ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حالة الطوارئ في السودان وتعليق حقوق الإنسان: قراءة في ضوء دستور السودان والتزاماته الدولية .. بقلم: عزالدين عثمان
نشر في سودانيل يوم 11 - 04 - 2019

حالة الطوارئ، كما هو معترف بها دولياً، حالة استثنائية تفرض قيوداً على الأدوار المعروفة لسلطات الدولة، وتمنح السلطة التنفيذية الحق في التطلع بدور، هو في الأصل دور السلطة التنفيذية، ويمتد هذا الحق ليمنح رخصة لتعليق عدد من الحقوق والحريات.
إلا أن قيام حالة الطوارئ، لا يمثل سبباً يمنح الحاكم الحق في القيام بما يشاء، ولا يشكّل مناسبة لخرق القانون، فمع الاعتراف، دولياً، بامكانية وقوع ظروف استثنائية في بلدٍ ما، قد تفرض إعلان حالة الطوارئ، وتشريع قوانين واتخاذ إجراءات اسثنائية، إلا أن ذلك يجب أن يتم في ظل الاعتراف بسيادة حكم القانون.
لا تهدف هذه الورقة، وحسب، إلى النظر في حالة الطوارئ التي تم إعلانها في السودان، لمعرفة ما إذا كانت تتفق ودستور السودان الإنتقالي، والتزامات السودان بموجب المواثيق الدولية التي هو طرفٌ فيها، وإنما يمتد هدف هذه الورقة- استجابة لنداء قوى إعلان الحرية والتغيير، القيادة المعلنة للثورة التي تعتمل الآن في السودان، في إطار ما ينبغي أن يكون عليه الدستور والقوانين السودانية في المستقبل- إلى تقديم مقترحات وتوصيات في موضوع هذه الورقة، وبالطبع تطمح الورقة إلى المساهمة في نفاش واسع حول الموضوع.
نُمهّد للدخول إلى الموضوع، بنقل مقتطفات من الدراسة التي أنجزها السيد لياندرو المقرر الخاص بشأن " إدارة العدالة وحقوق المعتقلين- مسألة حقوق الإنسان وحالة الطوارئ" (1)، والذي تم تعيينه في العام 1985 من قبل المجلس الاقتصادي الاجتماعي، من بين خبراء اللجنة الفرعية الخاصة بمنع التمييز وحماية حقوق الأقليات، والذي أنيط به مهام تنصب في مجملها على رصد حالات الطوارئ ودراسة تأثيرها على حقوق الإنسان، وقد جاءت دراسته التي أنجزها وقدّمها في 23/6/ 1997، مبنية على خبرة عمله في الموضوع منذ تعيينه في العام 1985.
يقول المقرر الخاص:-
" ..............
................
3/ في العديد من الحالات، لم يكن إعلان حالة الطوارئ، سوى توسل بالقانون لارتكاب أكثر الانتهاكات بشاعة، وأوقع أشكال العنف أذىً. عملياً، لم تقاوم الأنظمة الديكتاتورية، ابتداءً من سبعينات القرن الثامن عشر وإلى ما بعدها، إغراء إغتصاب السلطة أو الاحتفاظ بها، ولم يكن أمام هذه الديكتاتوريات سوى الاعتماد على القمع، وعلى خلفية المشهد عمل خبراءٌ متميزون في علم القانون خدّاماً مخلصين " للأمير" وفصّلوا على مقاس استبداده ما يبدو في مظهره قانونياً، بينما لم يكن ما فصّلوه سوى عسف السلطان عينه.
4/ أكثر من ذلك، فقد حدث هذا التوالد الكثيف لحالات الطوارئ، على خلفية مواجهات الحرب الباردة الأيديولوجية، حيث استغلتها العديد من الحكومات في قمع معارضيها المحليين. ودائماً ما تم التعامل مع هؤلاء المعارضين، كأعداء من الداخل و كطابور خامس عميل للعدو الدولي، لا كمعارضة مشروعة، وبالنتيجة أُعتبر هولاء المعارضون تهديداً لأمن الأمة، وتمثل النسخة الأكثر ضلالاً من هذا المفهوم حول الدولة و ممارسة السلطة، وبالتحديد، في ما أُطلق عليه " عقيدة الأمن الوطني" والذي وفّر، في بعض الأقاليم، أرصيات سياسية و أيديولوجية، لأبشع الديكتاتوريات وأكثرها انحرافاً في العقود المعاصرة.
5/ ولقد ظهر من هذه التجارب، أنه إعلان حالة الطوارئ، أو مجرد تطبيق اجراءات من ذلك النوع، مثّل الأداة القانونية التي استند عليها الديكتاتوريون لتعليق حقوق الانسان ولتدمير أي نوع من المعارضة السياسية. وقد ترتب على ذلك أن أُستخدمت " عقيدة الأمن الوطني" بأشكالها المختلفة – والتي أدانتها فيما بعد مفوضية حقوق الإنسان بوصفها عقيدة مناقضة لحقوق الانسان- عملياً، كمؤسسة أيديولوجية لشرعنة ذلك النمط من السلوك.
8/ لحسن الحظ، وكما تُظهر هذه الدراسة، فقد ترسّخ في السنوات الأخيرة، أن حالة الطوارئ مؤسسة من مؤسسات حكم القانون، وبما هي كذلك، فلابد لها أن تُلبّي مطالب وتمتثل لشروط تمثّل ضمانة أساسية لحقوق الإنسان، في أوقات الأزمات. وكما يتضح من عمل لجنة حقوق الانسان، والأجسام الرقابية الإقليمية، ومن تجربة المقرر الخاص، فإن الرقابة الدولية ليست وحسب، فاعلة، وإنما ترسّخت بسبب، وجود حالات من مثل ما ذكرنا، تكون فيها حقوق الانسان أكثر عرضة للانتهاك وتتطلب حماية أكبر، وبالنتيجة فقد أصبحت الرقابة الدولية مقبولة دون مساءلة، وبذلك أصبحت أكثر فاعلية.
9/ كما أن السوابق القضائية الصادرة عن الأجسام الرقابية، وسّعت قائمة الحقوق التي لا يجوز تعليقها، عبر إعطاء حقوق بعينها لم تحظر الوثائق القانونية الدولية تعليقها، مكانة الحق غير القابل للتنصل منه أو تعليقه."
لا حوجة للتعليق على هذه المقتطفات، ولكن نلخص مضمونها في أن حالة الطوارئ مؤسسة قانونية ينبغي أن تُضبط هي و ما يتبعها من إجراءات بضوابط معينة وللرقابة.
ونبدأ بالحديث عن وصف حالة الطوارئ وضوابط إعلانها.
ما هي حالة الطوارئ؟
و سنناقش هذا السؤال مستندين على توصيف حالة الطوارئ في الدستور السوداني وفي المواثيق الدولية والأقليمية التي صادقت عليها حكومة السودان.
العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية: قبل النظر في توصيف العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لحالة الطوارئ، من المفيد الاطلاع على المناقشات التي جرت بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، خلال الأعمال التحضيرية التي سبقت تبني هذا العهد، حتى نتعرف على مواقف الدول وعلى التطور الذي شهده توصيف وتعريف حالة الطوارئ، حتى استقر التوصيف في صيغته الواردة في العهد.
الأعمال التحضيرية.
قبل ظهورها كفكرة متكاملة في صيغة حالة الطوارئ المعروفة حالياً، ظهرت كلمة طوارئ لأول مرة، في المسودة الأولية " مسودة أولية للشرعة الدولية للحقوق" التي أعدها قسم حقوق الإنسان في لجنة الصياغة التابعة لمفوضية حقوق الإنسان، وتم طرحها في اجتماع لجنة الصياغة بتاريخ 4/6/1974، وقد جوّزت المادة 6 من تلك المسودة، الحرمان من الحرية الشخصية، بموجب أمر إداري في حالات الطوارئ الوطنية. إلا ان المادة لم تعرّف هذه الطوارئ الوطنية، وإن قصرت هذه الإجازة على الحرمان من الحرية الشخصية وحسب. (2)
اما أول ظهور للفكرة كحالة معرَّفة تسمح بتعليق الحقوق والحريات، فقد تمثل في المسودة التي اقترحتها المملكة المتحدة وقدمتها بتاريخ 5/6/1974، حيث جوَّزت المادة 4 من هذه المسودة في فقرتها الأولى تعليق كل الحقوق الواردة في المسودة في أوقات الحرب أو عند قيام حالة طوارئ وطنية . ولم تعرّف المادة حالة الطوارئ ولم تشترط إعلان عام عن الحالة قبل استخدام الحق في التعليق.(3)
ولذلك فقد ثار نقاش بين ممثلي الدول، تركّز، فيما يتعلق بتوصيف أو تعريف حالة الطوارئ، حول مناسبة الإشارة إلى الحرب في المعاهدة، وحول غموض عبارة حالة الطوارئ.ويبدو أن تعديلاً طرأ، أورد في مسودة المملكة المتحدة عبارة " طوارئ عامة" عوضاً عن "طوارئ وطنية"
فقد ذكر ممثل جمهورية سوفيت أوكرانيا الإشتراكية، في الجلسة الخامسة من جلسات المفوضية، ص 5 ملخص الاجتماع رقم 127، والذي انعقد بتاريخ 14/6/1949، أن على المفوضية أن تشجب الحرب، بدلاً من اتخاذ الحرب سبباً للتعليق، ورأى من الأفضل تجنب الاشارة إلى الحرب في العهد الخاص بحقوق الإنسان. واضاف أن عبارة "طوارئ عامة" سيفتح الباب لمزيد من التقييد، وان هذه الصياغة تسمح باختلاف التفسيرات، واقترح تبني مقترح ممثل جمهوريات الاتحاد السوفيتي الذي يقيّد التعليق في حالة الطوارئ التي تهدد مصالح الشعب.
ممثل الفلبين، الذي ورد حديثه على صفحتي 5، 6 من الملخّص، عبّر عن رفضه كذلك الإشارة إلى الحرب في المعاهدة، معللاً ذلك بأن حالة الحرب تحكمها المعاهدات المتعلقة بالحرب. أما ممثل لبنان، فقد ذكر على ص 6 أنه يؤيد كلاً من أوكرانيا و الفلبين، وأن تعبير طوارئ عامة تعبير مطاطي وقابل للتمدد، اما ممثل الاتحاد السوفيتي فقد ورد حديثه في ص 7، وانتقد ممقترح المادة 4 لأنه يسمح بتعليق الحقوق في حالات لم تعرّف تعريفاً منضبطاً، و قال بضرورة قصر السماح بالتعليق على الحالات التي تنطوي على تهديد لمصالح الشعب الحيوية، وأشار إلى مناسبا أعلنت فيها دول احكاماً عرفية دون أن تقنضي مصالح الشعب ذلك الإعلان وما تبعه من إجراءات تقييدية، وأصرّ على مقترحه بأن تضاف إلى عبارة " في واوقات الحروب وغيرها من الطوارئ العامة"، عبارة " التي تهدد مصالح الشعب.
ممثل فرنسا تحدث في ص 7 وقال بضرورة أن يسبق اتخاذ أية أية اجراءات استثنائية بموجب حالة الطوارئ، إعلانٌ عام عن قيام الحالة. وأضاف انه رغم تأييده للمقترح بعد التعديل إلا أنه لن يؤيده ما لم تحذف الإشارة إلى الحرب. اما ممثل شيلي فقد ورد رأيه في ص 10 حيث رأى تبني عبارة " وغيرها من الطوارئ المماثلة" بدلاً من عبارة " وغيرها من الطوارئ العامة" التي تفتقر إلى الضبط. وقد عاد ممثل لبنان ليقول على ذات الصفحة بأن مقترح ممثل الاتحاد السوفيتي ليس كافياً، ويجب أن يشير النص صراحة إلى حالة طوارئ تهدد حقوق أساسية، بينما أصرّ ممثل الاتحاد السوفيتي في صفحة 12 على التعديل الذي اقترحه. وعلى ذات الصفحة نوّه ممثل فرنسا وأيده ممثل بريطانيا بأن ترجمة مقترح التعديل المقدّم من الاتحاد السوفيتي إلى الفرنسية ينبغي أن يفهم منه أن المقصود مصالح السعب بأسره وليس قطاعاً منه.
وقد تم تبني الفقرة 1 من المادة 4 كاملة بعد تبني التعديل الذي قدّمه ممثل الاتحاد السوفيتي.(4)
نقلنا اعلاه، مداخلات بعض ممثلي الدول التي شاركت في اعمال مفوضية حقوق الإنسان، تحضيراً لاعتماد مسودة للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وقد قصرنا ما اقتطفناه على الموضوع الذي نحن بصدده في هذا الجزء من الورقة: تعريف وتوصيف حالة الطوارئ وضوابطها، دون ان ننقل من المداخلات ما يتصل بالسماح بتعليق الحقوق في حالة الطوارئ، وذلك موضوع سنتناوله فيما بعد.
وفيما يتعلق بتوصيف وتعريف حالة الطوارئ، وضبطها، فقد رأينا أن مقترح المملكة المتحدة الذي جرى النقاش حوله في الأعمال التحضيرية، وصف حالة الطوارئ التي تمنح الحق في التعليق بأنها حالة طوارئ وطنية، ثم فيما بعد بأنها حالة طوارئ عامة، وسكت عند هذا الحد، وإدراكاً من المشاركين في المناقشات، لغموض هذه العبارة، حاولوا ضبطها وتحديدها، فأصبحت تعني حالة الطوارئ التي تنطوي على تهديد لمصالح الأمة، وذلك أخذاً بالتعديل المقترح من ممثل الاتحاد السوفيتي.
ولأن المقترح لم ينص على اشتراط إعلان حالة الطوارئ، قبل اتخاذ أية اجراءات استثنائية تضر بممارسة الحقوق، انتبهت فرنسا إلى خطورة هذا الأمر، لأن اللجوء إلى استخدام المادة بصورتها الواردة في مقترح المملكة المتحدة، دون تضمين اشتراط الإعلان المسبق، يهدر مبدأ الشرعية، شرعية التجريم والعقاب، فلا يمكن ان ينهض شعبٌ من نومه ليُدان على فعل كان مباحاً قبل خلوده إلى النوم، ولا علم له بأن إعلاناً عن قيام حالة الطوارئ قد صدرً وأن تعليقاً طال الحقوق والحريات قد نفذ.
يمكن أن نخلص إذاً، إلى أن المناقشات المشار إليها وصفت وحددت ضوابط حالة الطوارئ التي تبيح اللجوء إلى اتخاذ اجراءات استثناية، تعلّق أو تقيّد حقوقاً وحريات من تلك المنصوص عليها في العهد، بالشروط التالية:
قيام حالة طوارئ
أن يكون من شأن حالة الطوارئ القائمة تهديد مصالح الأمة
أن يسبق اتخاذ أية إجراءات استثنائية استناداً على قيام حالة طوارئ، إعلانٌ رسميٌ وعام عن قيام الحالة وتحديدها وتحديد ما تنطوي عليه من تهديد لحياة الأمة.
وصف وضبط حالة الطوارئ في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية
صادقت حكومة السودان على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في عام 1986 بعد انتفاضة أبريل 1985 ، وبعد ذلك وفي العام 2005، عقب توقيع اتفاقية السلام الشامل التي وضعت حداً لحرب جنوب السودان، صدر الدستور الانتقالي 2005، ونص هذا الدستور في الباب الثاني " وثيقة الحقوق" والتي تناولت الحقوق والحريات في المادة 27/3 على:-
" تُعتبر كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الأنسان والمُصادق عليها من قِبل جمهورية السودان جزء لا يتجزأ من هذه الوثيقة."
وبالتالي فإن جمهورية السودان مطالبة بأن يتسق دستورها وقوانينها مع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
تنص الفقرة الأولى من المادة 4 من العهد على:-
"في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميا، يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي"
مايهمنا من هذه الفقرة، جزئها المتعلق بتوصيف أو تعريف حالة الطوارئ، ومن الواضح انها، وبموجب هذه الفقرة من المادة، أنها تبنت ما تم الموافقة عليه في المناقشات التمهيدية، وإن أصبح التهديد الذي تنطوي عليه الحالة يقع على حياة الأمة وليس مصالحها، وتهديد حياة الأمة يختلف عن تحديد مصالحها، ولعل هذا التعبير أكثر انضباطاً.
في تعليقها العام رقم 29 والذي انصب حول المادة 4 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، اوردت لجنة حقوق الإنسان في الفقرة 2 ما يلي:-
"................، ينبغي على كل دولة، وقبل أن تلجأ الدولة لاستخدام المادة 4، ان تفي بشرطين أساسيين: فأولاً لا بد أن يرقى الوضع ليشكّل حالة طوارئ عامة تهدد حياة الأمة، وثانياً يتوجب أن يصدر عن الدولة إعلان رسمي وعام عن قيام الحالة، والشرط الأخير، شرط جوهري للحفاظ مبدأي الشرعية، وحكم القانون، في أوقات تلّح فيها الحاجة إلى احترام هذين المبدأين" (5)
وقد ذكرت اللجنة في ذات التعليق، في الفقرة 3:-
" ليست كل حالة إضطراب، أوكارثة، ترقي لتشكّل حالة طوارئ عامة تهدد حياةالأمة."
مرة أخرى نلاحظ الإصرار على ضرورة الإعلان المسبق عن قيام حالة الطوارئ، وربط ذلك الشرط بمبدأ الشرعية، وينتج عن هذا الربط، وجوب أن يحدد الإعلان الحقوق التي سيطالها التعليق أو التقييد، أو أن يحدّد، على الأقل، ماهية الحالة الطارئة وما تنطوي عليه من تهديد لحياة الأمة، وإلا لماعاد للربط، بين ضرورة الإعلان المسبق ومبدأ الشرعية، أي معنى، الأمر الذي يمهّد لإصدار أوامر تطال أية حقوق، حتى وإن لم تكن مرتبطة بطبيعة الحالة والتهدبد.
فضلاً عن ذلك فإن إهدار الإلتزام بمبدأ الشرعية، بما يقتضيه من تحديد ماهية الحالة وما تنطوي عليه من تهديد لحياة الأمة، يقضي تماماً على إمكانية الرقابة على حالة الطوارئ، سواء كانت هذه الرقابة برلمانية أم قضائية.
وعلى الرغم من اشتراط ضرورة أن تهدد حالة الطوارئ حياة الأمة، يبدو شرطاً موضوعياً يوفّر قاعدة للرقابة، إلا أنه قد يفتح الباب، أمام السلطة التنفيذية، متذرعةً بأنها الأقدر على تحليل وتقييم الأوضاع، لتستخدم المادة 4 في غير محلها، الأمر الذي يكون معه النص، بقدر الإمكان، على الحالات المحددة التي يمكن أن تشكّل تهديداً لحياة الأمة، مطلباً معقولاً.
وقد حاول المقرر الخاص، السيد لياندرو في تقريره المشار إليه آنفاً، أن يقدم مقترحاً بقاعدة معيارية من شأنها ضبط مفهوم التهديد الطارئ الذي يهدد حياة الأمة، وقد أورد مقترحه في الفقرة 82 من التقرير كالآتي:-
" أن ينص التشريع على قصر الحالات التي تتيح للسلطة المختصة إعلان حالة الطوارئ، على الحالات الآتية:-
*عند وقوع اضطراب حاد، يعرّض للخطر، المصالح الحيوية للشعب، ويشكّل تهديداّ لحياة المجتمع المنظمة، ولا يمكن مواجهته بضوابط التقييد التي يسمح بها في الظروف العادية، أو
*في وجود خطر اضطراب حقيقي أو وشيك
على أن يكون الغرض من إعلان حالة الطوارئ، غرض وحيد يتمثل في حماية حقوق وسلامة الشعب، وعمل المؤسسات العامة في ظل دولة القانون."
ومن الواضح أن مقترح السيد لياندرو، يجد سنده في نص المادة 4، وفي تعليق اللجنة، ولعل الموقع الذي انطلق منه السيد لياندرو، بحكم عمله مقرراً خاصاً أنيط به مراقبة حالات الطوارئ، وخدم في هذا الموقع مدة طويلة، يؤهله لوضع ضوابط تسد الثغرات التي تسمح بأن يُستغل استخدام المادة 4، في غير الحالات التي تقتضي استخدامها، وبغرض الانتقاص من حقوق الأنسان لغايات أبعد ما تكون عن احترام القانون. وما يعزّز معقولية هذه الضوابط، الاتفاق المستقر على أن أداة حالة الطوارئ تعمل ضمن إطار حكم القانون، وكواحدة من مؤسساته.
هذا ما كان في الأعمال التحضيرية التي سبقت تبني العهد الدولي لحقوق الإنسان، وما استقر في نصوص العهد، وتعليقات وتوصيات اجسام منظمة الأمم المتحدة ذات الصلة. فماذا بشأننا نحن الأفارقة المستعمرون السابقون، الذين غُيّب صوتهم في التحضير لتبني العهد، وربما في تبنيه؟
باختصار لم ينص الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب على حالة طوارئ، تسمح بتعليق الحقوق، ولا يسمح الميثاق، مطلقاً بتعليق الحقوق، غض النظر عن الظروف والأوضاع.
حالة الطوارئ في التشريع السوداني:
تناول الباب الرابع عشر من الدستور الانتقالي 2005 حالة الطوارئ وإعلان الحرب، ونصّ في المادة 210/1 على:-
"يجوز لرئيس الجمهورية بموافقة النائب الأول، عند حدوث أوقدوم أي خطر طارئ يهدد البلاد او أي جزء منها، حرباً كان أو غزواً أوحصاراً أوكارثة طبيعية او اوبئة، يهدد سلامتها أو اقتصادها أن يعلن حالة الطوارئ في البلاد أو في أي جزء منها، وفقاً لهذا الدستور والقانون"
بقراءة هذه المادة من الدستور التي تنظم إعلان حالة الطوارئ، مقارنةً بالمادة 4 من العهد، يمكننا القول أن دستور السودان الحالي، يتفق، من حيث توصيف حالة الطوارئ وضبطها، مع ما نص عليه العهد، وما أقرتة لجنة حقوق الإنسان، وذلك من ناحية تحديد حالة الطوارئ بأنها خطر قائم أو يوشك على الحدوث، يهدد البلاد او جزء منها في سلامتها أو اقتصادها.
وهذا التوصيف يتضمن ضرورة وقوع الخطر الطارئ، وأن ينطوي هذا الخطر على التهديد المذكور، كما نصت المادة على وجوب الإعلان، بل نجد الدستور قد ذهب أبعد من ذلك، بأن حصر الحالات التي يمكن إعلانها كحالة طوارئ، وهي الحرب أو الغزو أوالحصار أوالكوارث الطبيعية او الأوبئة. وفي تقديرنا أن حالة الطوارئ في الدستور السوداني، تتوافق مع التزامات السودان بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
كما يُلاحظ أن الدستور، اشترط لإعلان حالة الطوارئ، أن تعم كافة البلاد، وإن اقتصر الإعلان على جزء منها.
استند إعلان حالة الطوارئ، مثلما ورد في المرسوم الذي أعلنت بموجبه، إلى الدستور وإلى المادة 4 من قانون الطوارئ والسلامة العامة لسنة 1997، ولا نحتاج كبير عناء للقول بأن هذا القانون مخالف للدستور، فقد نصت الفقرة 1 من المادة 4، والتي استند إليها الإعلان،على:-
" يصدر رئيس الجمهورية بموافقة النائب الأول إعلاناً بحالة الطوارئ في جميع أنحاء السودان أو في أي جزء أو أجزاء تعرضت لأي من المخاطر الآتية:
أ: الغزو الأجنبي أو الحصار
ب-: الخطر الحال أو الجسيم الذي يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو أي جزء منه
ج: الأزمة التي تهدد اقتصاد البلاد
د: الحرب أو التمرد أو القتال غير المشروع
و: تعطل العمل أو المرافق العامة
ز: الكوارث الطبيعية أو المجاعة أو الأوبئة
ح: أي حالة أخرى تشكّل في نظر رئيس الجمهورية تهديداً وشيك الوقوع على السودان أو السلامة العامة أو حياة المجتمع أو جزءً عاماً منه."
واضح أن هذه الفقرة وسعّت من الحالات التي حددها الدستور، كسبب لإعلان حالة الطوارئ، إذ منح رئيس الجمهورية في الفقرة الفرعية ح، أن يحدّد، بناء على تقديره الذاتي، بموافقة النائب الأول، أن حالةً ما، وإن لم ترد في الدستور، بل ودون تحديد ماهية الحالة، تشكّل حالة طوارئ. أي أن هذا القانون اتخذ منحىً ذاتياً في تحديد حالة الطوارئ، على خلاف الدستور الذي أرسى شروط موضوعية قابلة للتحقق من توافرها على نحو يمكّن من المراقبة، فماذا سيقول البرلمان، وكيف يمارس دوره الرقابي المنصوص عليه في الدستور، إذا كانت حالة ما " تشكّل في نظر رئيس الجمهورية تهديداً وشيك الوقوع على السودان أو السلامة العامة أو حياة المجتمع أو جزءً عاماً منه" ولا شك أنه وبموجب هذا القانون المعيب فإن من حق رئيس الجمهورية أن يفرض على السلطة التشريعية ما يرى. ولذلك فإن هذه المادة من القانون، إن لم يكن القانون كله، غير دستورية.
وقد صدر هذا القانون قبل إجازة دستور السودان الإنتقالي لسنة 2005، بل وقبل دستور 1998 المعروف بدستور التوالي، والذي يختلف جذرياً عن دستور 2005، في منطلقاته الأساسية، فقد تضمن دستور السودان الانتقالي 2005 باباً كاملاً لضمان الحقوق والحريات، وأنشأ محكمة دستورية ومفوضية حقوق إنسان لمراقبة التزام الدولة بالحقوق والحريات، فضلاً عن أن الدستور الانتقالي 2005، ولو نظرياً، وضع الأساس لمجتمع تعددي ولدولة يسودها حكم القانون، وتلك مبادئ افتقر إليها دستور 1998، والمراسيم الرئاسية التي صدر في ظلها، في ظل حكم عسكري، انقض على حكم ديمقراطي و صادر الحقوق والحريات وقضى على الحياة السياسية. وقد كان من المفروض إلغاء هذا القانون بعد سريان دستور 2005، إلا أن الإبقاء عليه لا يعني دستوريته وصلاحيته.
بعد استعراض مادة الدستور، والمادة من قانون السلامة العامة، اللتين استند عليهما المرسوم بإعلان حالة الطوارئ، نطرح السؤال الجوهري: هل جاء إعلان حالة الطوارئ متوافقاً مع الدستور؟
أعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ بتاريخ 22/2/2019 في خطاب عام بثته على الهواء قنوات تلفزيون محلية ودولية مختلفة، وقد أعلن الرئيس في خطابه حالة الطوارئ لمدة عام في جميع أنحاء الدولة، ولكنه لم يحدد في خطابه الحالة التي حدثت وتهدد سلامة البلاد مما يستدعي إعلان حالة الطوارئ، وهذا، لا ريب، عيب إجرائي يطال الإعلان ويسمه بعدم الدستورية.
فضلاً عن أن عدم تحديد الخطر الذي يهدد الأمة، ويستدعي إعلان حالة الطوارئ، يترتب عليه أن الحقوق التي سيتم تعليقها،سواء أعلن عنها أم لم يعلن، في إعلان حالة الطوارئ ذاته، أم في أعلان منفصل، لنن تكون قابلة للتوقع، فأمام حالة طوارئ تفتقر إلى تحديد ما استدعاها يصبح كل حق عرضة للتعليق، لأن التعليق ينبغي أن يقوم على الحاجة الملحة التي تقتضيها ضرورات الحالة، وفي غياب هذا التحديد، لايمكن معرفة الحاجة التي تستدعي تعليق أو تعطيل حقٍّ ما.
وبتاريخ 22/2/2019 ذاته، وقّع رئيس الجمهورية على المرسوم الجمهوري رقم 6/2019 بإعلان حالة الطوارئ بجميع ولايات السودان والذي نص على:-
"عملاَ بأحكام المادتين 58/1/ز و 210 من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 مقروءة مع أحكام المادة 4 من قانون الطوارئ والسلامة العامة لسنة 1997 أُصدر المرسوم الجمهوري الآتي نصُه:
اسم المرسوم وبدء العمل به
1: يسمى هذا المرسوم مرسوم جمهوري رقم 6 لسنة 2019 بإعلان حالة الطوارئ بجميع ولايات السودان ويعمل به من تاريخ التوقيع عليه
2: إعلان حالة الطوارئ بجميع ولايات السودان لمدة عام
3: تلغى أي مراسيم سابقة متعلقة بالطوارئ ومع ذلك تظل أي تدابير أتخذت بموجبها سارية كما ولو صدرت بموجب هذا المرسوم
4: على جميع الجهات المختصة اتخاذ ما يلزم من اجراءات لوضع هذا المرسوم موضع التنفيذ."
وكما هو واضح لم يرد أي تحديد لحالة الطوارئ في المرسوم.
نخلص إلى أن إعلان حالة الطوارئ المذكور، لم يحدّد الحالة التي تستدعي الإعلان، وتلك مخالفة فادحة وواضحة للدستور، وتكفي لإعلان عدم دستورية إعلان حالة الطوارئ وبالتالي ما ترتب عليها من إجراءات.
تعليق أو تعطيل الحقوق في حالة الطوارئ:
نقلنا سابقاً، في سياق نقاشنا لتوصيف وضبط مفهوم أوفكرة حالة الطوارئ، آراء بعض الدول التي شاركت في بدايات التحضير لصياغة المادة 4 من العهد، وبالتحديد ماورد في الجلسة رقم 127 التي انعقدت في 14/6/1949، وقد سبق هذا الاجتماع، إجتماعٌ عُقد في ذات اليوم، وهو الاجتماع رقم 126 من اجتماعات الجلسة الخامسة لمفوضية حقوق الإنسان (6)، وفي هذا الاجتماع عبرت آراء الدول عن اتجاهات شديدة الإختلاف في البداية، فالولايات المتحدة الأمريكية، لم تؤيد مقترح المملكة المتحدة حول التعليق، إذ رأت الاكتفاء بالقيود الواردة على كل حق في المادة التي تتضمن الحق، ورفضت فكرة وضع مادة تتيح تعليقاً عاماً للحقوق الواردة في العهد كافة. وقد لاحظ الدليل المشار إليه أعلاه، في ص 714 ان مقترح المملكة الذي قُدم إلى لجنة الصياغة المنبثقة عن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والذي نص على تعليق عام يطال الحقوق كافة:-" يعني ضمناً، ان الدول تستطيع أيضاً، عدم التقيد بالإلتزام بتوفير وسائل انتصاف فعالة في حالات انتهاك حقوق الإنسان، وهي وسائل انتصاف ينبغي أن يقع واجب انفاذها على هيئة قضائية مستقلة."، وهنا يقفز للذهن انتهاكات حقوق الإنسان السوداني، التي تمت قبل وأثناء حالة الطوارئ، وصعوبة، إن لم يكن إنعدام فرص، اللجوء إلى القضاء للإنتصاف حيالها، بالذات، في ظل الحصانات الواردو في أوامر الطوارئ كما سنري.
وقد كانت دولتا الاتحاد السوفيتي وأوكرانيا الاشتراكيتين، تتفقان مع الولايات المتحدة، وكذلك كانت فرنسا في البداية ولبنان، بينما أيدت مصر مقترح المملكة المتحدة، كما أيدته، مبدئياً الهند.
بعد ذلك اقترحت فرنسا تعديلات على النص، حيت تم الإتفاق على قائمة من الحقوق التي لا يجوز تعليقها، وعلى ضرورة إخطار الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، كما اقترح الاتحاد السوفيتي تقييد التعليق بالخطر الذي يهدد مصالح الشعب.
وبعد أن مرت صياغة المادة بسلسلة من التعديلات انتهت إلى النص الحالي.
التعليق والتقييد:
بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، قد تتعرض الحقوق والحريات الواردة فيه، للتقييد كما قد تتعرض للتعليق/ التعطيل، ويمارس التقييد والتضييق في الأحوال العادية، ويسمح العهد بذلك وفق شروط معينة، فعلى سبيل المثال نجد أن عدداً من الحقوق تم تقييدها، بعبارات مثل:
ما ينص عليه القانون، ضروري في مجتمع ديمقراطي، حماية الأمن القومي او النظام العام او الأخلاق العامة......إلخ.
ألا أن العديد من المبادئ التي وضعها خبراء اعترفت ببالمبادئ التي وضعوها الأمم المتحد، والسوابق القضائية والخبرة الفقهية للعديد من المحاكم وغيرها من أجسام الرقابة، ضبطت هذا التقييد بوضع قواعد تفسيرية، وبتعريف عبارات التقييد، وسنري ذلك عندما نأتي لمنقشة أوامر الطوارئ، ولا يدخل ذلك في موضوع هذه الورقة.
اما التعليق فيمارس في الأوضاع الاستثنائية ويعطّل الحق تماماً. ولكن ذلك لا يعني أن التقييد والتعليق يمثلان فئتين مختلفتين، ويورد الدليل المسمى " حقوق الانسان في مجال إقامة العدل: دليل بشأن حقوق الإنسان خاص بالقضاة والمدعين العامين والمحامين" في الفصل السادس عشر ص 712:-
" والواقع انه عند إلقاء نظرة أكثر تفحُّصاً، يتضح ان القيود العادية على ممارسة حقوق الانسان، والقيود الاستثنائية التي تتخذ شكل تعطيل، ترتبط إرتباطاً وثيقاً وتؤلف متوالية قانونية وليست مجرد فئتين متميزتين من القيود، ومما يبرز هذه الصلة بجلاء أكبر، انه.............. بينما قد تخضع بعض الحقوق لقيود صارمة اخرى في خالات الطوارئ، يجب أن لا تلغي هذه القيود جوهر الحق المتأصل في الشخص الإنساني. وبعبارة أخرى، لا بد في كل الأحوال من وجود اتصال في الحماية القانونية لجوهر الحق، ومن المهم لكل المشتغلين بالمهن القانونية، ألا تغيب عنهم هذه الحقيقة عندما يتعاملون مع أسئلة عن سلطات الطوارئ التي قد تعيق التمتع الكامل بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية." (7)
ضوابط التعليق
تنص المادة 4 من العهد على:
"1/ في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميا، يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي."
وتمنع الفقرة 2 من المادة تعليق حقوق بعينها في حالة الطوارئ، وهي الحق في الحياة وحرمة التعذيب والاسترقاق والسخرة وعدم جواز سجن شخص لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي ومبدأ شرعية التجريم والعقاب،والحق في الاعتراف للفرد بالشخصية القانونية وحرية الفكر والوجدان والضمير.
وتلزم الفقرة 3 الدولة التي تمارس الحق في التعليق، ضرورة إعلام الدول الطراف في العهد، بواسطة أمين عام المم المتحدة، فوراً، بالحقوق التي علقتها، والأسباب التي دعتها لذلك.
كما تمنع المادة 5/2 من العهد، تقييد أي حق من حقوق الإنسان الأساسية المعترف بها او النافذة في دولة عضو في العهد، بموجب اتفاقيات او نظم أو أعراف ، بذريعة أن العهد لا يعترق بها أو يعترف بها لمدى أضيق.
في ضوء هذه النصوص يمكن القول أن ضوابط التعليق تتمثل فيما يلي:
*انضباط إعلان حالة الطوارئ بالضوابط المذكورة سابقاً، من حيث وقوع الخطر الطارئ، وتهديد الخطر لحياة الأمة، وسبق الإعلان.
* ربطت الفقرة الأولى من المادة 4 التعليق باشتراط، "......... يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع"
وهنا يشترط النص، أن يكون التعليق، مرتبطاً بصرامة، بأضيق الحدود التي يتطلبها الوضع- مبدأ التناسب-، وهذا الشرط، كما ذكرنا من قبل، لا يمكن تحقيقه ما لم تكن الحالة او الوضع الذي استدعى إعلان حالة الطوارئ، محدداً بدقة، حتى يتسنى معرفة الحقوق التي ينبغي تعليق ممارستها في ظل ما يقتضيه الوضع.
وقد ركّزت اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في تعليقها رقم 29 على المادة 4 من العهد، ركّزت على مبدأ التناسب، واوردت في الفقرة 4 من التعليق:-
" ......... بالإضافة إلى ذلك، فإن الحقيقة البسيطة، المتمثلة في أن التعليق المسموح به لحكم من احكام العهد، يمكن تبريره بمقتضيات الوضع، لا يلغي اشتراط أن يدل أي إجراء يتم اتخاذه تبعاً للتعليق، بذاته على ضرورته في ظل مقتضيات الوضع. ويتضمن ذلك، عملياً، ان التعليق المنسجم مع المادة 4، لا يعني عدم انطباق الحكم الذي تم تعليقه، كلية، على مسلك الدولة، وقد عبّرت اللجنة في سياق نظرها في التقارير الدورية للدول، مراراً، عن انزعاجها إزاء القدر غير الكافي من الاهتمام الذي توليه الدول لمبدأ التناسب."
وقد ذكرت اللجنة في الفقرة 5 من التعليق العام المشار إليه، وفي سياق نقاشها لمبدأ التناسب، ان تعليق أحكام العهد، في حالات المظاهرات الحاشدة المصحوبة بأعمال عنف، او عند وقوع كارثة طبيعية، على سبيل المثال، وحتى وإن هددت حياة الأمة، لا تقتضي تعليق حقوق مثل حرية التنقل والحق في التجمع السلمي، حيث رأت أنه يكفي تقييد هذه الحقوق لمواجهة الوضع.
كما رأت اللجنة في ذات التعليق، أن مبدأ التناسب، ينطبق في حالتي التعليق والتقييد.
ويستشف من هذا التعليق، أن اللجنة تتحدث عن تعليق لأحكام العهد، يسبق الإجراءات التي تتخذ – كصدور اوامر الطوارئ في السودان مثلاً-، وربما نجد صدىً في هذا الرأي لما سبق وأن قال به السيد لياندرو في تقريره المشار إليه سابقاً، إذ رأى في سياق حديثه عن مبدأ الإعلان، في ص 9 الفقرة 54، أن ضرورة الإعلان تنبع من وجوب إعلام الشعب بقيام حالة طوارئ، وبالقيود التي ستطال الحقوق والحريات، وكانه يقصد أن يتم في الإعلان تحديد أحكام العهد التي تم تعليقها، قبل الشروع بموجب التعليق في إصدار تشريعات تحدد نطاق التعليق وعقوبات مخالفته، ويبدو أن هذا هو المقصود بالنطاق المادي لحالة الطوارئ.
ولعلّ هذا الفهم يتسق، وما تطلبه الفقرة 3 من المادة 4، من الدولة التي تعلن حالة الطوارئ، إعلام الدول الأطراف في المعاهدة،وفوراً بالأحكام التي علقتها والسبب وراء ذلك التعليق.
*يُشترط كذلك ان تقوم الدولة التي تستخدم المادة 4 من العهد، وفوراً، بإبلاغ الدول الأطراف، بالأحكام التي علقتها والسبب الداعي للتعليق، وتراقب لجنة حقوق الإنسان ما إذا كان التعليق تقتضيه ضرورات الحالة.
* كذلك حصّن العهد الدولي في الفقرة 2 من المادة 4، الحقوق التي ذكرناها أعلاه من التعليق، إلا أن قائمة الحقوق المذكورة في الفقرة 2، قد توسعت لتشمل حقوقاً وحريات اخرى، كالحق في المحاكمة العادلة الذي لم يعد احد يحتج في حيازته وضعية الحق غير القابل للتعليق.
ونود أن نشير هنا إلى تدبير حمائي مهم:
Habeas Corpus
أمر إحضار السجين
وهو تدبير حمائي، هو من الاهمية بمكان نظراً لما يعانيه السودانيون الآن في ظل حالة الطوارئ وقبلها، وهوتدبير الحماية بالوسيلة المسماة " امر إحضار السجين" وقد ورد النص على هذا التدبير في قانون المحكمة الدستورية السوداني، بنسختيه العربية والانجليزية، وورد في النص الانجليزي بالتعبير اللاتيني المعروف والمذكور أعلاه.
وقد ذكر المقرر الخاص في الفقرة 107 من تقريره المشار إليه، أنه يدرج هذا التدبير ضمن الضمانات التي لايجوز تعليقها،لأنه يمثل ضمانة لحماية حقوق لايجوز تعليقها، ويقصد بالطبع حقوقاً مثل الحق في عدم التعرض للتعذيب، فقدو ثبت أن الاعتقال أو الحبس غير الخاضع للرقابة، هو أحد أركان البنية التحتية للتعذيب.
حددت المادة 15 من قانون المحكمة الدستورية اختصاصاتها، وحددت في المادة 16 السلطات التي تمارسها لممارسة اختصاصاتها، وجاء في الفقرة ج من المادة 16:-
"إصدار أي أمر لأي جهة أو شخص لإحضار الشخص المعتقل أو المحبوس أمام المحكمة بغرض النظر في دستورية الحبس أو الإعتقال "
وقد يقال أن ممارسة هذه السلطة يتم في ظل ممارسة احد الاختصاصات، بمعنى أن تتم ممارستها من خلال وجود دعوى قائمة أمام المحكمة، ولكن هذا القول ليس صائباً، فهذا التدبير، وطالما تم النص عليه بالمصطلح المعتمد، فإنه يحمل معنى ما يدل عليه المصطلح، من أنه تدبير عاجل لحماية الحق في الحرية، يتم الاستناد إليه مباشرةً للجوء إلى المحكمة الدستورية، وهي ملزمة بممارسة سلطتها فوراً ودون إبطاء.
وقد زكرت لجنة حقوق الانسان في الفقرة 11 من تعليقها المشار إليه آنفاً ان الحقوق المحصّنة من التعليق بموجب المادة4/2، تتسم بطابع إلزامي، وان فئة القواعد الملزمة تمتد لأكثر مما هو منصوص على تحصينه في الفقرة 2 من المادة 4 من العهد، وانه لا يجوز الاستناد على المادة 4 لمخالفة قاعدة من قواعد القانون الدولي الإنساني، او أي من قواعد القانون الدولى الآمرة، عبر الأسر،على سبيل المثال، أو فرض عقوبات جماعية عبر الحرمان التعسفي من الحرية، او الحرمان من الحق في المحاكمة العادلة.
إن أبشع أشكال الانتهاكات التي وقعت في السودان، قبل وأثاء سريان حالة الطوارئ، تتمثل في الاعتقال التحفظي الذي يسمح به قانون جهاز الأمن لمدة تبلغ مئة وعشرين يوماً دون توجيه تهمة، ودون السماح بمقابلة المحامين، بل أن المعتقلين يتعرضون للتعذيب، وقد ثبت وفاة شخص على الأقل نتيجة للتعذيب أثناء احتجازه بإعتراف السلطات السودانية.
إن كان الدستور السوداني، يسمح بتعليق الحق في الحرية أثناء حالة الطوارئ، إلا أن تدبير الحماية الذي نتحدث عنه لم يرد في الدستور، كما أن لجنة حقوق الإنسان تعتبر الحرمان التعسفي من الحرية مخالفة لقاعدة ملزمة من قواعد القانون الدولي، الأمر الذي يحتّم تحصين هذا التدبير ضد التعليق، ومثل هذا التدبير مهم، ليس فقط في ظل الحالات الاستثناية، وإنما في الحالات العادية، طالما ثمة في السودان قانون أمن وطني يسمح بالاعتقال دون توجيه تهمة أو اشتباه لمدد طويلة، وهذا ما يطلق عليه حالة طوارئ الأمر الواقع.
نقرأ كذلك ضرورة هذا التدبير مع المادة 3 من العهد، التي توجب على الدول، توفير وسائل انتصاف فعالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وهذا الواجب مما لايجوز عدم الالتزام به.
* كما تمنع المادة 5/2 من العهد، تقييد أي حق من حقوق الإنسان الأساسية المعترف بها او النافذة في دولة عضو في العهد، بموجب اتفاقيات او نظم أو أعراف ، بذريعة أن العهد لا يعترق بها أو يعترف بها لمدى أضيق.
والسودان دولة طرف في الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، الذي لم ينص على الحق في التعليق، وبموجب الميثاق مقروءً مع المادة 5/2 من العهد،فليس من حق السودان تعليق الحقوق، حتى في حالة الطوارئ.
في قرارها في الشكاوى أرقام 48و50/1990 و 89/93، المقامة من منظمة العفو الدولية وآخرين ضد حكومة السودان بشأن حالات القبض والاعتقال، التي تمت بعد وقوع الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989، وما تضمن تلك الحالات من انتهاكات كالتعذيب والقتل خارج النظام القضائي، ذكرت اللجنة الأفريقية لحقوق الانسان والشعوب ما يلي:-
" 42 – تؤكد المادة 1 من الميثاق، ان الحكومات ألزمت نفسها قانوناً، باحترام الحقوق والحريات المضمنّة في الميثاق، وأن تصدر تشريعات تضمن إنفاذ هذه الحقوق والحريات، ومع وعي اللجنة بأن الدول قد تواجه اوضاعاً صعبة، إلا أن الميثاق لا يتضمن مادة عامة الانطباق تسمح للدول بالتنصل من التزاماتها في حالات الطوارئ، وبالذات الحقوق التي تتمتع بصفة انها غير قابلة للتعليق.
78- اكدت الحكومة أن قانون السلطات والاجراءات الانتقالية الصادر في 30/6/2019، منع في مادته السابعة، المعارضة السياسية بأشكالها كافة، لنظام ثورة الإنقاذ الوطني، لما يمثله ذلك من تهديد خطير لأمن الدولة وللسلامة العامة، استقلال الدولة ووحدة أراضيها والاستقرار الاقتصادي.
79- وكما ذكرنا أعلاه، فإن الميثاق الأفريقي، لا يتضمن أية مادة تسمح بالتعليق، ويمكننا ان نقول، ان عدم السماح بالتعليق، يمثل تعبيراً عن مبدأ أن التضييق على ممارسة حقوق الإنسان لا يحل المشاكل الوطنية: لا تنطوي الممارسة المشروعة لحقوق الإنسان على أي تهديد لدولة ديمقراطية يسودها حكم القانون.
80- لقد أرست اللجنة مبدأ ان تقييد حقوق الإنسان، متى ما دعت الحاجة إليه، يجب ان يكون استثناءً و يتم في أضيق نطاق، وأن لا يعيق ممارسة الحقوق الساسية المعترف بها في القانون الدولي."
واضح ان اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، تتخذ موقفاً، يضع الديمقراطية وسيادة حكم القانون واحترام حقوق الإنسان، كغاية يجب أن لا تنال منها أية إجراءات تقييدية، وهذا موقف تبنته دولٌ كثيرة ترسخت فيها هذه القيم، ولعل هذا الموقف نابع من استهداء اللجنة بالقانون الدولي والسوابق القضائية الدولية، وفق ما سمح لها به الميثاق في المادة 60 ومثلما فعلت هي في العديد من الشكاوى، ومن بينها شكاوى ضد حكومة السودان.
بالنظر إلى تعامل حكومة السودان مع اللجنة الأفريقية، نجد انها تعاونت في الشكاوى المرفوعة ضدها كافة، بل ولم تمانع في العمل بالتوصيات الصادرة عن اللجنة، سواء في هذه القضايا او بشأن التقارير الدورية عن احوال حقوق الإنسان في السودان والتي قدمتها طائعة. وهذا يدفعنا للقول بأن حكومة السودان عبرت بمسلكها هذا، عن صدور تعاونها مع اللجنة عن قناعة او اعتقاد بأنها ملزمة بهذا التعاون، أي انها ملزمة بالميثاق وقرارات اللجنة، وهذا المسلك الذي يظهر القتاعة بالالتزام، هو ما يعرف في القانون الدولي بمبدأ الاعتقاد بالالتزام. (7)
ننتقل الان لننظر في تنظيم الدستور السوداني للحق في التعليق؟
تنص المادة 211 من الدستور الانتقالي 2005 على:-
" يجوز لرئيس الجمهورية، بموافقة النائب الأول، أثناء سريان حالة الطوارئ، ان يتخذ بموجب القانون أو الأمر الاستثنائي، أية تدابير، لا تقيّد أو تلغي جزئياً أو تحد من مفعول أحكام هذا الدستور واتفاقية السلام الشامل باستثناء ما هو منصوص عليه أدناه:
أ/ تعليق جزء من وثيقة الحقوق، ولا يجوز في ذلك انتقاص الحق في الحياة أو الحرمة من الاسترقاق، أو الحرمة من التعذيب أوعدم التمييز على أساس العرق أو الجنس أوالمعتقد الديني أو حق التقاضي أوالحق في المحاكمة العادلة.
ب/ ..............................
ج/ اتخاذ أية تدابير تعتبر لازمة لمقتضيات حالة الطوارئ."
نلاحظ أن الفقرة أ من المادة أعطت الحق في التعليق، ثم جاءت في الفقرة ج لتتحدث عن تدابير تعتبر لازمة لمقتضيات الطوارئ، ويُفهم من ذلك أن التعليق ينبغي أن يتم اولاً، بمعنى تحديد الحقوق والحريات من وثيقة الحقوق، التي سيتم تعليقها، قبل صدور الأوامر التي تصدر إنفاذاً للتعليق، وهنا يتوافق الدستور مع العهد الدولي.
لم يحصّن الدستور بعض الحقوق غير القابلة للتعليق بموجب العهد، مثل عدم جواز سجن شخص لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي ،والحق في الاعتراف للفرد بالشخصية القانونية وحرية الفكر والوجدان والضمير، رغم أنه أضاف إلى قائمة الحقوق المحصّنة بموجب الدستور، الحق في المحاكمة العادلة الذي لم يرد في المادة 4/2 من العهد.
وثمة قصور يجب الإنتباه له، ألا وهو أن الدستور لم يقيّد التعليق بأضيق مدى تقتضيه حالة الطوارئ وذلك أمر مهم.
في ضوء ما ذكرنا عن العهد الدولي والميثاق الأفريقي لحقوق الانسان والشعوب، نخلص إلى أن حالة الطوارئ المعلنة في السودان غير دستورية لسببين على الأقل:
*لم يتم تحديد الوضع الاستثنائي الذي استدعى إعلان حالة الطوارئ، لا في خطاب الرئيس ولا في المرسوم رقم 6/2019.
* لم يتم اتباع الترتيب المنصوص عليه في المادة 211 من الدستور، حيث صدرت عدد من الأوامر تحظر ممارسة حقوق مختلفة تتفاوت في طبيعتها، دون أن يسبق ذلك تحديد الحقوق التي يطالها التعليق.
* كما نلاحظ عيباً غريباً، فالنص الدستوري الذي يسمح بالتعليق، هو في ذاته يناقض المادة 27/3 من الدستور والتي تعتبر الحقوق والحريات المضمنّة في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها حكومة السودان، جزء من وثيقة الحقوق، وبالتالي، وبحكم أن السودان دولة طرف في الميثاق الأقريقي لحقوق الإنسان والشعوب، فإن النص على التعليق يناقض التزامات السودان بموجب الميثاق مقروءً مع العهد الدولي والمادة 27/3 من الدستور السوداني نفسه.
مع قولنا بعدم دستورية الإعلان، فهل من سبيل للرقابة القضائية على دستورية إعلان حالة الطوارئ؟
الرقابة القضائية على إعلان حالة الطوارئ:
لا خلاف أن إعلان حالة الطوارئ يخضع لرقابة السلطة التشريعية، وقد نص دستور السودان الانتقالي 2005 على رقابة الهيئة التشريعية القومية – مجلس النواب ومجلس الولايات-، ولكن يثور السؤال حول الرقابة القضائية على إعلان حالة الطوارئ، ونجد ان اتجاهاً في الفقه والقضاء يعد قيام السلطة التنفيذية بإعلان حالة الطوارئ مسألة سيادية وسياسية لا تخضع للرقابة القضائية.
ولا نحتاج القول أن القانون الدولي ومع تطوره، أصبح يسمح بمثل هذه الرقابة، سواء من خلال الأجسام الرقابية لمنظمة الأمم المتحدة، مثل لجنة حقوق الإنسان، والمقرر الخاص بشأن حقوق الانسان في حالة الطوارئ، وقد رأينا أن المادة 4/3 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، تلزم الدولة التي تعلن حالة طوارئ تعلّق الحقوق، بإعلام الدول الأطراف في الاتفاقية بالحقوق التي علقتها والأسباب التي استدعت ذلك، وتضمّن تلك الدولة كذلك، تقاريرها الدورية، تقريراً يتعلق بإعلان حالة الطوارئ وما ترتب عليه من إجراءات، بتفاصيل تسمح للجنة بممارسة رقابة على شرعية حالة الطوارئ.
بل صار معلوماً ان المحاكم المعنية بحقوق الإنسان في أوروبا وامريكا، حيث تسمح اتفاقيات تلك الدول، بتعليق الحقوق والحريات في حالة الطوارئ، تمارس رقابة قضائية على مشروعية إعلان حالة الطوارئ.
وإذا كانت الدولة تقبل ان تخضع لرقابة جهة أجنبية- بعد التطور الذي شهده القانون الدولي لحقوق الإنسان بصيرورة الفرد وحقوقه وحرياته محلاً للحماية القانونية الدولية ضد انتهاكات حقوق الإنسان، ودوننا نظام لاوما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي تتمتع باختصاص عالمي لمحاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية- إذا كانت الدولة تقبل بذلك فلماذا ترفض رقابة محاكمها هي ذاتها!!
يبدو أن القضاء في السودان كان يكتفي، في ظل دستور السودان الانتقالي لسنة 1985 والذي حكم فترة الديمقراطية الثالثة التي دشنتها انتفاضة أبريل 1985، برقابة السلطة التشريعية، وقبل النظر في قضايا بعينها، من المفيد ان ننقل من نصوص دستور 1985 بعض المواد التي أشارت إليها تلك الدعاوى:-
نصت المادة 134 من الدستور الانتقالي 1985 على:-
" يجوز لرأس الدولة بالتشاور مع مجلس الوزراء ، إذا قام خطر حال وجسيم يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو أي جزء منه أو يهدد اقتصاده أن يعلن حالة الطوارئ في كل البلاد أو في أي جزء منها حسب مقتضى الحال وأن يتخذ من الإجراءات ما يقتضيها مواجهة ذلك الخطر بما في ذلك تعليق كل أو بعض الحقوق الواردة في هذا الدستور على أنه لا يجوز المساس بحق اللجوء إلي القضاء وتكون لتلك الإجراءات صفة القانون."
كما نصت المادة 125/1 منه على:-
" تكون المحكمة العليا حارسة الدستور وتختص بنظر المسائل الآتية وإصدار القرارات والأحكام بشأنها ومتابعة تنفيذها وفقا لأحكام الدستور والقانون :
تفسير الدستور والنصوص القانونية ،
الطعن في المسائل الدستورية ودستورية القوانين ،
حماية الحقوق والحريات الأساسية التي كفلها الدستور ،
تنازع الاختصاص القضائي ،
الطعن بالنقض وفقا للقانون ،
أية مسائل أخرى يقررها هذا الدستور أو القانون."
في عدد من الدعاوي الدستورية التي نظرتها معاً، الدائرة الدستورية في المحكمة العليا (8)، رأت نخبة من فقهاء القانون وقضاة السودان النوابغ انه وطالما أن إعلان حالة الطوارئ يمثل عملاً سيادساً سياسياً، وقد مارست السلطة التشريعية رقابة سياسية عليه وأجازته، فلا مجال لمخالفته.*
إلا ان عضو الدائرة القاضي العالم والمحامي حالياً، مولانا زكي عبدالرحمن محمد خير، كان له رأي مخالف يتبنى ضرورة ممارسة المحكمة رقابة قضائية على الإعلان، وبرر رأيه بمايلي:
أن الدستور هو مناط سلطات وصلاحيات اجهزة الدولة جميعها، وعلى نصوصه تُقاس سلامة او عدم سلامة تصرفات أي منها.
ليس في الدستور ما يشتمل صراحة او ضمناً ما يضفي على الحكومة بصفتها السياسية، سلطة مطلقة في إعلان حالة الطوارئ. بما يترتب عليها من حقوق وحريات تمثل دعامة الحكم الدستوري السليم، وبمعنى ادق ليس في الدستور ما يعفي الحكومة من رقابة موضوعية تقرر ما يرقى إلى السبب الكافي لإهدار الحقوق والحريات.
ليس في المادة 136 مثل هذه السلطة ولا ما يقرر ان السلطة التشريعية هي نهاية الرقابة.
إن استخلاص أي معنى ضمني، ينبغي ان يأخذ في الاعتبار العواقب الوخيمة والتي قد تؤدي إلى تعديل الدستور او إلغاؤه في أثمن قيمه التي تفرِّق بين الحكم الشمولي والدستوري، وهو ما لا يجوز التسليم به إلا باكثر النصوص وضوحاً وصراحة.
يجب استخلاص تفسير المادة من واقع البلاد في المقام الأول، والناي بالتفسير عما يجعله سنداً لإضفاء سلطة لإهدار القيم الأساسية التي يقوم عليها الدستور إلا لأسباب جدية.
إن وجوب عرض الإعلان على الجمعية التأسيسية، يعني أن الدستور لا يعتبرها مسألة سيادية.
إن إجراءات حالة الطواري وما فيها من نصوص ترقى إلى تعديل الدستور لا يتم تعديلها إلا بأغلبية ستين بالمائة وليس بالأغلبية العادية كما هو في إعلان الطوارئ، وحتى إن لم تعدل هذه الاجراءات الدستور ينبغي إجازة حالة الطوارئ بأغلبية إضافية، وهنا استرشد مولانا زكي، بتقرير صادر عن لجنة فقهاء القانون الدولي في العام 1983، حول تأثير حالة الطوارئ على حقوق الإنسان.
وأضاف مولانا زكي، ان المادة لم تترك تقدير الوضع الذي يقتضي إعلان حالة الطوارئ لراس الدولة، وإنما حدد ضوابط موضوعية تحكم الإعلان، وأن المحكمة بوصفها حارسة الدستور والمناط بها تفسيره، تتمتع بالحق في الرقابة الموضوعية.
وأشار مولانا زكي إلى ممارسات بعض الدول، مثل كولومبيا وإلى بعض أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
نجد أنفسنا في وفاق، مع رأي مولانا العالم زكي، والذي يظهر استهداءً بالقضاء والفقه الدوليين نحن أحوج ما نكون إليه في صناعة دستور يحمي ويرسّخ حقوق الإنسان وسيادة حكم القانون.
وبمقارنة دستور 1985 مع دستورنا الحالي نلاحظ ما يلي:
دستور السودان 1985 صدر قبل انضمام السودان للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، لذا لم يحصّن من التعليق سوى الحق في التقاضي، وليس فيه نص يضع أحكام اتفاقيات حقوق الإنسان المصادق عليها من قبل حكومة السودان في مصاف الأحكام الدستورية، بخلاف الدستور الحالي.
كذلك صدر دستور السودان 1985، قبل إنضمامه إلى الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والذي لا يسمح بتعليق الحقوق تحت أي ظرف، وتقرر لجنة الحقوق الإنسان المنشاة بموجبه فيما إذا كان وضعاً ما يستدعي تقييد الحقوق.
دستور السودان الحالي لم يقم، وحسب، بتضمين الحقوق والحريات الواردة في المواثيق الدولية التي صادقت عليها حكومة السودان، بل انشأ محكمة دستورية مسئولة عن صيانة الدستور وتفسيره، كما أنشا مفوضية لحقوق الإنسان تختص بمراقبة تطبيق وثيقة الحقوق.
كل هذه التطورات، مترافقة مع التطورات في مجال الرقابة على حقوق الإنسان، تدعم، فيما نرى، ما قال به مولانا زكي وتؤكد وجوب أن تنهض المحكمة الدستورية بدور في الرقابة على إعلان حالة الطوارئ.
اعتماداً على ما ورد في هذه الورقة، سنقترح توصيات لدستور المستقبل، فيما يخص تعليق او تقييد الحقوق.
التوصيات:
قبل إيراد التوصيات، لا بد من القول أنها لن تكون مجدية، ما لم تعمل في إطار دولة ديقراطية تقوم على سيادة حكم القانون في مجتمع ديمقراطي، وتحمي وتعزّز حقوق الإنسان بمنظومة لا تقتصر على التشريعات، وإنما تمتد إلى مجال التعليم والفضاء الثقافي.
كما ان هناك قوانين وثيقة الصلة بحقوق الانسان تحتاج مراجعة جذرية، مثل قانون الأمن الوطني، القانون الجنائي وقانون الاجراءات الجنائية، وقانون الطوارئ والسلامة العامة السابق ذكره.
ويمكننا اقتراح الآتي:
1 – اهتداءً بالميثاق الأفريقي، تُستبعد فكرة السماح بالتعليق في أي ظرف.
2- الاكتفاء بالسماح بالتقييد مع مراعاة التناسب بين الوضع الذي يقتضي التقييد والإجراء الذي يتم اتخاذه.
3- النص على سلطة المحكمة الدستورية الأصيلة في حماية حقوق الإنسان وحرياته، وفي كل الظروف.
4- الاهتداء بالسوابق القضائية الصادرة عن اجسام الرقابة والمحاكم المختصة بنظر انتهاكات حقوق الانسان، وعلى وجه الخصوص اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب.
5- أن يكون للمفوضية القومية لحقوق الانسان الحق في إعلان رأي استشاري في أي تقييد للحقوق أو الحريات، وفي أية ظروف، وتلقي شكاوي الأفراد والمنظمات في هذا الصدد.
6- النص على عدم جواز ان يؤدي أي تقييد إلى إهدار الحق، وعلى وجه الخصوص الحق في اللجوء إلى التدابير الحمائية، كطلب الأمر بإحضار السجين، حقوق المعتقل في الاتصال بأسرته ومحاميه وحقه في الرعاية الصحية.
المصادر:
1- Hrlibrary.edu/humsnrightsandstateofemergency
2- UN Document No. E/CN.4/AC.1/3
3- UN Document No. E/CN.4/AC.1/4
4- UN Document No. E/CN.4/SR.127
5- التعليق العام رقم 29، الصادر عن لجنة حقوق الإنسان حول المادة 4 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والذي تم تبنيه في 24/7/2001
6- UN Document No. E/CN.4/SR.127
7- حقوق الانسان في مجال إقامة العدل، دليل خاص بالقضاة والمحامين والمدعين العامين، متاح باللغة العربية على:
www.ibnet.org
وقد اعتمدنا عليه في الوصول إلى وثائق العمال التحضيرية
8- م ع/ عريضة د/ 15/1987
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.