المقولة التي يتردد صداها في أوساط الثوار (إن الثورة ثورة وعي) مقولة لا تتحقق بمجرد لفظها ، إنما هي قول يصدقه العمل ، المنطلق من منصة الوعي والعائد إليها لأنه يمثل مرجعية العمل وغايته وهو بهذا التوصيف العامل المحدد للثورة. إذ يقوم علي قاعدة الفهم المفارق للسائد بنقده والثورة عليه. فالوعي في نهاية التحليل هو نقلة من نمط تفكير الي نمط متصور و مختلف نوعيا ، تتبعه ممارسة لا تستدعي إعادة إنتاج السابق، وإنما تنتقده وتتجاوزه لحالة مثلي يصبو الجميع إليها، يمكن القول أن الثورة والوعي هما لازمتين تكمل كل واحدة منهما الأخري. فالثورة هي التغيير بعد الوعي بالحالة ، والوعي لا يظل معلقا في الهواء وإنما تجسده الثورة في الواقع الموضوعي. وقد حذر معظم الفلاسفة وعلماء السياسة من الثورات التي لا يحفزها الوعي، وأخطر من ذلك الثورات التي لا يحرسها الوعي. فالأولى مجرد فورة والثانية مجرد مناورة. وكلاهما يفضيان في الحقيقة الي لا شيئ. بل ربما تجعل الثوار يدفعون أثماناً باهظة. ويذكر التاريخ كيف استبطن الفرنسيون الوعي الذي تراكم من إسهامات فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر ، فقد استلهموا أفكار روسو وفولتير ومنتسيكو ودنس ديدرو ليحددوا بها معالم ثورتهم فقد صارت فلسفة التنوير منصة انطلاقهم، مستمدين من منابعها أسس العقلانية Rationalism التي قررت منذ البدء أن كل مجال عام لابد وأن يخضع لسلطة العقل reasoning ولا يعلو علي النقد بما في ذلك سلطة رجال الدين الذين ظلوا يحتكرون المجال الديني في تحالف فج مع الأمراء والنبلاء من الاقطاعيين فاختاروا لثورتهم شعار (الحرية والمساواة والإخاء ) حيث عنت الحرية لهم التخلص من عبودية الاقطاع. والمساواة قبول أبناء الطبقة الوسطي جنبا الي جنب مع الارستقراطية ورجال الدين. بينما عني الإخاء حصول العمال والفلاحين والموظفين علي سائر الامتيازات التي حرموا منها من قبل. رغم أن الحالة السودانية لا تتكأ علي إرث معرفي تراكمي من خلال أعمال فكرية وفلسفية محددة كما كان شأن نظيرتها الفرنسية ، إلا أنها تتكأ علي مستويات وعي بحالة الظلم والإحباط التي غشت تاريخهم القريب وأخذت تتهدد معالم المستقبل المنظور ، فأخرج الشباب كل ما بداخلهم من مكنون إنساني وأعلنوا أعلي حالات التضامن المجتمعي أثناء الثورة بدأ بالسلمية وتجنب العنف وصولا لحالة تسامح إنساني مع الممكن والمستحيل فيما جسدته ايام الإعتصام بالقيادة العامة ، بل إن الإعتصام نفسه هو تجسيد لحالة وعي مفارق تغشي الثوار من لدن (إلهام إلهي) ما غشي أهل السودان في ثوراتهم الماضية. فقد كان الإعتصام حراسة للثورة من الردة والاختطاف والتغول ، لذلك تمت مواجهته بكل تلك البربرية التي شهدها الجميع ، ثم إن حالة التضامن مع شهداء مجزرة الإعتصام ومفقوديه وجرحاه وكل المتأثرين خلق ما يمكن أن يسمي بالوعي الثوري المطالب بتحقيق العدالة قبل إنجاز اي شئ وهذا ما جسده شعار (العدالة أولا) والعدالة هنا هي معرفة الحقيقة أولا وصولا لأخذ حق الضحايا من مرتكبي جرم المجزرة التي تمت بحق الثوار في 29 رمضان الثالث من يونيو. مهما يكن من شيئ ستظل مطالبة تحقيق العدالة للثوار المغدورين في ميدان الإعتصام وشهداء الثورة وكل المخازي وانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في عهد الإنقاذ رهينة بحالة وعي الثوار بضرورة أن تتقدم هذه القضية علي بقية مسارات التسوية السياسية ، ورفع الضائقة المعيشية، لأن تحقيق العدالة سيسهم في نقلة نوعية علي مستوي ممارسة السياسة في المستقبل القريب. وهذه ما تسمي بالعدالة الإنتقالية والتي تقتضي تكوين هيئة للحقيقة والعدالة والمصالحة أسوة بما حدث في العديد من الدول التي تخلصت حديثا من ربقة نظم مستبدة وأنظمة عسكرية لكشف كل ملابسات إنتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية والفساد المنظم منذ 1989 والي الآن. إن التعويل علي لجنة تحقيق عدلية خاصة حول مجزرة القيادة (حتي وإن كانت مشتركة) في ظل النظام العدلي الراهن الذي ذهب لوصفه الكاتب الصحفي د. مزمل ابو القاسم في عموده للعطر افتضاح بعنوان (تنقلات النيابة.. ماذا هناك ؟): ( بالمعطوب) لا يفضي الي إنصاف الضحايا فضلا عن تحقيق العدالة لهم. إن أي إتجاه لإبرام شراكة مع من تلطخت أيديهم بدماء الشهداء بتسوية سياسية في ظل نظام عدلي يقنن للإفلات من العقاب ، وسيادة ثقافة استجلاب من يعترفون بالاكراه او الاغراء دون اجراء مساءلات ومحاسبات قائمة علي أسس العدالة الانتقالية تقوم بها هيئة خاصة بالحقيقة والعدالة والمصالحة تحدد هوية المجرمين و المحرضين، ستجعل الجراح تندمل علي القيح. د. محمد عبد الحميد