لم يكن مستغربا لدى كثيرين أن يتجه المجلس العسكري الانتقالي بالسودان إلى تشكيل كيان سياسي يعمل من خلاله على إدارة الدولة وشؤون الحكم بعد تباطؤه في تسليم السلطة للمدنيين. ويعتبر مراقبون مخاطبة نائب رئيس المجلس الفريق محمد حمدان "حميدتي" لزعماء الإدارة الأهلية الذين تصدوا لإعلان حزب جديد تحت مسمى "الحزب الأهلي السوداني" بأنها مباركة من قائد قوات الدعم السريع، لنشأة ذلك الكيان وبأنه ربما يمثل السند الشعبي للعسكر للبقاء في السلطة. وكان الفريق حميدتي قد عبر خلال لقائه تلك الرموز العشائرية مساء الأحد، عن ترحيبه بالكيان الجديد، وأنه يعوّل في المستقبل على رجالات الإدارة الأهلية والطرق الصوفية في تحقيق الأمن والاستقرار بالسودان. كيان كبير يوسف هارون فضل الله، عضو الإدارة الأهلية بجنوب دارفور وأحد مؤسسي الحزب، لا يشك مطلقا في أن يجد الحزب الأهلي السوداني قبولا في أوساط السودانيين، لأن هدف تأسيسه هو تجميع السودانيين في كيانات كبيرة بدلا عن انتماءاتهم الحزبية الضيقة. ويقدر فضل الله المشاركين في تأسيس الحزب، بنحو 80% من زعامات الإدارة الأهلية من أنحاء السودان كافة، دون أن ينكر أن غالبية المؤسسين هم من ذوي الولاء القديم لحزبي الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، لكنهم يريدون -والقول لفضل الله- بناء كيان أكبر يتجاوز تلك الانتماءات القديمة. ويشدد أن لا صلة لحزبهم بالدولة العميقة والحركة الإسلامية، وأنهم ليسوا حزبا لقوات الدعم السريع، "لكنهم يحتفون بالقائد الشاب الفريق حميدتي"، لأنه من وجهة نظرهم حقن دماء السودانيين، ويعلن في كل مناسبة معارضته للعنصرية والجهوية. وينفي فضل الله أن يكون استقبال الوفود المشاركة بمعرض الخرطوم الدولي في ضاحية بري خصما من تواصلهم مع بقية ألوان الطيف السياسي، ويقول إنهم يتمتعون بحرية الحركة للقاء جميع القوى السياسية، كما أنهم يعدون العدة للقيام بوساطة بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير لتقريب وجهات النظر بغية الوصول لاتفاق يحقق الاستقرار في البلاد. لا للتسييس ويقول ياسر حسين أحمداي، ملك عموم البرتي إن أي محاولة لتسييس الإدارة الأهلية يخرجها عن دورها المنوط بها في خدمة المجتمع المحلي، لافتا إلى أن بعض منسوبي الإدارة الأهلية دفعوا أثمانا باهظة بسبب ارتباطهم بحزب المؤتمر الوطني، ونتيجة لذلك الارتباط -يقول أحمداي- إن بينهم من قتل أو اعتقل أو فُقد بالحرب في دارفور. من وجهة نظر أحمداي فإن تحويل الإدارة الأهلية إلى حزب سياسي يعد خطأ فادحا، لأن رجل الإدارة الأهلية -برأيه- ينبغي أن يكون فوق الانتماءات كي يقوم بمسؤولياته تجاه الجميع دون أن يكون جزءا من صراعاتهم. ويرفض التعليق على إعلان قيام الحزب الأهلي السوداني، ويقول إنهم لم يتلقوا دعوة بهذا الخصوص، ربما لأنهم يؤمنون بأن تسييس الإدارة الأهلية يضعفها، مثلما أضعفها قرار حلها من نظام الرئيس الأسبق جفعر نميري في مطلع سبعينيات القرن الماضي. نشأة بائرة أبوبكر عبد الرازق، الناشط القانوني والسياسي بحزب المؤتمر الشعبي يحكم على نشأة الحزب الأهلي بالبوار، مستندا في حكمه هذا بقراءته للتجربة السياسية التي يقول إنها أثبتت تجذر الكيانين الطائفيين -الختمية وحزبها الاتحادي الديمقراطي والأنصار (حزب الأمة)- في التربة السودانية. هذا التجذر من وجهة نظر عبد الرازق، لم يمكّن الكيانات الناشئة من المنافسة باستثناء ما أحرزته الحركة الإسلامية والحزب الشيوعي من مكاسب في الساحة السياسية، وإلى حد ما حزب المؤتمر السوداني، ويرى استحالة تجميع الإدارات الأهلية السودانية في كيان واحد. ويمضي عبد الرازق قائلا "من الصعب توقع إحراز الحزب الأهلي السوداني لمكاسب في الساحة، لأن الجذر القبلي الذي يقوم عليه هذا الكيان تتنازعه الولاءات التاريخية من طائفية وأيديولوجية وغيرها. وكل الولاءات الجهوية والقبلية مثل نهضة دارفور ومؤتمر البجا وغيرها، أثبت التاريخ فشلها". ويقول "مع ذلك يمكن لمؤسسي الحزب تسجيله إذا ما لبى شروط قانون الأحزاب لسنة 2010″، مشيرا إلى أن أهم شرط من الشروط هو التزام الحزب بالعمل السلمي. البقاء بالسلطة ويعلق عبد الرازق على مباركة المجلس العسكري لنشأة الحزب قائلاً إن مخاطبة نائب رئيس المجلس لقيادات الحزب تؤكد حقيقة أنهم جاءوا للسلطة بانقلاب وأنهم يسعون للبقاء فيها إلى ما لا نهاية. إذا أراد المجلس العسكري أو قوات الدعم السريع -والقول لعبد الرازق- الحصول على سند شعبي للبقاء في السلطة، فأمامهما خياران إما عقد تحالفات واسعة مع الكيانات الكبيرة، أو تزوير الإرادة السياسية مثلما كان يفعل حزب المؤتمر الوطني. ويقول أستاذ الإعلام بجامعة كردفان الدكتور خليل عبد الله إن إنشاء حزب سياسي في هذا الظرف يزيد من إرباك الساحة السياسية، وإن إعلان تشكيل الحزب الأهلي السوداني هو محاولة من المجلس العسكري الانتقالي لتشتيت جهود قوى إعلان الحرية والتغيير في محاولاتها الرامية إلى نقل السلطة للمدنيين. ويتوقع عبد الله فشل تجربة الحزب معللا ذلك بأن المجتمع السوداني تجاوز الكيانات التقليدية وأن الثورة جاءت لتصحيح المسار بالقضاء على الانتماءات الجهوية والقبلية الضيقة، وأن على العسكر الكف عن كل ذلك والانصراف إلى مسؤولياتهم في حماية حدود الوطن وترك السياسة لأهلها.