عامل حياد المقام والمقال الذي بدونه لا يقوم أيًّة حوار موضوعي يقود لإنتاج معرفة تفيد وتنفع الناس. فالذات، والدين، والدولة، توجد في حالة ترابط وثيق، حميم وشائك. فالحوار الموسوم "مفهوم الحرية والإنحراف الفكري" لم يرتقي لمستوي الحوار لغياب طرفه الأخر، المحاور. فهو بالأحرى، حوارٌ مع النفس؛ لم يبرح ذوات أصحاب اليمين فيه. أضف إلي ذلك أن الحوار، المعني، لم يتطرق لمفهوم الحرية التي إنقطع لها كل أثر في دهاليز دولة الإسلام العميقة وتاهت خطاه بين تلافيف عقل الأيدلوجيا العصيب. فالحوار، مع النفس، لم يقف عند حدود معايير اللباقة الذي إرتضاها لنفسه وإكتفي بوصف المرتد عن الدين ب‘المنحرف فكرياً'، ولكنه، تَجبَّر وقَسَر عليه حوار الإستتابة وحَوَّل منبر تبادل الرأي والأفكار لمحكمة تفتيش علي ضمير العقل والأخلاق، ثم إسترخي وتَيَقَّن ليصدر عليه حكم الكفر والإلحاد. فبعد كل ذلك، لم يتبقى مكانا ‘لحقيقة معرفة العلم' غير أسرْ شرح المُتون علي الحواشي وقيد محاذر تفاسير الشيوخ ورجال الدين .
أما المكان، فبغيره حَدِّث. فهو غير ذات المكان؛ غفراً - غريباً علي الذين يعنيهم حوار لا يشاركون فيه، ليس بحر إختيارهم، ولكن بحكم إقصائهم المُتمعمَّد. فالمكان ليس إلا تجسيماً مَهُولاً لذكري أليمة، ورأيٌ قاسرٌ- قاسي. فالدولة الخارجة، التي تم أسرها بإسم الفضيلة والصلاح، أصبحت رهينة لفكر المغالين في الدين والمزايدين في سوق الفضيلة. أما المجتمع فقد أنتهي في حيرة من أمر صواب فكره ولم ينفكَّ يعيد طرح نفس أسئلة البدايات من فسادٍ السلوك وإنحراف الأخلاق. ففي دولة النُطقْ بالشهادة والعمل بسنُّة رسول الإسلام، إتَخَذ جوهر العقيدة في الإيمان باليوم الأخر المقعد الخلفي في مسرح المجتمع العريض لأن منصات كرام القومِ فيه إعتلاها من شغلهم هم اليوم الحاضر من كنز للمال وإقتناء للجميلات من الحسان، بدلا من الصبر علي المكاره وإنتظار حور عين-الجنان. فالدولة التي تَحْتشِمْ أزِقتِة حواريها وشوارع حضرها بزي الجُلبَاب والحِجاب، وتصدح جوامعها بخطب الوعظ والإرشاد، وينصح دعاتها "بتزكية النفس" الأمًّارة بالسوء، إمتلئت شوارِعُها ببائعي وبائعات الماء والهوى، وتَفَسَّخ مسام جلدها الثخين عن غرباء - ملحدين، لا يؤمنون بدين أهلها؛ فاسدين، لم يسمعوا بمعني التجرد والإستقامة ولا حرمة المال العام، ناهيك عن قيم التجرد والأمانة والصدق!
أما الزمان فهو يوجد خارج إطار الزمان. ففي أيدينا وبين حقول أفكارنا معاول قديمة وبالية لا تغرز فكراً ينمو، حتي في عز الهطول، ولا تحصد عِلماً يسد رمق أبسط شذرات القُريحُةِ والفُضولْ. فمعرفة العصر، الذي فيه نحيا ونعيش، لم تعد حبيسة قُمقُم ‘المحايات' العتيق أو شروح كتب التفاسير الرُتُوق. ففي عصر ثقافة التنوع والإختلاف، لامعني للتمييز بين يمين الكتاب وقَصِي يساره. فالسِّفْرُ لم تعد تصيب صَفَحاتِه عِلَّة إصفرار اللون ورَهَق الجُفون، فهو في أصل طبعه ‘رقماٌ بسيطاٌ - واحداٌ بصفرْ، محصن من داءِ عامل الزمن ويوخر بكل عافية الحروفِ والكَلِمْ. سًفرٌ خفيفٌ، مرهف-رشيقٌ يعتلي نسمة أثير عالم الوجود الإفتراضي. ففي هذا الزمان، لم تعد الأفكار تحتمل المبيت في نفس مكان حلول سَّحَرها، فهي لا تَحِل إلّاّ تهمُّ وترحل، لتنتشي وتحتفل مع كل فكر ورأي تلقاه علي ضياء مع كل صباح باكر، منعش وجديد.
في النهاية، حَرِيٌّ عن القول أن المعرفة في طبعها طليقة حرة - كما الإنسان الذي يولد حرا، وكذلك ضميره الصاحي وعقله الواعي. فهذه هي عين المعرفة التي في صيرورة وجدوها الحر تُعرِّفَ هَويَّتة الإنسان و تُشذِّب أحكام فعله وأخلاقه. أما العقل، فسيظل بين إختيار أن يكون حرا طليقاً، في كل حالات إفادته للحقيقة، أو أسيراً - ذليلاً لأدوات الحفظ والتكرار الرتيب. فطريق المعرفة مجرب وواضح. فمن بين كل متاهات دُروب معرفة الوحي أو العلم أو التجريب، لا يوجد طريق آخر للمعرفة غير طريق العقل والتفكير. فبالعقل وحده يحيا الإنسان، وبه أيضا يعيش حراً، عزيز النفس - كريمها.
"على مر القرون كان هناك أناس إتخذوا الخطوات الأولى في طريق المجهول. لا يملكون من زاده غير نظرة ثاقبة وفكرة جامحة. وفي ذلك، إختلفت دوافع إختيار تنكبهم المشاق، لكنهم إتفقوا في جهلهم بطريقٍ لم يسلكهُ أحد من قبل. فالرؤيا جديدة وجريئة؛ لم تخطر علي بال. أُولًئِكَ النفر القليل، النادر،كانوا مقتنعين أنه من لا يتجرأ علي إتخاذ الخطوة الأولي المخاطرة لن يصل لمعرفة نهاية الطريق ولن يمتلك سابقة فضل الرواية. المبدعون، المفكرون، الفنانون، العلماء، المخترعون- كلهم وقفوا في بدايات الطريق وحدهم، مقابل كل أناس عصرهم الذين بقوا من خلفهم، مشفقين أو ساخرين. فكل فكرة جديدة ومختلفة كانت دخيلة؛ مُهابة ومرفوضة. المصباح الكهربائي؛ المحرك الحراري؛ القاطرة؛ الطائرة؛ كلها اعتبرت أفكار جامحة، حمقاء، مستحيلة التحقيق. المغزل الألي أعتبر حلقة مفرغة من التفكير والتدبير. أما التخدير في علم الجراحة فقد كان خطيئة في الدين لنكرانه طبيعة ضرورة المعاناة والألم. ولكن، علي الرغم من كل ذلك، تقدم الصفوف الأشخاص الموشحون بالمعرفة والأفكار؛ حاربوا ، صالوا وجالو، عانوا ودفعوا باهظ الثمن، لكنهم إنتصروا، في نهاية الطريق، لصواب حَدَسَهِم وجديد فكرهم. " آين راند، في روايتها "المَنَارةُ" (من مفهوم ترجمتنا مع قليل من التصرف والتدبير).
هوامش:
(5) تَحدثُ "مغالطة تأكيد المُقدَّم" عندما يتم التسليم بصحة الفرضية اللاحقة (الإستنتاج) بناءا علي صحة المقدمة السابقة (السالفة) التي بنيت عليها الحجة.
(6) تأسست "نظرية المعرفة العقلانية" على الإفتراض القائل بأن محتوى المعرفة اللاحقة - المكتسبة يفوق قيمة المعلومات المتحصلة عن طريق الحواس. ولذلك، تقول النظرية بأن المفاهيم يتم اكتسابها بشكل مستقل تماما عن تجربة الحواس. ومع ذلك ، تقع نظرية المعرفة العقلانية في التناقض المنطقي حينما تعترف بأن المعرفة المكتسبة عن طريق الحواس يمكن أن تتطور إلى معرفة جديدة من خلال الحجة والمنطق. على النقيض من نظرية "المعرفة العقلانية" التي تكتسب فيها المعرفة بشكل مستقل عن معرفة الإدراك، في "المعرفة الموضوعية"، يُمثل الإدراك الحسي الحقيقة البديهية التي تبني عليها كل أنواع المعرفة. وفي ذلك تكون عملية التحقق العقلي من تجربة الحواس تمثل الواقع القائمً على معرفة المفاهيم والمرادفة لعملية الوعي، ولكن، المستقلَّة عنه استقلالاً جزرياً. أما "معرفة العلم التجريبي"، فهي المعرفة المكتسبة عن طريق الأدِلَّة والملاحظة بهدف التحقق من ملائمة حقيقتها للواقع الماثل للعين والبيان. أما في مقاربة "البناء المعرفي"، تعتبر المعرفة والواقع نتاجا للمحتوي والسياق الثقافي والإجتماعي الذي تتخلق في رحمه. ومن ثم، فإن ‘منهج الملاحظة' الضروري لإنتاج المعرفة العلمية يمكن إعتباره مثالًا لمعرفة التركيب البنيوي. وبناء علي ذلك، فإن قبول الإدعاء البنيوي بالأصل الإجتماعي والثقافي للمعرفة، مع الأخذ في الاعتبار"التحول البراغماتي" لتوماس كوون، سيقود، وبالضرورة، إلي إستنتاج إختلاف مناهج الرصد في المجتمعات البشرية المستقلة في الزمان والمكان، ومن ثم إختلاف نتائجها المعرفية. هذه المقاربة، البسيطة، ولكن المتعددة المستويات، تُعَبِّر بإختصار عن "نشأة مفهوم المعرفة المرتكزة على نوع طريقة البحث التي وصفتها جين بياجت في كتابها "نظرية المعرفة الجينية". بتعبير أخر، فإن التجربة المباشرة؛ الطريقة التي نُطْلِقُ عليها اليوم ‘المحاولات التجريبية'، لا سيما السريرية منها، تمثل المصدر الرئيسي للمعرفة العلمية وما يترتب عليها من تغيير إجتماعي لاحق.
نتابع في "أيدلوجيا الدين والأخلاق (21- 20): صدي عصور الظلام وتجارة صكوك العفو والغفران"
(https://www.facebook.com/notes/osman-abdin-osman/مصادر ومراجع @ (
29/11/2018 - 17/10/2018
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.