تمر علينا اليوم الذكرى الأولى لثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بأحد أعتى الدكتاتوريات في القرن العشرين، تلك الدكتاتورية التي تميزت، بجدارة، عن غيرها بأنها جمعت بين القمع والعنف والإبادة الجماعية، والتطرف، والنفاق الديني، والكذب والوقاحة، والعهر السياسي، والفساد الذي لم يسبقهم عليه أحد من السابقين والتابعين– وتطول القائمة لتشمل ما تعجز لغات البشر عن بيانه. وكل ذلك باسم الله، وهو عزّ وجل، منزه عما اقترفوه باسمه. في رحاب هذه الذكرى الأولى، ونحن نترحم على أرواح شهدائنا الأماجد ونشد من أذر أسر الشهداء والجرحى ونرفع لهم القبعات اجلالاً وتقديراً، يتعيّن علينا أن نتأمل فيما جرى لنقف على طبيعة التغيير الذي أحدثته هذه الثورة: هل ينحصر ذلك في مجرد الإطاحة بالنظام الدكتاتوري أم أن الأمر يتعدى ذلك بكثير؟ لكي نجيب على هذا السؤال في سياق بلد معقد التركيب مثل السودان، دعونا نرجع الى الوراء لنستقرئ ما كنا عليه ليس في عهد النظام المحلول فحسب، بل ما قبل ذلك. في رأيي المتواضع، اعتقد أنه، لأغراض هذا السياق، يمكننا أن نقسم تأريخ السودان – الذي عرفناه حتى انفصال الجنوب في عام 2011 - إلى مرحلتين أساسيتين امتدتا عبر حقب تاريخية مختلفة: المرحلة الأولى هي السودان القديم بتسمياته المختلفة وقبائله الممتدة لآلاف السنين من النوبة شمالاً إلى القبائل النيلية جنوباً. المرحلة الثانية تتمثل في الهجرات العربية المختلفة، قبل الإسلام وبعده – وهي تشمل الهجرات أثناء فترة الأندلس وبعد سقوطها، التي حدث من خلالها تزاوج بين العرب المهاجرين وبين أهل السودان القديم، وقد شمل ذلك الهجرات من شمال إفريقيا إلى مناطق غرب السودان وحدث نتيجة لها تزاوج ولقاح ثقافي بديع نراه في أهازيج وأغاني بعض القبائل في مناطق الغرب. أسفرت المرحلة الثانية عن التركيبة السكانية والثقافية المتنوعة التي نراها اليوم. وقد تميزت هذه المرحلة، بحقبها وتعقيداتها وتداعياتها المختلفة، بهيمنة المركز على بقية أجزاء البلاد. وكما ذكرت في مقال سابق، لم يكن الكثير من أهل المركز أفضل حالاً من أهل الهامش، بل كان الكثير من أهل المركز أكثر تهميشاً من أهل الهامش. ولكن الذي حدث أن هناك نخبة من أهل المركز، بجانب نخبة من أهل الهامش أيضا - كما هو الحال في حزب الأمة الذي يذخر بالكثير من النخب والقيادات من أهل الهامش – أضحت مهيمنة على العملية السياسية في البلاد. أدى ذلك إلى تركيز التنمية والسيطرة في الوسط أكثر من غيره، وهو أمر كان قد كرّسه الاستعمار الإنجليزي في المقام الأول. على أيةحال، استمرت هذه النخب في تكريس وتكرار ذات الأخطاء، الأمر الذي أدى إلى اتساع الشقة بين الوسط والهامش وامتد ذلك ليصبح شقاقاً نفسياً واثنيا أدى إلى انفصال الجنوب وإلى حركات مسلحة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، بل أيضاً في شرق السودان. ولا يفوتنا هنا أن نقول إنه إذا كانت الأنظمة السابقة قد ارتكبت هذه الأخطاء من باب الإهمال وقصر النظر السياسي – علاوة على تداعيات الحقبة الدكتاتورية الطويلة لنظام جعفر نميري، فإن ما ارتكبه النظام المحلول في هذا الشأن من منطلق الأجندة الانكفائية والعنصرية واستحلاله للبلاد والعباد لا تكفي مجلدات لوصفه. عندما اندلعت هذه الثورة، كانت البلاد منقسمة من كافة النواحي، نفسيا وعرقيا وسياسيا ودينيا، وتموج بالأحقاد والمظالم بمختلف أنواعها وأسبابها. بلد منكوب تمزقه مسائل الهوية ويفتقد إلى اللحمة الوطنية بين مكوناته الإثنية. كانت الإبادة الجماعية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وفظائع بيوت الأشباح في الخرطوم وغيرها من المدن، وجرائم الفصل التعسفي لمئات الآلاف من العاملين، والكثير غير ذلك من الجرائم والآثام، تخيم على حياة ملايين السودانيين في البلاد والشتات. وعندما هتف صناع الثورة في شوارع الخرطوم "يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور،" كان الفتيان يتصببون عرقاً في هجير الصيف، وكانت الفتيات يمشين أميالاً وأميالاً يتصببن عرقاً وأرجلهن مغبرة. عندما أطلقوا هذا الهتاف، التحموا معاً، وبهم التحمت البلاد، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً – يقتسمون اللقمة وشربة الماء، ويواجهون الرصاص ويحمون بعضهم البعض في مشاهد بطولية وجسارة ونكران ذات لم يرها العالم من حيث الكيف والكم. عندما أطلقوا هذا الهتاف، ارتعدت فرائص الحرس القديم! وهم يرقبون برعماً ينمو ينبئ بميلاد أمة، بسودان جديد، صنعه جيل جديد منعتق من تخلف الماضي وعنصريته وتداعياته. لممثلي الحركات المسلحة الذين يجرون المفاوضات هذه الأيام أقول، ونحن نتأمل دروس هذه الثورة المجيدة في ذكراها الأولى، أن ما حدث ليس مجرد ثورة عظيمة أطاحت بنظام دكتاتوري جثم على صدر البلاد لثلاثة عقود، وإنما هو ميلاد أمة تذخر بكل مكونات العظمة والشموخ، وأنتم بلا شك جزء من هذه المكونات. انها ثورة تنبذ تداعيات الماضي الذي ما حملتم السلاح الا لمحاربته، وتشكل فرصة تاريخية، وربما الوحيدة أو الأخيرة، لكي ندمل جراح الماضي، ونستشرف آفاق المستقبل وفق رؤية وطنية موحدة تتسم بالواقعية دون أن تستثني الطموح، وتستصحب ثقافاتنا وأعراقنا وأدياننا المختلفة لتنصهر في بوتقة واحدة تتمخض عن وطن عملاق تحتذي الأمم بتجربته. فكما انعتق الجيل الذي صنع الثورة من الاختلالات التي تأخذونها على الماضي وقدم مئات الشهداء في سبيل ذلك، آمل أن تنعتقوا كذلك وتدركوا أنكم بصدد فجر جديد اما أن تشرق شمسه وتعم أرجاء البلاد، واما أن يحل ظلام دامس لن تشرق الشمس بعده أبدا. انها حتماً الفرصة الأخيرة: الكرة في ملعبكم والتاريخ يرقبكم ويسجل مواقفكم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.