نبذة قصيرة عن المؤلف: ولد جراهام جرين (1991 – 1904) في هرتفوردشير بإنجلترا، وتلقي تعليمه في جامعة أكسفورد. نشر العديد من الكتب (نحو خمسة وثلاثين) في مجال الرواية والقصة القصيرة والرحلات والمسرحية والنقد الأدبي، وعمل بالصحافة حينا من الدهر، وكجاسوس في خدمة MI6 في سيراليون خلال الحرب العالمية الثانية. تأثرت كتابات جرين بمذهبه الكاثوليكي وبمرضه العصبي. في أخريات أيامه صار معاديا للإمبريالية الأميركية ومؤيدا لكوبا ولزعيمها فيديل كاسترو.مات ودفن في مدينة فيفي علي بحيرة جنيف بسويسرا. ___________________________________________________________ في أحد الأمسيات تحلق ثمانية رجال يابانيون يضعون نظارات على وجوههم (عدا واحد منهم) حول طاولة في مطعم "بنتلي" يتناولون السمك. لم يكن يتبادلون الكثير من الحديث خلال وجبتهم، بيد أن أحاديثهم النادرة بلغتهم المبهمة كانت مصحوبة بابتسامة تنم عن ظرف ولطف وكياسة. جلست في ذات المطعم بقرب النافذة فتاة ذات حسن وبهاء، وكانت تلك الفتاة ترمق أولئك الرجال بين الفينة والأخرى دون كبير اهتمام، إذ أنها كانت في شغل شاغل عن دنيا الناس بمشاكلها الخاصة. لم تكن تفكر إلا بنفسها وصديقها. كانت فتاة شقراء الشعر، ناعمة الملمس، وذات وجه أبيض مليح يذكر المرء بوجوه الفتيات في عصر "الريجانس"، وهي تضع في أصبعها خاتم خطوبة. كانت طريقتها في الحديث غير سائغة تماما، وربما كانت قد اكتسبتها إبان دراستها في مدرسة "رودان" أو كلية "شلتهام" للبنات التي تخرجت فيها منذ وقت قريب. كنت أجلس علي طاولة قريبة من تلك الفتاة، لا يفصلني عنها إلا طاولة الرجال اليابانيين، وسمعتها تقول: "أنت تعتقد أن بوسعنا أن نعقد زواجنا في الأسبوع القادم". رد عليها الخطيب في اضطراب وهو يملأ قدحيهما بنبيذ "الشبلي": "أحقا؟... بالطبع... لكن والدتي..!" لم يكن بمقدوري متابعة بقية حديثهما، إذ أن أكبر الرجال اليابانيين كان قد اتكأ على الطاولة وهم يبتسم وينحني ، ومضي يتحدث بما خيل إلي أنه صوت يشبه قرقرة عصافير في قفص كبير.تبادل الرجال الانحناء والابتسام، وأنصتوا لكبيرهم يتحدث...لم يكن بوسعي إلا أن أنصت له أنا أيضا. كان خطيب الفتاة يشبه فتاته من الناحية الجسدية، وترآي لي أنهما متماثلان وكأنهما صورتان منمنمتان موضوعتان جنبا إلي جنب علي صفائح إطار بيض. وخلت أن الخطيب يصلح لأن يكون ضابطا في أسطول "نيلسون" حين كانت رهافة الشعور وضعف البنية يومئذ لا تقف عائقا أمام الترقي. سمعت الفتاة تقول: " لقد أعطوني نصف ألف من الجنيهات كدفعة أولي، كما اشتروا مني حقوق الطبع". صدمت بشدة لحديثها عن المال بتلك الطريقة، وصدمت أيضا لأني عرفت أنها كاتبة مثلي ولما لم يتجاوز عمرها العشرين ربيعا... فكرت في أنه يجب عليها أن تحيى حياة أفضل. رد عليها الخطيب قائلا: "لكن عمي...!" قلت له: "إنك تعلم جيدا أنك لست على وفاق معه، وأن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب علينا أن نسلكه كي نحيا حياتنا المستقلة." سألها الخطيب بحسد: "أو ستغدين مستقلة؟" ردت قائلة: " تعلم أن تجارة النبيذ لم تعد تناسبك. ألا ترى ذلك؟ لقد تفاهمت مع ناشري حول أمرك، وتبدو الآن الفرصة سانحة لك... فقط لو بدأت تقرأ قليلا!" "ولكني لا أعلم عن الكتب شيئا" لا تخف... سوف أقوم بمعاونتك في البداية"" "والدتي تقول أن الكتابة مهنة ثانوية لا غبار عليها" قالت الفتاة: "لا شك أن الخمسمائة جنيه ونصف حقوق الطبع يعدان بداية قوية لنا" رد الخطيب بالقول: "إن نبيذ "الشبلي" جميل جدا. أليس كذلك؟ وافقته الخطيبة بالقول: "أظن ذلك". بدأت أغير رأيي في الرجل، إذ رأيت أن ليس به تلك النزعة "النلسونية" التي توهمتها فيه. رأيت أن الرجل مقضي عليه بالهزيمة. عاودت الخطيبة إلقاء قذائفها عليه فسمعتها تقول له: " ألا تعلم ما قاله السيد "دويت"؟ سألها: "من هو "دويت؟" ردت في ضيق بائن: "يا عزيزي... أنت لم تسمعني جيدا. إنه الناشر الذي أتعامل معه. لقد قال لي أنه لم تعرض عليه في طوال العقد الماضي رواية كروايتي بها كل ذلك القدر العظيم من قوة الملاحظة". رد عليها في أسي: "هذا شئ رائع...رائع فعلا." "لم يطلب مني شيئا غير استبدال العنوان بعنوان آخر" "أحقا؟" "يبدو أن العنوان الأصلي "الجدول المتدفق دوما" لم يعجبه، فطلب مني استبداله بعنوان "شرذمة حي تشلسي" "وبم رددت عليه؟" "وافقت طبعا! بالنسبة لكاتب يكتب روايته الأولي أرى أنه من الواجب الرضوخ لرأي الناشر وإبقاءه سعيدا"، خاصة وهو الذي سيدفع لنا كافة نفقات الزواج! أليس كذلك؟" رد عليها موافقا وهو يقلب نبيذه بشوكة طعامه وهو شارد الذهن : "أنا أدرك ما تقصدين". لا ريب أنه كان يفكر في نوع الشمبانيا التي اعتاد على طلبها دوما قبل أن يرتبط بالفتاة. بعد فترة فرغ الرجال اليابانيون من تناول طعامهم، فطلبوا من النادلة المتوسطة العمر، بقليل من اللغة الإنجليزية وكثير من الأدب، سلطة فواكه طازجة. التفتت إليهم الفتاة لبرهة عابرة، ثم رمقتني بنظرة ساهمة. لا شك أنها كانت مشغولة برؤية المستقبل ولا شئ غيره. قاومت رغبة قوية في أن أنبهها إلي خطورة نشر رواية يكون عنوانها "شرذمة حي تشلسي" على مستقبلها. كنت أشعر بذات ما تشعر بها والدتها، إذ كنت في نفس سنها تقريبا، وخطر لي أن أسألها: "أواثقة أنت من أن ناشرك هذا قد صارحك بالحقيقة كاملة؟ إن الناشرين رجال، قد تغريهم مزايا الفتاة الجميلة فيكيلون لها الثناء. هل يا تري سيتلقف القراء كتاب "شرذمة حي تشلسي" بعد مرور خمسة سنين؟ هل أنت مستعدة لسنوات قادمة من المعاناة؟ هل أنت علي استعداد لتقبل الهزائم المتوالية من جراء كتابة ما هو ليس بالجيد؟ هل تعلم أن الكتابة ستغدو أكثر عناءا مع مرور السنين، وستصبح تكليفا ضخما وعبئا لا يطاق. سوف تخبو جذوة "قوة الملاحظة" التي تتباهي بها الآن، وما أن تبلغين الأربعين من العمر حتى يكون الفيصل في الحكم عليك هو العمل، والعمل وحده، وليس معسول الوعود!" قالت له: "سوف تدور روايتي القادمة حول "القديس تروبيز" رد عليها بالقول: "لم يخطر ببالي إنك قد عشت هناك!" قالت: "لا. لم يحدث ذلك أبدا. بيد أن للكاتب رؤية متجددة، وهذا مهم جدا. يمكننا البقاء هناك ستة أسابيع." قال لها: "لن يتبقي معنا الكثير إذن من مال الدفعة الأولي" طمأنته قائلة: "الدفعة الأولي هي دفعة أولي فحسب. حسب اتفاقي مع الناشر سأحصل على 15% بعد الخمسة ألف نسخة الأولى، وعلى 20% بعد الألف العشرة التالية، وبالطبع سوف أستحق يا عزيزي دفعة أخرى عند انتهائي من كتابي القادم. ولسوف تكون هنالك دفعة أكبر إذا ما راجت مبيعات الرواية..." رد عليها في برود: " وماذا إن لم يحدث هذا الأمر؟" ردت عليه : "لقد أكد السيد "دويت" ذلك، وهو بتلك الأمور خبير" قال له: "وسوف يمنحني عمي إلفا ومائتين جنيه." سألته: "ولكن كيف سيتأتى لك الذهاب إلي سان تروبيز؟" رد قائلا: "ربما يحسن بنا أن نتزوج بعد عودتك." أجابته بخشونة:" إذا ما راج توزيع كتابي" شرذمة حي تشلسي" فقد لا أعود" لم يرد عليها بسوى : "آه!!" ألقت الفتاة إلي وإلي الرجال اليابانيين بنظرة عجلي، وأكملت شرب ما في قدحها، وقالت: "هل تريد فقط أن نتشاجر؟" أنكر قائلا: "لا". قالت: "لقد عثرت على عنوان لكتابي القادم..."الأزرق اللازوردي" رد ببرود: "أليس الأزرق هو اللازوردي نفسه؟" تفرست في وجه في غيظ للحظات وسألته: "قل الحق... أنت لا ترغب في الاقتران بروائية. أليس كذلك؟" رد عليها بالقول: "ولكنك لم تصبحي روائية بعد؟" "لقد ولدت روائية. هذا ما أكده لي السيد "دويت"...إن قوة الملاحظة..." قاطعها قائلا: "لقد سمعت هذا منك من قبل يا عزيزتي. لم لا تصرفين قوة ملاحظتك هذه إلي ما هو أقرب إليك...إلي هنا، في لندن." أجابته قائلة: "ولكني فعلت ذلك في "شرذمة حي تشلسي"، وأنا لا أود أن أكرر نفسي." ظلت فاتورة الطعام والشراب موضوعة على الطاولة طوال الوقت وهما يتناقشان. أخرج الرجل حافظة نقوده ليدفع فجذبت الفتاة الفاتورة من يده وهي تردد: "هذا يوم عيد بالنسبة لي" سألها: "وأي عيد ذاك؟" أجابت: "عيد "شرذمة حي تشلسي" بالطبع...يا لك من بغيض! لا عليك...أنت لا تربط بين الأمور أحيانا" قال لها: "أنا أفضل...إذا كنت لا تمانعين..." عارضته قائلة: "كلا يا عزيزي...الحساب علي أنا... أو قل علي السيد "دويت"!" لم يجد الرجل بدا من الرضوخ لها، وفي هذا الأثناء شرع اثنان من الرجال اليابانيين في تجاذب أطراف الحديث، وما لبثا أن توقفا عن الحديث فجأة، وانحني كل منهما للآخر وكأنهما شخصان وجدا نفسيهما محشورين سويا في مدخل باب. جالت في خيالي فكرة أن ذلك الرجل وتلك الفتاة صورتان صغيرتان متلازمتان. يا لتناقض الواقع والخيال. أزعم أن نظيرة تلك الفتاة في عهد من العهود السابقة كان بإمكانها أن تلد درزينة من الأطفال دون الحاجة لمخدر، في حين أن الرجل كان يمثال أحد الذين يقعون فريسة لأول نظرة من عيون كحيلة لفاتنة من نابولي! هل سيأتي يوم يكون على رف مكتبة الفتاة درزينة من الكتب (ولدت من غير مخدر؟!) توقعت أن تؤدي "شرذمة حي تشيلسي" إلي وقوع كارثة محققة، أو أن ينتهي الأمر بالفتاة أن تصبح ممثلة إعلانات. توقعت كذلك أن ينجح الرجل في تجارة النبيذ في حي "سان جيمس". لا أريد هنا أن أقارن بين تلك الفتاة وبين روائية ممتازة من جيلها كالسيدة "همفري وارد". قد لا أعيش طويلا، فطول العمر يوفر علينا رؤية كثير من مخاوفنا وهي تتحقق على أرض الواقع. ترى ما هي دار النشر التي ينتمي إليها السيد "دويت"؟ قد أجد في نفسي القدرة على التكهن بالتعليق الذي سيسطره الناشر "دويت" على الغلاف الخارجي عن قوة ملاحظة كاتبتنا. ولن أعجب أن وضع الناشر صورة الفتاة الكاتبة لجذب المزيد من القراء والصحفيين والنقاد بوصفهم بشرا كالناشرين، علما بأن كتابتنا هذه لا تشبه السيدة "همفري وارد" في شئ. تناهي لسمعي الفتاة وخطيبها وهما يتحادثان ويهمان بارتداء معطفيهما في مؤخرة المطعم. قال الرجل: "تري ماذا يفعل كل هؤلاء اليابانيون هنا؟" ردت الفتاة بالقول: "يابانيون!؟ ما الذي تعنيه؟ ما أشد مرواغتك يا رجل! أحيانا يروداني شك في أنك لا تريد الإرتباط بي!" نقلا عن "الأحداث" badreldin ali [[email protected]]