هو مسار النخب السودانية ككل، فالأزمة في جوهرها هي نخبوية وكل المسارات السابقة عبارة عن نتاج لها. فلم تكن النخب على مستوى الثقافة السودانية وتحولاتها، فنجد اغلب الإنتاج الفكري لتلك النخب لم يكن سوى صدى للفكر العربي بشقيه الإسلامي والعروبي أو صدى للفكر الغربي بشقيه العلماني والشيوعي، ولا وجود لما يمكن ان نسميه بالفكر السوداني. بالنسبة لنخب التيار العربي الإسلامي فتاريخيا لم نجد من النخب التي حاولت إيجاد رؤية خاصة بها عدا المهدي والترابي ومحمود محمد طه، ولكن ثلاثتهم اعتمدوا على الفكر السلفي كمرجعية لرؤيتهم تلك، فكان كل فرد منهم يأخذ جزئية من ذلك الفكر ويحاول ان يؤسس عليها رؤيته ككل دون إدراك ان الفكر السلفي وحدة واحدة لا يمكن تجزئته أو حتى نقده، فهو فكر مغلق داخل مفاهيم وقيم ومرحلة تاريخية محددة مسابقا، ولذلك لا يمكن نقده أو تجديده. وكان على من يريد ان يدرك الرسالة المحمدية ان يسعي إلى الرسالة في جوهرها وهو المصحف العثماني ثم تاريخ الرسالة والرسالات الأخرى حتى يدرك علاقة الرسالات بالإنسان، اما الذهاب إلى جزئية محددة من الفكر السلفي ومحاولة اخراجها عن سياقها التاريخي والبنيوي لن يبني رؤية وسيقوى ذلك الفكر فقط وهو ما حدث تاريخيا. فكان من الممكن ان تكون لرؤاهم تلك اثر ايجابي من منحى تراكمي للأجيال التي تأتي بعدهم لو أدركوا انها اجتهاد أي انها لا تمثل حد فاصل بين من يؤمن ومن لا يؤمن، ولم يقولوا كما يقول الفكر السلفي عن اجتهاداته بأنها كلام الله. فقد قامت المهدية على الكتاب والسنة واستبعاد فقط الإجماع والقياس من الأصول الأربعة للفقه السلفي، وهي كانت محاولة لتجزئة الفكر السلفي من اجل إيجاد مكانة لاجتهادات المهدي المرتبطة بالواقع السوداني، وفشلت وستفشل كل محاولة لفتح الفكر السلفي المغلق داخل أزمنة تاريخية بعيدة. وكان فشلها واضحا في الحروب والأزمات الداخلية التي أوجدتها من احتراب داخلي وخارجي رغم ان فترتها كانت بسيطة تاريخيا (1885 – 1898م). بعدها جاءت محاولة محمود محمد طه القائمة على الفصل بين الفترة المكية وفترة المدينة للرسول وبان الفترة المكية هي جوهر الرسالة ومنها جاءت آراؤه التي قال بها عن الزكاة والصلاة والميراث أو الشريعة عموما، وهي رؤية متقدمة نسبيا عن غيرها نتيجة لعدم اعتمادها على أي من فروع الفكر السلفي، ولكن ما شابها من قصور حقيقي هو عدم اعتماد تلك الرؤية على أفكار كلية توضح العلاقة الثلاثية بين الإنسان والطبيعة والإله حتى تتجاوز الفكر السلفي تماما مما جعلها ناقصة وغير مفهومة بالنسبة للكثيرين، وكذلك دخول محمود محمد طه في المعترك السياسي للدولة الحديثة قبل السعي إلى تحويل الرؤية إلى فكر كلي واضح وكذلك قبل محاولة نشر الفكرة أولا على المجتمع السوداني قاده إلى الصراع مع الأخوان المسلمين أو الحركة الإسلامية التي عملت على قتله نتيجة للاختلاف الفكري وكذلك قبل ان يتحول إلى منافس. وأخرهم هو الترابي الذي لم تكن لديه رؤية واضحة بعكس محمود محمد طه ولكن مجرد نقد جزئي للفكر السلفي حاول من خلاله إيجاد مكانة له كمفكر ومجدد ديني، فلم تكن أفكار الدولة الحديثة وكيفية قيادتها أو حتى الشعب السوداني وإمكانية وصوله إلى مرحلة الرخاء أو الاكتفاء تمثل له معنى، فكل ما كان يشغل باله هو صراعه مع الفكر السلفي أو ما يسميهم بفقهاء الحيض والنفاس، واثر الترابي على ماضي وحاضر السودان نتيجة لدخوله إلى الساحة السياسية من مدخل عاطفي للشعب السوداني وهو ارتباطهم بالرسالة المحمدية من ناحية عاطفية وليست عقلية، فنتاج الإسلام الصوفي السوداني كان ارتباطه بالزمان والمكان المحمدي دون ارتباط بالرسالة كثيرا، فلم تكن مفاهيم الشريعة الإسلامية والحدود جزء من تكوين المجتمع السوداني تاريخيا بعكس حب الرسول والأماكن التي يطلق عليها مقدسة. أدي كل ذلك بالإضافة إلى شخصية الترابي المراوغة التي تتبني الميكافيلية تماما إلى ان يصل السودان إلى مرحلة العجز الآنية في كل مناحي حياته إذا كانت السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وكان من الممكن ان تكون لتلك الرؤى والأفكار التي تمتع بها المهدي ومحمود محمد طه والترابي اثر ايجابي من منحى تراكمي لو أدركوا دورهم في الحياة باعتبارهم نخب للمجتمعات عليها إنتاج ونشر الأفكار وعلى المجتمع الحكم على أفكارهم تلك، ولكن اختلاط أفكارهم تلك بالسياسة في دولة لم تصل في الأساس إلى مرحلة الهوية الواحدة فكريا جعل تلك الأفكار تدخل في صراع مع غيرها قبل ان تنشر على المجتمع ليتم استيعابها وإدراك فائدتها أو عدم فائدتها. وهذه ليست مقارنة بين اثر محمد احمد المهدي ومحمود محمد طه وحسن عبد الله الترابي على السودان، فالمهدي كانت فترته سيئة نتيجة لمحاولة فرض رؤيته تلك بعد طرد الأتراك، ولكن في تلك الفترة لم تكن الدولة كما هي الآن وكذلك كانت هنالك استقلالية نسبية للمجتمعات عن سلطة الدولة، فانحصرت اغلب الأزمات داخل مجتمع التحولات أي مجتمعات الوسط بالإضافة إلى ان فترة الدولة المهدية لم تكن بالطويلة زمنيا فقد حكمت من (1885 – 1898م). اما فترة الترابي التي بدأت منذ 1989م ولم تنتهي إلى الآن، فتعد من أسوا الفترات التي مرت على السودان قديما وحديثا. ويخرج منهم فقط محمود محمد طه باعتبار ان اتجاهه الأول الذي كان يسير عليه هو اتجاه دعوى فقط ولم يسعى إلى السلطة وذلك قبل الاستقلال ولكن بعد الاستقلال وموجة إنشاء الأحزاب، إنشاء هو أيضا الحزب الجمهوري وكان هذا خطأه الوحيد، فقد أظهرت خطوة إنشاء الحزب كأنه يعمل على بلوغ السلطة، وكذلك الانشغال بالسياسة حد من اثر الفكر على كل المجتمع السوداني. ومع هؤلاء يمكن ان نضيف النخب ذات المرجعية العربية أو ما يسمون بالقوميين العرب، فقد ساهموا في تعميق الأزمة بالقول بالهوية العربية، وكانوا يلتقوا مع المرجعية الإسلامية من حيث أفضلية العرب وأفضلية اللغة العربية، فهم بشكل أو أخر يمكن ان نعتبرهم رديف للتيار الإسلامي. كان هذا عن النخب ذات المرجعية الإسلامية، اما بقية النخب فلم تكن أحسن حالا منهم. فقد كانوا مثلهم تبنوا شعارات تنتمي إلى المجتمع الغربي، فمثلت مفاهيم العلمانية والديمقراطية أو الشيوعية والاشتراكية حصيلة إنتاجهم الفكري دون وجود لرؤية كلية. وكانوا كما الحركة الإسلامية يمارسون السياسة عندما يكونوا في السلطة وفق أمزجة شخصية وليس وفق برامج قادمة من رؤية كلية مؤسسة داخل إطار فكرى واضح. ولذلك لم يكن هنالك تراكم معرفي أو تراكم عملي رغم مرور السودان بثلاث فترات ديمقراطية، وحكمت كل الأحزاب السودان مباشرة أو بالوكالة عن طريق الانقلابات العسكرية. فلا يوجد حزب لم يجد فرصته في حكم السودان ورغم ذلك كانت في كل مرة تتجلي الأزمة وهي عدم وجود رؤية كلية لدي تلك الأحزاب أو نخبها الفكرية. خلاصة: إذا فقد ساهم كل فرد بجزء ما في الذي يحدث للسودان الآن، فقد كانت بداية الأزمة تاريخية منذ دخول ما يسمى بالفكر العربي الإسلامي إلى السودان وتعمقت أكثر مع بداية تكوين الدولة السودانية منذ الاستقلال واستشرت بعد ذلك مع استيلاء الحركة الإسلامية على الحكم. ويظهر من المقالات السابقة والمقال الحالي ان الصراع ليس مع الحركة الإسلامية فقط ولكن مع البناء الهيكلي للدولة السودانية الحديثة وما تقوم عليه من أفكار ورؤى جلية أو مستبطنة إذا تركنا التاريخ جانبا. اما الحلول فتكمن أولا في ذهاب الحركة الإسلامية نتيجة لاستخدامها أدوات وسلطة الدولة ضد القيم والعرف السوداني، وكذلك محاولة تفكيك المجتمع السوداني الكلي كنتيجة فعلية لما تؤمن به من أفكار، فقد أخلت بكفة الميزان بين المظلة الفكرية والمظلة الاجتماعية، فكان اعتماد المظلتين داخل المجتمع السوداني يحافظ على استمرارية التحولات والتكامل بين المجتمع السوداني، فترجيح المظلة الفكرية ودفعها بآلة الدولة الحديثة قاد إلى الأزمات المتتالية بين المجتمعات، بل كانت الحركة الاسلامية تدخل بتلك الآلة داخل الصراع لتدعم طرف على الآخر متبعة أفكارها تلك. اما النخب السودانية فعليها الاجتهاد أكثر فكل مقولاتها الآن تذهب في صالح تعميق الأزمة وبعد المجتمعات عن بعضها البعض. وعلى الأجيال الناشئة ترك المواضيع الانصرافية وعدم الخوض في مواضيع جدلية لا نهاية لها مثل الاختلافات القبلية أو الدينية والاتجاه نحو الفعل الايجابي المتفق عليه بين المجتمعات، والعمل على التكامل والتكافل الاجتماعي الذي كان ولازال يتجاوز البعد القبلي والديني عند المجتمع السوداني، فالثقافة السودانية أدركت منذ أمد بعيد ان خلاصة الحياة تكمن في التكاتف الاجتماعي فأنتجت الكثير من القيم الدافعة لذلك مثل النفير والكشف والشير وغيره من المسميات، فعلينا دعم وتفعيل القيم والأعراف السودانية التي حافظت على المجتمعات على مر الأزمان، ففيها يوجد الكثير من خلاصة التجربة الحياتية للإنسان السوداني على مر التاريخ. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ///////////////////