إن صورة سامر بشرى طالب الصف الثاني الثانوي الملقى على قارعة الشارع يحيط به أسدان من أسود القضارف يتأهبان للخروج به من دائرة الخطر ، تلك الصورة التي انتشرت انتشار نار الثورة في هشيم الإنقاذ ، قد أسهمت في زيادة غليان مرجل الحراك في ربوع الوطن . نجا سامر بحمد الله نتاج فعل الأطباء وسند المغتربين الأبطال المجهولين ، لكن تسعة آخرين أصيبوا مع سامر في ذات يوم 20 ديسمبر 2018 ، بمدينة القضارف ، استشهد معظمهم في ذات اليوم ولحق بهم الآخرون تباعا ، وسقط العشرات من الجرحى جراء عنف النظام المفرط . بعد انطلاق الثورة في الدمازين وسنار وعطبرة ، كان الشك لا يزال يساور الكثيرين ، لكن القضارف بهبتها العارمة الممهورة بالدماء الزكية الغزيرة أكدت أن ما يحدث في السودان إنما هو ثورة حقيقية وأننا على وشك طي صفحة الإنقاذ الدامية . لم تكتف القضارف بشرف البدايات البواسل ، بل ظلت حاضرة في المشهد الثوري عبر مواكبها التي ووجهت بالقمع المستديم ، وكان موكب القصاص للشهداء في 8 ينار إضافة كبرى للتراكم الثوري ورافع للروح المعنوية على مستوى السودان ، كما أن مساهمة القضارف في مليونية 30 يونيو كانت مدهشة واجهها القمع الأضخم مقارنة بالمدن الأخرى مما أدى إلى ارتقاء الشهيد سيف الدين عبد العال والكثير من الجرحى . وكان للقضارف اعتصامها أمام بوابة الفرقة الثانية مشاة ، كما سيرت موكبا قوامه حوالي 20 بصا داعما لاعتصام القيادة العامة بالخرطوم ، بل زفت أحد شهدائها ، شهيد الفاو أحمد عدلان محمد عدلان ، في أحداث فض اعتصام القيادة العامة ، وقدمت الشهيد مصطفى رابح في ثورة المتاريس بعد فض الاعتصام . لم يقتصر الحراك الثوري على المدينة بل أسهمت محليات الفاو والشواك وقلع النحل والرهد والقلابات وباسندة وغيرها بدرجات متفاوتة . وكانت الثورة نتاج لتوالي الظلم والكبت طوال سنوات الإنقاذ العجاف من ناحية ، و لتراكم الفعل الثوري للقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وحركة الطلاب والمهنيين من الناحية الأخرى . تميزت القضارف ، في عام الثورة بالذات ، باستمرارية العمل السياسي التحالفي دون انقطاع عبر قوى المعارضة السودانية ابتداء من فبراير 2018 وحتى اندلاع ثورة ديسمبر حيث تمت الدعوة لموكب 8 يناير باسم "قوى المعارضة السودانية بالقضارف" ، لكن سداته وقوته المحركة كانت لجان المقاومة التي تخلقت في خضم الثورة . لم يكن اعتقال المئات سيجدي في إيقاف المد الثوري المتصاعد ، ولم تجد محاكم الطوارئ نفعا ، فقد حصد الرصاص الأرواح فزاد هدير الثوار ، لقد انكسر حاجز الخوف مرة واحدة وللأبد وخرج الشعب من قمقمه بلا عودة . إن بداية ثورة ديسمبر من الأقاليم لهو أهم سمات هذه الثورة السلمية الشيء الذي يعني عمليا البداية الحقيقية لإنهاء التهميش والتنمية غير المتوازنة التي سادت البلاد طوال عهد الإنقاذ بل وكل العهد الوطني والذي تم وضع أساسه في الحقبة الاستعمارية البغيضة . في ثورتي أكتوبر 1964وأبريل 1985 كانت مشاركة الأقاليم لاحقة بعد الخرطوم ، وشاركت القضارف في كلتيهما وامتطى ثوار القضارف قطار كسلا انتصارا لثورة أكتوبر بالخرطوم ، كما شاركت في انتفاضة مارس أبريل 1985 . لكن مساهمة القضارف في ثورة ديسمبر 2018 الظافرة لهو أكبر بما لا يقاس بمساهمتها في الثورتين السابقتين فقد كانت مُبادِرة وسباقة كما مهرتها بدماء غزيرة هي الأكبر مقارنة بولايات أخرى . واختلفت القضارف في تكوين قوى إعلان الحرية والتغيير ، إذ أن نواتها كانت قوى المعارضة السودانية التي كانت تضم تسعة أجسام سياسية ، وانضاف إليها تجمع المهنيين ولجان المقاومة ، وتتميز القضارف هنا عن الخرطوم بتوهط لجان المقاومة كشريك أساسي في قلب التحالف . كما أن تجربة القضارف في اختيار الوالي كانت متميزة أيضا ، تم فيها توسيع دائرة المشاركة وإعمال مبدأ الشفافية ، وهي مبثوثة في الأسافير خطوة بخطوة . ولا تزال تنتظر القضارف مهام جسام تتمثل في تشكيل حكومة كفاءات تحظى بالرضى بين سكان الولاية وتعمل وفق برنامج متوافق عليه لتضطلع بمهام ضرورية منها تطهير الخدمة المدنية من بقايا نظام الإنقاذ والقصاص للشهداء والجرحى والمتضررين ، وبناء السلام الاجتماعي وإحسان إدارة التنوع ، وإرجاع التوازن البيئي بإعادة الغابات والمراعي ، وحل مشاكل المتأثرين بسدي عطبرة وسيتيت وإنصافهم ، وحل مشكلة العطش المقيم بأنحاء الولاية ، والنهوض بالزراعة والصناعات التحويلية . إن ثوار القضارف والقوى الحية المتحالفة في قوى إعلان الحرية والتغيير استطاعت قيادة الولاية في ظرف متغيرات الثورة ، ولن تكون هذه القيادة قادرة على العبور بالولاية إلى رحاب المدنية إلا إذا ظلت مصلحة الوطن هي المُقدّمة على المصالح الحزبية والشخصية الضيقة . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ///////////////////