عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (2) التشوه البنيوي يعود الفضل في التحديد الجغرافي للسودان إلى حملة الفتح التركي المصري في عام 1821. فما قبل الفتح التركي كانت البلاد لا تزيد عن سلطنات ومشيخات بلا رابط قومي أو وحدة ترابية. وكان هذا الفتح بداية حقيقية لوعي سياسي قومي نبع عن معارضة الحكم التركي، اكتمل وتجلي في الثورة المهدية ثم تطور وتوسع إبان العهد الإستعماري الحديث، مشكلاً البدايات الحقيقية للحركة السياسية السودانية الحديثة. إذن ومنذ الغزو التركي - المصري وحتى نيل السودان إستقلاله في بداية عام 1956، ليس ثمة أكثر من ثلاث علامات مرجعية يمكن أن نعتبرها أسسا مرجعية للحركة السياسية السودانية الحديثة وللتيارات التي انتظمتها، وهي: العهد التركي- المصري الذي دام أربعة وستين عاماً (التركية السابقة1821-1885) وهو مرجعية التيار الاتحادي العروبي الثورة المهدية (1885 – 1898) وهي مرجعية التيار الديني, العهد الإستعماري الحديث الذي دام ثمانية وخمسين عاما (1898- 1956) وهو مرجعية الاتجاهات الحداثية العلمانية. نشأ عن هذه المرجعيات التي ليس بينها تاريخياً سوى علاقثة الاجتثاث، هذا الإستقطاب السياسي الحاد وذلك التباعد والتضاد فيما طرحته أجنحة الحركة السياسية السودانية من رؤى لمستقبل السودان. إذ ليس للعلاقة بين مرجعيات أجنحة هذه الحركة السياسية سوى توصيف واحد وهو أنها قد كانت علاقة إجتثاث، وليس علاقة إفضاء. وثمة تشوه بنيوي آخر يتعلق بالبنيات الأساسية للحركة السياسية السودانية، ولكنه لا يرتبط بالمرجعية التاريخية للحركة السياسية الوطنية كما عرضناها أعلاه، وإنما يرتبط بالظروف والعوامل التاريخية التي لم يكن للحركة السياسية الوطنية يد فيها. فهذا التشوه الثاني يكاد يكون قدرا تاريخيا علينا أن نعيه ونتعامل معه وندرك نتائجه. وخطورة هذا التشوه البنيوي الثاني تكمن في تأثيره السلبي علي المنظومات المفهومية الخاصة بالوطن والمواطنة والقومية والهوية. فالثابت تاريخيا أن أي من العهود التاريخية السودانية الحديثة الثلاث، التركية والمهدية والإستعمار، لم يكلف نفسه عناء تطوير البلاد من خلال آليات التطور التلقائية من اجل بناء الدولة القومية. فلم يفلح أي من هذه العهود في أن يتطور من المرحلة العسكرية الفجة، مرحلة الغزو في الحالة التركية ومرحلة الثورة في الحالة المهدية ومرحلة الفتح في حالة الاستعمار الثنائي. ولتوضيح هذه الفكرة أكثر، نعقد مقارنة بسيطة بين مصر والسودان من ناحية تطور نظم الحكم خلال نفس الفترة الزمنية الممتدة من الغزو التركي عام 1821 ألى خروج الاستعمار الثنائي عام 1956. فبينما تعاقبت على السودان ثلاث عهود تاريخية ذات طبيعة حكم مختلفة، لا رابط بينها سوى علاقة الإجتثاث من عهد لآخر، نجد أن مصر قد ظلت طوال هذه الفترة البالغة مئة وخمسة وثلاثين عاما، تحت نظام حكم واحد هو حكم أسرة محمد علي باشا، الذي بدأ عسكرياً صرفاً ثم تحول إلى ملكية إقطاعية، ثم تحول في خمسينيات القرن الماضي إلى ملكية دستورية ذات نظام حكم ديمقراطي تعددي. فبينما ظل السودان طوال هذه الفترة يعود مرة تلو الأخرى إلى نقطة الصفر والمرحلة العسكرية (الغزو التركي - 18821 والثورة المهدية - 1885 والفتح الإنجليزي – المصري 1898)، ظل نظام الحكم في مصر يترقي ويتطور ويثري التجربة السياسية المصرية ويؤسس لمفاهيم الوطن والقومية والمواطنة بصورة سليمة. وبسبب علاقة الاقصاء والاجتثاث بين مرجعيات أطراف الحركة السياسية السودانية، فإن التصورات التي طرحتها الحركة السياسية السودانية تجعل من كل تصور لمستقبل البلاد، بنية مغلقة علي ذاتها ومستقلة وذات مسار خاص. والغريب في الأمر، أن هذه التصورات قد تبادلت التجلي والغياب علي واجهة الحياة السياسية في السودان لدرجة أن كل تيار منها قد حقق الدولة التي يسعى لاقامتها في السودان، مرة واحدة، على الأقل في تاريخ السودان الحديث. فقد تحققت في السودان الدولة الحداثية العلمانية التي جاءت مع الاستقلال. فانجزت دستورها، وهو دستور السودان المؤقت لعام 1956م، وأقامت مؤسساتها وطبقت نوع سلطتها، وهي السلطة الديموقراطية البرلمانية، ووضعت سلمها التعليمي، وهو ما عرف بسلم بخت الرضا القديم. فهذه كانت هي دولة التيار الديموقراطي المدني التي تكرر تجليها ثلاث مرات، مرة عقب انتهاء الحكم الاستعماري 1956م ومرة ثانية عقب انتهاء الدكتاتورية العسكرية الأولى 1964م ومرة ثالثة عقب انتهاء الدكتاتورية العسكرية الثانية 1985م . هذا التكرار لتجلي الدولة الديموقراطية العلمانية، يجعل منها نقطة ارتكاز، أو لنقل فترة استراحة واستعداد للنزال بين التياريين السياسيين الكبيرين. وبالمثل فقد حقق التيار الإتحادي العروبي الدولة التي يصبو لها في بداية سنوات إنقلاب جعفر نميري في مايو 1969م. وتحقق لتلك الدولة الإتحادية العروبية دستورها، وهو دستور مايو لعام 1972م، ومؤسستها الإشتراكية وسلمها التعليمي، وهو ما عرف بسلم محي الدين صابر التعليمي. أما التيار الديني فنحن نعاني الآن من زيول دولته التي بلورت دستورها ومؤسستها الدينية وسلمها التعليمي والتي لا تزال البلاد تعاني من تدعيات فترة حكمها الطويلة. الآفة الثانية هي توالي إسقاط وإستبدال السلطة وهي بعد فجة لم تتجاوز مرحلة صياغة الشعارات. فقد أوجد هذا سياقا سياسياً تكراريا ضاراً لأبعد الحدود لنمو الشعور الوطني والولاء للوطن. فقد صار الوطن (الوطن المؤقت كما صار الوطن السلطة). فحيث أن مفاهيم الوطنية والمواطنة تظل عرضة للتبديل المستمر مع تبدل السلطة، وحيث أن السلطة في السودان هي أبدا سلطة مؤقتة فان المواطنة تصير هي الأخرى، مؤقتة ومرتبطة بالسلطة. فأنت مواطن صالح ولك كل حقوق المواطن في هذه السلطة المعينة، ولكنك مارق وخائن وعدو للوطن في ظل السلطة التي تأتي بعدها. وهذا أمر غاية في الخطورة لأنه يضعف قدسية الوطن في أذهان العامة.