يعلق الكثيرون ممن يتابعون قضية دارفور أمالاًً عريضة لمنبر الدوحة في قطر فيما يتعلق بعملية السلام في دارفور نسبة للجهود الجبارة التي تبذلها قيادة دولة قطر في سبيل لم شمل أطراف القضية و من ثم مساعدتها للوصول الي صيغة سلام شامل ينهي معاناة اكثر من سبع سنوات يتعرض لها سكان دارفور. و لابد أن يكون ذلك أمنية كل واحد فينا خاصة الذين لهم صلات بدارفور بشكل أو بآخر حيث أن الحياة في دارفور لا تطاق: موت يومي للأطفال و كبار السن، قتل مباشر لكل من تسول له نفسه للخروج من معسكر، حياة النازحين اليومية لا توصف خاصة بعد طرد المنظمات الإنسانية و ما إلي ذلك من صور الحياة المؤسفة التي يعيشها المواطن في دارفور. و قد تعلقت أمالاً أكثر علي منبر الدوحة خاصة بعد التوقيع علي الإتفاق الإطار بين حركة العدل و المساواة بقيادة خليل و الحكومة السودانية بغية أن يهدي الي إتفاق شامل ينهي مشكلة دارفور بسلام شامل و ذلك بالرغم من محدودية القضايا التي تضمنتها الوثيقة بالنسبة الي القضايا الشائكة التي تشكل قضية دارفور ذات الجذور العميقة. و قضية دارفور أعقد و أعمق بكثير مما تتراءي للكثير من الناس فهي متشعبة و متجذرة فمن بعض جوانبها تجدها سياسية و أخري إقتصادية تنموية و ثالثة إجتماعية ترتبت علي الأوليين. و أعظم من ذلك كله، فإن الطريقة التي تعاملت بها الحكومة السودانية مع المعارضة في دارفور تدل علي عمق المشكلة، فكأنَّ الحكومة كانت تنتظر هذه الفرصة لتطبيق سياسة الأرض المحروقة علي كل الريف في دارفور التي أكلت الأخضر و اليابس بالإضافة الي حرق القري و تدمير كامل لمصادر المياه و زرع الألغام و مصادرة البهائم و كل ما له قيمة و ذلك بواسطة الجيش و القوات النظامية من جهة و مليشيا الجانجويد من جهة أخري. و من صور تعميق المشكلة في دارفور جلب الأجانب و توطينهم في حواكير الآخرين و تجنيسهم و الاهتمام بهم. فهؤلاء أصبحوا - من حيث لا يدري الكثيرون - جزءأًً من المشكلة ولا شك في أن حل هذه الجزئية ليست بالأمر السهل حيث لا بد من نقلهم الي خارج دارفور حتي يستطيع أهل تلك الحواكير من إعادة الحياة الي أراضيهم و حواكيرهم في حالة الوصول الي سلام آمن و عادل و شامل. و موضوع الحواكير في دارفور قد لا يفهمه كثير من الساسة حتي في السودان؛ فهو نظام تأسس عندما كان دارفور دولة مستقلة و موروث منذ مئات السنين بحيث لا يستطيع أي نظام إزالته بأي صورة من صور. فهذا النظام قد قسَّم جميع أراضي دارفور الي قطع التي سميت بالحواكير ذات حدود محددة الي القبائل: فأنت لا تجد مكاناً في دارفور ليسب تابعة لإحدي القبائل علي طول و عرض حدود دارفور. و لهذا السبب فقط قد فشلت كل المحاولات التي بذلتها الحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال لتوطين بعض عرب الرحل في شمال دارفور. و لكن بالرغم من ذلك النظام المحكم للحواكير في جميع أنحاء دارفور، إلا أن حق الرعي و الزراعة و المسارات و المراعي و إستغلالها إقتصادياً و إجتماعياً في الإقليم هو حق للجميع و لا يكاد المرء أن يجد مثالا واحدا لقيام قبيلة واحدة بمنع آخرين من الإنتفاع بالحقوق المذكورة. صورة أخري من صور تعمق قضية دارفور هي موضوع مليشيا الجانجويد. و من المعروف أنها هي الأداة الرئيسية التي تم إستخدامها في حرق الريف في دارفور. و هذه المليشيا هي الأن الهدد الأول للأمن في جميع ربوع دارفور إبتداءً من الهجوم علي معسكرات النازحين في الداخل إلي خطف الأجانب الذين يعملون في المجال الإنساني في ظروف قاهرة و قاسية. و لا يمكن تصور إحلال السلام العادل و الآمن في ربوع دارفور دون حل موضوع الجانجويد. و لأن موضوع الجانجويد قد أرتبط بجوانب أخري من القضية مثل المحكمة الحنائية الدولية فإن البحث فيه أمر ليس بالسهل. سببٌ آخر من أسباب تعقد المشكة في دارفور هو أن الحكومة لم تضع بعد حل مشكلة دارفور ضمن أولوياتها الإستراتيجية بل في كل مراحل السعي إلي حل المشكلة من قبل الحكومة فهي إنما بحثاً تكتيكياً مرحلياً و ليس غايةً تنهي معاناة أهل دارفور. فهي تغيث أهل فلسطين و لبنان و اليمن بكل وسائل الإغاثة و لكنها تضنُّ لأهل دارفور بأقل المساعدات. و ليتها تكتفي بذلك بل تطرد المنظمات الإنسانية التي تأتي من وراء البحار لتعالج الأطفال و العجزة و النساء و تطعمهم. و حكومة تفعل كل هذا، ليست جاهزة أبداً لحل مشكلة دارفور و لكنها تتحدث بملئ فيها عن العودة الطوعية للنازحين الي ديارهم لممارسة حياتهم الطبيعية بأمن و سلام!! و من هنا تأتي مسئولية حركات دارفور المسلحة و جميع أبناء دارفور في الداخل و الخارج عل حد سواء تجاه قضية دارفور و إنسان دارفور الذي قضي أكثر من سبع سنين في العراء سواء كان في معسكرات النازحين في الداخل أو اللاجئين في الخارج بأن يعطوا الأولوية ليست لأنصاف حلول - لا تسمن و لا تغني من جوع - بل لوحدة الصف لأبناء دارفور و حركاتهم المسلحة التي عانت و تكسرت من ضعف ناتج من الفرقة والشتات . فبدلاً من تكرار أبوجا فدعونا لا نلدغ من الجحر أكثر من مرة. فحتي لا تكون الدوحة صورة مكررة من أبوجا، دعونا نراجع أنفسنا و ننظر الي الصورة التالية: نظرة العرب الي قضية دارفور هي نظرة قاصرة حيث أنهم لا يرون في قضية دارفور إلا ما يراه نظام الخرطوم. و قضية بحجم مشكلة دارفور تحتاج الي وسيط يؤمن بالعدل أولا. و ثانيا يجب أن يتحلي الوسيط بمعرفة تامة بالتنوع الإثني و الإجتماعي و السياسي في المجتمع و أن يتصف بالإدراك التام بماهية الوحدة في التنوع و القبول بالآخر دون تعال أو تهميش. و حسب رأينا المتواضع، فإن هذه الأمور لا تتوفر لا في دولة قطر و لا في أي دولة عربية أخري و لذلك فإن الحل النهائي لقضية دارفور سوف لن تأتينا من الشرق فمها بذلت من الجهود و لابد لحركات دارفور المسلحة و كل الحادبين للقضية أن يدركوا هذه الحقائق ليتعاملوا مع مبادرات التي تهدف الي حل هذه القضية بموضوعية. كلنا يعلم الي أين أنتهت إتفاقية أبوجا منذ عام 2006. و بالنظر الي إتفاق الإطار الذي وقعه حركة العدل و المساواة مع الحكومة في شهر فبراير الماضي فإن السلام العادل و الشامل يظل بعيد كل البعد من متناول أهل دارفور: فالبند الأول في الإتفاق و الذي ينص علي وقف إطلاق النار قد تم خرقه في نفس اليوم حيث ضربت طائرات الجيش الحكومي علي مواقع لحركة العدل و المساواة في غرب دارفور. و مواضيع البنود الأخري مثل تبادل الأسري بين حركة العدل و المساواة و الحكومة بالرغم من أنه أمر حسن أن يكون بعض أبناء السودان (من الطرفين) سوف يكونوا طلقاء، إلا أن هذا البند هو نتيجة مترتبة علي المشكلة و لا يشكل أيا من الأسباب الرئيسية التي أدت الي نشوب قضية دارفور. و الحكومة في كل الإتفاقيات تتفادي الخوض في علاج جذور المشكلة. و بما أن الأن هناك مجموعة من حركات دارفور المسلحة قد توحدت في قطر تحت إسم حركة التحرير و العدالة فلتكن الأولوية لهذه المجموعة هي أن تتفاوض مع الحركات الأخري من أجل مزيد من التوحد و ذلك ببذل أقصي جهد ممكن و ذلك لا يتأتي إلا بتفان و وضع دارفور في نصب الأعين و ذلك بالزهد و الإيثار فلأن ننهزم مجتمعين و متحدين أكرم و أرحم و أعزُّ من أن ننتصر فرادي لحين و نتشاجر بقية الدهر. و لا بد من أن نعتبر من التجارب الماثلة أمامنا. فاليكن هدفنا في المقام الأول هو توحيد الصف مهما كانت خلافاتنا في سبيل نصرة الضعفاء الذين يعانون في اليوم الواحد ألف مرة. و إذا إستعصي علي الأخوة في حركة التحرير و العدالة توحيد الصف مع الحركات الأخري، فلتكن هناك أرضية مشتركة من أجل وضع إستراتيجية واضحة للحل الشامل و إشراك كل الأطراف والتفاوض بوفد واحد. إذاً فالمطلوب إذاً من حركة التحرير و العدالة الوليدة أن تتواضع في تقييمها لمنبر الدوحة و ألا تنخدع ببعض المناصب و تذهب الي ما ذهب اليه الأولون. و أن تولي الأولوية لمخاطبة الحركات الأخري – بخطاب مرن و عقل مفتوح و صدر رحب - بدلاً من البحث عن أبوجا ثان أو ثالث لأنها تنتهي الي نفس النتائج التي إنتهي إليه السابقون. و عندها سوف نبحث عن نقطة بداية أخري تبدأ من صفر و قد تستغرق مدة أطول مما يتوقعه الكثيرون. و عند الصباح (فقط)، يحمد القوم السري. Siddig Nour [[email protected]]